#شوؤن عربية

الخِيارات السِياسيةُ والاقتصادية وإنزياحاتها لرئيس الوزراء السُوداني الانتقالي

الصادق الشعراني * 9/12/2019

لم يكن الوقت الطويل نِسبياً في الخط الزمني للثورة السودانية كله شر, بل عَمدت القوى التي تدير الحراك في الشارع على الاستفادة من التجارب المحيطة في المنطقة وعدم انزلاق البلاد نحو المجهول. وكان إصرارها منذ البداية على تكليف طاقم مدني بإدارة حكومة الفترة الإنتقالية وهو ما تم التوافق عليه في إعلان الحرية والتغيير الموقع في الأول من يناير 2019م.  وهو ماتم التوافق عليه مع المكون العسكري لاحقاً.

في 21 أغسطس 2019 أدى الدكتور عبد الله حمدوك اليمين الدستورية رئيساً لمجلس الوزراء الانتقالي(1) . كخيار مفضل دفعت به لقوى اعلان الحرية والتغيير التي إكتسب  الشرعية الثورية بعد نجاحاتها في إدارة الحراك الشعبي الذي إستمرمن ديسمبر / كانون الأول وحتى أبريل / نيسان 2019م.

     والعلامات المِهنية البارزة للدكتور حمدوك هي توليه موقِع الأمين العام السابق للجنة الاقتصادية لأفريقيا، التابعة للأمم المتحدة، وعملَ كخبيرٍ إقتصادي، وخبيرٍ في مجال إصلاح القطاع العام، والحوكمة، والاندماج الإقليمي، وإدارة الموارد وإدارة الأنظمة الديمقراطية والمساعدة الانتخابية. حاصل على ماجستير ودكتوراه في علم الإقتصاد من كلية الدراسات الاقتصادية بجامعة مانشستر فِي المملكة المتحدة(2).

   اتكاءاً على سيرته المِهنية الدولية و عدم انحيازه السياسي أو الأيدلوجي – المعلن – على الأقل، راهنت عليه  قِوى التغيير  وأعتبرته المُنقذ والمُخلص في هذا الظرف التأريخي من عمر الأمة السودانية. وهو ما مهد له الطريق  لدعم شعبي غير مسبوق، ومن هنا بدأ الرجل رحلته السياسية بإختيار إئتلاف و زاري مؤسس على معايرات الكفاءة والتمثيل الجهوي, أظهر الرجل من خلالها  ميوله الاحتوائية مما يؤشر لفلسفتة الواقعية, القائمة على قراءات مِيزان القوى والتأثير الإجتماعي والسياسي. وهو ما تمِظهر في إستعانته بالقوى الحيوية للثورة من الشباب والمرأة، وكذلك الحضور الجهوي لكل أقاليم السودان.

  لم يكتف حمدوك بهذا التكييف السياسي والإجتماعي فحسب، بل أرسل إشارات واضحة للحركات الحاملة للسلاح في الخارج وتحديدا الجبهة الثورية والحركة الشعبية – شمال. وهو ما يشرح تصورات الرجل للتسوية السياسية في السودان في شمولها لكل القوى الفاعلة, أو علي الأقل تحييدها، وهي التي يمكنها أن تعرقل مسار حكومته الوليدة.وهو ما قابلته قيادات الجبهة الثورية بإرتياح ودعم “مشروط” بعدم الفصل بين قضايا الديمقراطية و السلام لحكومة حمدوك, (3).

السِياسة الداخِلية

          لفهم المُحرك السِياسي للحكومة الانتقالية لا بُد من الرجوع إلى القوى المكونة لإعلان الحرية والتغيير وتفكِيكها سياسياً وتقدير أوزانها، وعندئذ تستطيع أن ترى أن الفاعل السياسي الأول هو تحالف نداء السودان، التحالف, الذي من أبرز مكوناته حزب الأمة وحزب المؤتمر السوداني, وبالتأكيد الشريك العسكري. هؤلاء هُم من يقررون سِياسات الدولة الداخلية والخارجية.

      وعليه يفهم في هذا السياق أن أول زيارة قام بها د. حمدوك عقب وصُوله للخرطوم كانت للإمام الصادق المهدي رئيس تحالف نداء السودان, ورئيس حزب الأمة القومي، والإمام الصادق يُعتَقد بأنه عراب الإتفاق السِياسي المُوقع مع المجلِس العسكري في أغسطس /آب 2019م.

والذي يكن له العسكريين كثيراً من التقدير، فضلاً عن علاقاته الجيدة مع الإمارات والسعودية وجمهورية مصر العربية.

      الملفت أيضاً حديث د. حمدوك وإنحيازاته  للمرأة والشباب سوى كانت تلك في  بِنية خطابه السِياسي أو تقديم هذه الفئات للمُشاركة في الجِهاز التنفيذي للدولة،وليس أخرها إرهاصات إحتمالية تعيين إمراة والي لولاية الخرطوم. كل ذلك يخبرنا بأننا أمام رجل واقعي، منفتح الذهن, يُدرك الأوزان الداخِلية جيداً.  

     الخيارات المتاحة لرئيس الوزراء السوداني  مُركبة ومُعقدة وتجمَع الكثير من الفاعِلين المُؤثرين في الداخِل والخارج الدولي والإقليمي.أيضاً تَحرُكات الرجل الأولية  صَنعت له حاضِنات شعبية, ودعم سِياسي من قوى الثورة على إختلاف مُكوناتها وتشكِيلاتها السياسية والمدنية وحتى العسكرية منها. إلا أن المَحك يظل قائماً في عددٍ من الملفات:

1. تحدي التعاطي مع المكون العسكري وإستمرار الشراكة  وتعزيزها ونقلها لمستويات  أعلى, لما تُمثله من ضماناتٍ لنجاح رئِيس الوزراء, وقُوة دفع أساسِية لِنجاح الفترة الإنتقالية ككل.

2.  تطوير إستراتيجية للتعامل مع مُكونات النِظام السابق في سِياقات رد المظالم والحقوق في إطار الدسُتور والقانون. وعدم تجاوز ذلك مما يدفع بِهم في دائرة رد الفعل الذي لا يمكن التكهن بنوعه وتوقيته, مما يُهدد بعرقلة  الإنتقال السياسي.

3.  مُقاربة ملف السلام وإحتواء قِيادات الجبهة الثورية والحركة الشعبية وإشراكهم في مجمل العملية السياسية وتمثيلهم في مستويات الحكم كافه ,والإستفادة من علاقاتهم الدولية وتوظيفها لإنجاح عمل الحكومة.

4. زِيادة مساحات الدعم الشعبي الكَمي بمعزل عن قوي التغيير، ونوعياً بالخروج للأطراف والأقاليم ومشاركتهم همومهم وهواجسهم ومخاطبة جذور أزمات الهامش في التنمية المتوازنة في كل أقاليم السودان، مع التَمييز الإيجابي للمناطق المُتأثرة بالحروبات.

السِياسة الخارجية

       بالرغم من الصلاحيات الاقتصادية والتنفيذية الواسعة التي نَصت عليها الوثيقة الدستورية لرئيس الوزراء إلا أن ملف السياسة الخارجية يظل بيد  الهيئة القيادية لقوى التغيير بالتنسيق مع المكون العسكري في المجلس السيادي. وصحيح أن  الملفات الخارجية لا يتم التوسع فيها في فترات الانتقال لأنها عُهدة مؤقته لا تحمل تفويض انتخابي, إلا أن الموقف الجيوسياسي لجمهورية السودان يُحتم على عليهم أخذ مواقف مبدئية في القضايا الملحة.

النَماذِج الإفريقية .. لحمدوك الإفريقي

 عمليات النمذجة التي يستشهد بها د. حمدوك دائما ما تشير إلى إعجابه بالتجارب البلدان الأفريقية الصاعدة كأثيوبيا وجنوب أفريقيا ورواندا, ربما لعمله في الفضاء الإفريقي لعشرات السنين.وغالباً تبنيه لتلك المدارس الإدارية والتنموية للتشابُه الكبير بين طبيعة تلك الدول,  إلا أن تموضعات السودان الإقليمية العربية والعالمية ربما تكون أكثر تعقيدا من الدول الأفريقية الصاعدة.

الغرب والعَودة لحضن المجتمع الدولي

     السودان المُنعِزل عالمياً عن العالم منذ عقود، والمحروم من التعامل مع  المُؤسسات المالية العالمية وبيوتات التمويل من العام 1997م, ووضعُه تحت قائِمة الدول الراعية للإرهاب يجعلهُ مطالباُ بمجهودات دبلوماسية إضافية, وتوظيف علاقات الأشقاء والأصدقاء لرفع إسم السودان من قائمة الإرهاب. هذا الإجراء مطوب  أكثر من أي وقت مضى، حتى يعود السُودان دولةٍ طبيعيةٍ. وهو الأمر الذي قُطع فيه شوطا مقدراً, يُنتظر فقط إتمام شرط السلام ويتم رفع العقوبات كلياً، وهو ما يعيه حمدوك جيداً(4).

      ألمانيا وفرنسا وبريطانيا  أبدو استعدادهم لدعم السودان سياسيا ومالياً وهو ما عبر عنه وزراء خارجية فرنسا وألمانيا والسفير البريطاني في الخرطوم. إلا أن البداية العملية كانت من ألمانيا بزيارة وزير خارجيتها هيكو ماس وإبداء إستعداد بلاده لدعم السودان إقتصادياً, ودعوة حمدوك لزيارة برلين(5). وتلقي دعوة مُشابهة من فرنسا. كل هذه الدعَوات من أعيان أروبا هي فرصةً حقيقيةٍ للرجوع للنادي الدولي، وربما أولى زياراته الخارجية تكون للولايات المتحدة للمشاركة في إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر /أيلول من هذا الشهر مما قد يمكنه من الإجتماع بماكرون وميركل.

الصِين .. شريك كل الحكومات

   الصين تعتبر  من الدولة التي تجمعها علاقات استراتيجية عميقة مع السودان من تأريخ طويل. تطورت في حجم الإستثمار والتبادل التجاري في العقد الأخيِر، وهي من الشركاء الأصليين في عمليات التنمية في السودان وبالتالي يعول عليها كثيراً في الفترة الانتقالية في التوسع في قطاعات النفط والطاقة والنقل والمواصلات.

الإقليم العربي وحتمِيات التمَحوُر

          تشابُكات الإقليم المضطرب الذي يلفُه الكثير من الإصطفاف يجعل الحكمة التأني في الإختيارات لطبيعة الحكومة غير المنتخبة أولاً، وتموضع السودان المعقد في الإقليم العربي ثانياً, كما أن تاريخ علاقات السودان مع محاور الإقليم أيضاً تجعل الموقف المبدئي أن  لايختار السودان طرف على حساب الآخر.إلا أنه قد يعمل السودان عن قُرب مع الرياض وأبوظبي بمقتضيات المصلحة الظرفية الآنية, واللافت هنا تصريح الإمام الصادق المهدي :” سيكون للإمارات دور فاعل في السودان”(6). وربط هذا التصريح بتصريح حمدوك في خِطاب تكليفه بأن العامل الذي سيحكم العلاقات الخارجية هو : مصلحة السودان اولاً وثانياُ واخيراُ(7). ومن هذه المنطلقات نستطيع أن نَفهم الوجهة الإقليمية للسياسة الخارجية الإنتقالية والتي ربما تكون أقرب للمحور السعودي الإماراتي لإعتبارات موضوعية وليس تمحوراً :

1 . المساعدة في رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، هناك تعويل على الدور السُعودي الإماراتي في هذا الصدد.

2. الحوجة للدعم الإقتصادي والإستثمار المالي في المشروعات الانتقالية عبر الصناديق العربية أو حتى تقديم السودان للصناديق العالمية ومؤسسات التمويل الدولية  .

3. إرتباطات السودان في التحالف العربي في اليمن وعمل قيادات من المجلس السيادي التحالف العربي.

  هذا ما فرضته معايرات المصلحة, غير أن الجغرافيا السياسية للسودان وضعته في موقف أكثر تعقيداً  إقليمياً، وبالتالي سيُحافظ السودان على علاقاته مع قطر رغم كل ما ذكر.

خِيارات رئيس الوزراء الاقتصادية

    أولى أولويات رئيس الوزراء  هي الترتيبات الفنية والإدارية والاستعانة بطاقم اقتصادي ضليع، يعمل على معالجة الخلل الإداري والاختصاصي في المواقع الاقتصادية والمالية  الحساسة في وزارة المالية وبنك السودان المركزي والمواقع الأُخرى. بعد ترتيب البيت الداخلي في رئاسة مجلس الوزراء, ووزارة المالية والبنك المركزي يشرع رئيس الوزراء وتحت زخم الدعم الشعبي غير المسبوق لاتخاذ إجراءات عاجلة قد تكون قاسية على بعض الشرائح، لكنها مهمة، وتتمثل هذه الإجراءات في:

1.  تحرير سِعر الصرف تمامًا وتعويمه، حيث لا تتدخل الحكومة أو البنك المركزي في تحديده بشكل مباشر، وإنما يتم إفرازه تلقائيًا في سوق العملات من خلال آلية العرض والطلب التي تسمح بتحديد سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية. وإرفاق هذه الخطوة بدعوة عاجلة للمغتربين العاملين في الخارج والذين يقدر عددهم بأكثر من 5 ملايين بتحويل أموالهم عبر النظام المصرفي الرسمي.

2.   رفع الدعم عن الوقود بِكل أنواعه من البنزين والجازولين والفيرنس لتخفيف الضغط على الموازنة العامة, وتوجيهه نحو مستحقيه من خلال برامج التنمية والتمويل الأصغر، وأيضًا للحد من عمليات التهريب المتكررة، وضبط عمليات إستيراده وتوزيعه بسبب أن سعر لتر البنزين الأرخص في المنطقة (0.14) سنت تقريباً (8).

3.  خفض مناسِيب التضخُم عبر السياسات المالية في الضرائب والإنفاق الحكومي, بزيادة الضرائب التصاعيدية وتخفيض الإنفاق الحكومي، وعبر السياسة النقدية برفع معدلات سعر الفائدة وزيادة الاحتياطي النقدي المحلي والأجنبي.

4.   مُراجعة سِياسة التمويل العقاري والصناعي، وتقليصها وتحويلها لبرامج التمويل الأصغر وتسهيل شروطه للشباب وصغار المنتجين في العاصمة والأقاليم للتغيير في بينة الإقتصاد أفقياً.

5.   تبني سياسات زراعية عاجلة للنظر والتخطيط للموسم القادم ,وتقديم حزم تمويلية ,وسياسات تشجيعية  للمزارعين لزيادة المساحات المزروعة في كمِها وإنتاجها.

6.   مُعالجة مُجمل السياسة المالية فيما يتعلق بالأدوية وإستيرادها وتسعيرها وتوفيرها. ودعم هذه الإحتياجات الحيوية بشكل سريع, يظهر بوضوح للمواطن عملياً في سعر الدواء.

     هذا تقديرنا الاستقرائي الذي لا يخلو من تحليل  للموقف السياسي والإقتصادية وما أعتقد أنه يجب علي رئيس الوزراء التعامل معه في القطاعات الاقتصادية في الثلاثة شهور الأولى من عمر الوزارة. وهي مهام ليست بالأمر السهل علي أي حال فهذه القضايا والملفات علي إلحاحها وأهميتها ربما تأخذ وقتًا أكبر نسبة لعوامل كثيرة، ليس آخرها الميراث الثقيل لـ (30) عامًا من الفساد المالي والإداري، وبالطبع ليس أولها عدم تعاون جهاز الدولة في تنفيذ الخُطط والسياسات الجديدة.

  بالرغم من التفاؤل الشدِيد بحكومة حمدوك ومستقبلها إلا أن هناك محاذير ما تظل قائمة, تتمثل في عدم إكمال الحُكومة لفترتها حتى الوصول للانتخابات في 2021، وهو أمر يظل إحتماليات حدوثه حاضره في ظل كثرة الفاعلين المؤثرين في الداخل والخارج.وهو أمر تحسبت له قوى التغيير ورؤيتها له الذهاب لإنتخابات مبكرة حال تعثر حكومة حمدوك أو إستقالته بحسب الصادق المهدي رئيس تحالف نداء السودان(9).

      هذا ما اعتقدت أنه يمكن أن يُقبِل عليه الدكتور عبد الله حمدوك إلا أن دائماً هناك انزياحات تقتضيها الضرورات التاريخية والمحظورات السياسية, فضلاً عن الواقع المتحرك وهذا بالطبع يعتمد على درجات مرونته وسرعات تأقلمه مع أي وضع يمكن أن ينشأ في عالم لا يعرف الجمود.

المركز العربي للبحوث والدراسات

المراجع

(1)  رئيس الوزراء السوداني اليمين الدستورية في الـ 21 من أغسطس/ آب

http://www.bbc.com/arabic/middleeast-49432711

 (2) من هو رئيس الوزراء السوداني الجديد؟

https://cutt.ly/LwPhe45

 (3) الجبهة الثورية: ندعم حمدوك لتحقيق السلام في السودان

https://www.youtube.com/watch?v=PClVlV0HU_0

 (4) حمدوك: لن يتغير أي شيء بالسودان دون رفعه من قائمة الإرهاب

https://cutt.ly/kwDhdbe

 (5) وزير خارجية ألمانيا بالخرطوم.. هل تعود العلاقة مع الغرب؟

https://bit.ly/2lOwS3b

 (6) الصادق المهدي : سيكون للإمارات دور فاعل في السودان.

https://bit.ly/2kfC4Nq

(7) حمدوك .. سياستنا الخارجية تقوم على : مصلحة السودان اولاً وثانياُ واخيراُ

https://www.youtube.com/watch?v=dLkl0kWTZQM

 (8) السودان أسعار البنزين, لتر, يوم 09 شهر 9 سنة 2019

https://ar.globalpetrolprices.com/Sudan/gasoline_prices/

 (9) الذهاب لانتخابات مبكرة حال تعثر حكومة حمدوك. “الصادق المهدي”

https://bit.ly/2kfC4Nq

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى