أقلام وأراء

الدكتور عاطف ابو سيف يكتب – الديمقراطية العربية: تعثر آخر..!

بقلم الدكتور عاطف ابو سيف – وزير الثقافة الفلسطيني 2-8-2021م

يثير ما يحدث في تونس السؤال مرة أخرى حول مستقبل الديمقراطية في الوطن العربي، ويشير بصورة أكثر خصوصية إلى مآلات ما كان يعرف بـ»الربيع العربي». ففي البلاد التي تفجرت فيها ينابيع هذا الربيع، وانهار أمام المد والمطالب الشعبية أول نظام تسلطي عربي أيضاً، ها هي التجربة الديمقراطية تتراجع وتشتبك أطراف عملية التحول الديمقراطي، ويتم تعليق عملية التحول تلك. ثمة أمر مثير في كل ما يجري في تونس. وهو مثل كل شيء له من يؤيده وله من يعارضه، لكن المؤكد أن ثمة مشهداً سياسياً ديمقراطياً كان يمكن أن يكون حجر الرحى في تثبيت العملية الديمقراطية في المنطقة العربية انتهي ويمكن القول لزمن قادم طويل.
ودون نسيان حقيقة ما يجري وتفاصيله، فإن الأمر سيسحبنا إلى تجربة شبيهة وقريبة مما يجري هناك، وأقصد التجربة المصرية. ثمة شبه كبير رغم أن التجربة التونسية استمرت لفترة أطول وكانت تعطي مؤشرات حول استقرار حقيقي في بنى النظام الجديد، وصار ثمة تفاؤل بأن دولة عربية صارت فعلاً في القائمة الثابتة للديمقراطيات المستقرة، إلا أن ما جرى أعاد العجلة إلى الوراء وإلى ذات النقاش، ووضع على الطاولة ذات الملفات. أقصد طاولة التحول الديمقراطي في المنطقة العربية. في مصر أيضاً جرت انتخابات وتمت قبلها الإطاحة بالرئيس السابق الذي خرجت الجماهير طالبة تغييره. وبعد الانتخابات ظهرت الأزمات الحقيقة المستعصية التي أوقفت عملية التحول الديمقراطي. وربما بسيناريوهات مختلفة، ولكن بنتائج متقاربة تم تعطيل العملية الديمقراطية وتم النكوص عن عملية التحول، والبحث عن طرق جديدة لضمان استقرار البنى الجديدة للنظام الجديد. أيضاً نتج عن هذا في التجربة المصرية صدام واضح بين مكونات ما كان يعرف بالثورة ضد نظام مبارك وبين مكونات الدولة الراسخة. في تونس أيضاً حدث التصادم بين مكونات ومخرجات الثورة، فاللاعبون الأساسيون فيها تصادموا حول فهمهم لحقيقة الواقع الذي تبحث عنه الثورة وتسعى لتحقيقه. من المؤكد أن هناك تبايناً في توجهات ومنطلقات الشركاء حول ما يريدون وحول تونس التي يريدون.
هناك شبه واحد من المؤكد يلفت الانتباه، يتمثل في اختصام الرئيس في الحالتين مع التيار الإسلامي، خاصة مكونه الإخواني. فجأة ظهر كل شيء إلى العلن، ظهر حين لم يعد من الممكن إخفاؤه. الصراع بين مؤسسة الرئاسة في تونس وبين البرلمان الذي يهمين عليه «الإخوان» لم يعد من الممكن السكوت عنه، وكان يجب أن يخرج للعلن، لكنه خرج مع إعلان وفاة العملية الديمقراطية التي كانت الفاكهة الأكثر بريقاً على شجرة الحياة السياسية بعد سقوط نظام زين العابدين. الرئيس التونسي الذي جاء به الشعب إلى الحكم من بين أوساطه، دون تنظيم سياسي ودون دعاية وخطابة مدعومة من قوى خارجية ولا حتى من قوى الدولة العميقة، والذي كان انتخابه رئيساً محط إعجاب وتقدير للكثير من المراقبين، الرجل الأكاديمي الذي بات رئيساً لقناعة الناخبين بأنهم يريدون رجلاً منهم وجد نفسه يتصادم مع برلمان يريد «الإخوان» أن يتحكموا عبره بوجه الدولة ومستقبلها. بالنسبة لي كما لملايين المتابعين كان الأمر صادماً. كان صادماً أن يلجأ هذا الرجل الرصين إلى تلك الخطوات التي لابد أننا في قلوبنا وفي عقولنا ما كنا نريد لتونس أن تنزلق فيها، لكنه واضح أن السيل قد بلغ الزبى وأن خلف الأكمة ما خلفها. ببساطة هذا التصادم كان حول هوية النظام وشكل الدولة. والرجل تحدث بمرارة وصدمة أيضاً حول ما كان يريد البعض جر البلاد له.
في مصر لم يكن الأمر يختلف كثيراً وإن كان أكثر دموية؛ إذ إن الجيش والشعب في مصر دفعوا غالياً ثمن السعي للحفاظ على هوية مصر في ظل ما كان يراد لها أن تصبح عليه. لكن علينا أن نقول: إن الصدام في مصر كان متوقعاً. ومن يتابع الشأن المصري يعرف أن تحالف «الإخوان» مع الدولة كان دائماً مؤقتاً وهم عادة منذ الصدام مع حكومة النحاس باشا إلى حادثة المنشية وصولاً إلى محاولة الانقلاب على الثورة من خلال تغير وجه الدولة، يعرف أن الصدام في مصر كان قصة وقت. وجاء الوقت. مرة أخرى التجربة المصرية أكثر قسوة ومؤلمة.
المحصلة أن ثمة طرفاً يعطل عملية التحول الديمقراطي بإصراره أن يقطف نتائج الديمقراطية دون أن يكون شريكاً حقيقاً في بناء الدولة وحمايتها. هناك طرف يريد أن تكون الدولة بلونه، ولا يؤمن على صعيد الممارسة بأن ثمة آخرين لهم وجهات نظر مختلفة، وأن الديمقراطية تعني أن يؤمن الجميع بأن ثمة أكثر من رأي. في التجربتين التونسية والمصرية شبه كبير، شبه يعيد النقاش إلى جوهر عمليات التحول الديمقراطي. السؤال الأهم هل سلطة المشرع بلا حدود؟ بمعني أن كون البرلمان منتخباً هل يعني هذا أنه يمكن لأعضاء البرلمان أن يسنوا من القوانين ما يتعارض مع تطلعات الناس وحقيقة العقد الاجتماعي بينهم؟
عموماً هناك دروس كثيرة يمكن تعلمها مما يجري. المؤكد أن الديمقراطية العربية تدخل في غيبوبة أعمق، وأن وضع قطار عمليات التحول الديمقراطي على سكة النجاح يصير أصعب مع الوقت. في استعادة لعنوان كتاب غسان سلامة «ديمقراطية من دون ديمقراطيين»، فإن العجر الحقيقي في الديمقراطية العربية جوهره غياب الوعي الديمقراطي الذي يعني ضمن أشياء كثيرة أن الأفراد لا يتعلمون الثقافة الديمقراطية كأساس في تجربتهم ونضوجهم، لذا حتى وإن شاركوا كأحزاب ومواطنين في العمليات الانتخابية فقط لأن هناك توظيفاً أدواتياً لهذه الانتخابات لتحقيق مآرب غير ديمقراطية. لذا وجب قبل إجراء الانتخابات التوافق على عقد ديمقراطي حقيقي يكفل أن الديمقراطية الشكل الوحيد الممكن لنجاح واستقرار النظام ورفاهية المواطن. وهذا يتطلب أن يفهم الجميع أن الديمقراطية والبرلمان ليسا وسيلة، بل هما جوهر الحياة السياسية الحقيقية. وقتها يمكن للانتخابات أن تظل اللعبة الوحيدة الممكنة لتداول السلطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى