أقلام وأراء

الحبيب الأسود: ليبيا وعزل الحبري في سياقات الفساد

الحبيب الأسود 26-11-2022م: ليبيا وعزل الحبري في سياقات الفساد

أقرّ مجلس النواب إقالة علي محمد سالم الحبري من منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي المكلف، وإنهاء عضويته ورئاسته للجنتي إعادة استقرار بنغازي ودرنة، وقرر تكليف ديوان المحاسبة الليبي بمراجعة وفحص جميع المعاملات المالية والإدارية للجنتين منذ تاريخ إنشائهما حتى الآن، وقام بمخاطبة النائب العام لاتخاذ جميع الإجراءات القانونية حيال الجرائم المرتكبة ومباشرة إجراءات التحقيق الابتدائي في تلك الجرائم، وفق نص القرار.

كان أهم ما يمكن ملاحظته أن الحبري سارع إلى الانصياع للقرار وتسليم مهامه إلى خليفته المكلف مرعي البرعصي، وهو ما يعني أن هناك فعلا سلطات قائمة في شرق البلاد، وأن الاعتراف بمجلس النواب وقراراته لا يزال قائما هناك عكس الوضع في المنطقة الغربية وعلى رأسها العاصمة طرابلس التي لا تعترف السلطات الحاكمة فيها بقرارات البرلمان ولا تقبل بتنفيذها، ومنها القرارات الصادرة بشأن مصرف ليبيا المركزي وأبرزها قرار عزل محافظه الصديق الكبير الصادر في سبتمبر 2014 والقرارات التي تواترت بعده، وكان جميعها دون صدى يذكر، حتى أن موضوع المصرف بات لدى المراقبين مؤشرا على وضع ليبيا السياسي والاقتصادي والاجتماعي ودليلا على حجم الانقسام الداخلي والتدخلات الخارجية.

ولكن لماذا تمت إقالة الحبري بهذه السرعة؟ البعض يقول إنه رفض المثول أمام البرلمان في بنغازي لاستجوابه في عدد من القضايا المهمة أهمها على الإطلاق فشله في توفير التمويلات اللازمة لحكومة فتحي باشاغا التي انبثقت عن المجلس وتتخذ من سرت مقرا لها، وهذا أمر مرتبط بالموقف الدولي بعدم اتخاذ قرار حازم بفرض توزيع إيرادات النفط والغاز على الحكومتين كما كان مطروحا منذ أشهر، وبسيطرة حكومة الدبيبة المطلقة على مصرف ليبيا المركزي والتي لا يمكن فصلها عن تداخلات الخارجي بالداخلي، والسياسي بالاقتصادي البراغماتي الذي بات يشكّل دائرة القرار في العاصمة.

كثيرة هي الجهات التي تدعو إلى عدم تجاهل الدور الذي لعبه الحبري وأعضاء مجلس إدارة المصرف الموازي في تمويل مناطق الحكومة الليبية المؤقتة سابقا، ودعمه للمؤسسة العسكرية وتوفير السيولة المالية والعملة النقدية في فترة الانقسام المؤسسي، فيما يبدو أن سلطات شرق البلاد لم تدرك بعد أن عدم وجود قرار بتمويل حكومة باشاغا ليس بيد الحبري وإنما يأتي في سياق القرارات الدولية، ووفق انعكاسات الواقع الداخلي، علينا أن نتذكر أن دولا عدة كانت تراهن على الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر، وكانت تدرك معنى أن يكون مسيطرا على أهم مراكز إنتاج وتصدير النفط، ومعنى أن يمنع الإنتاج والتصدير في حال حرمان قواته من إيرادات ثروة الطاقة، وهو ما يبدو أنه لم يعد ممكنا حاليا في ظل الضغوط المسلحة على قيادة الجيش وحصول تغيرات في التحالفات الإقليمية انعكست على واقع التوازنات في الداخل الليبي.

في أوائل نوفمبر الجاري شكل مجلس النواب في ليبيا لجنة من الخبراء المصرفيين والماليين والاقتصاديين لوضع آلية لتوزيع الثروة في البلاد، تتطرق إلى النطاق الجغرافي وعدد السكان ومواقع إنتاج النفط والغاز، لكن ذلك لا يعتبر مجديا، وهو ما أدركه محافظ مصرف ليبيا المركزي في المنطقة الشرقية ونائب محافظ مصرف ليبيا المركزي بطرابلس، والذي يبدو أن علاقاته مع رئاسة البرلمان تميزت بالبرود بسبب قراءته الواقعية لمجريات الوضع المالي والمصرفي.

كان مصرف ليبيا المركزي قد تأثر بحالة الانقسام السياسي التي عرفتها البلاد على إثر انتخابات يونيو 2014 البرلمانية التي عرفت خسارة الإسلاميين مما أدى إلى حدوث انقلاب على النتائج واندلاع حرب أهلية تزعمتها منظومة فجر ليبيا التي استولت على مؤسسات الدولة في طرابلس، فانطلقت السلطات الشرعية إلى المنطقة الشرقية التي كانت تعرف آنذاك قيام معركة الكرامة بقيادة الجنرال حفتر ضد الميليشيات التكفيرية.

ومن أهم إفرازات ذلك الواقع انقسام مصرف ليبيا المركزي إلى مصرفين أحدهما يخضع لسلطة المؤتمر الوطني المنتخب في يوليو 2012 والمنقلب على نتائج انتخابات 2014 التي تنهي صلاحياته، والثاني يخضع لسلطة مجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه والتي كانت تتخذ من مدينة البيضاء بشرق البلاد مقرا لها، وآلت إدارة الأول إلى الصديق الكبير، بينما ذهبت إدارة الثاني إلى علي الحبري، وبعد توقيع الاتفاق السياسي بالصخيرات المغربية نهاية عام 2015 قام مجلس النواب بتكليف محمد الشكري بمهام محافظ مصرف ليبيا المركزي إلا أنه لم يتمكن من استلام مهامه من الصديق الكبير الذي لا يزال يشغل منصب المحافظ المعترف به دوليا، ويمارس مهامه من مقر البنك المركزي في العاصمة طرابلس.

لا توجد في ليبيا مؤسسة رسمية تثير اهتمام المجتمع الدولي وخاصة العواصم الغربية كالمؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي اللذين يرمزان ضمنيا إلى الثروة المهيأة للنهب في غياب سيادة الدولة الفعلية، وخلال السنوات الماضية تم تسجيل الكثير من المساعي لتوحيد المصرف، وتم بالفعل عقد أول لقاء رسمي بين الكبير والحبري في طرابلس في يونيو 2021 بالإضافة إلى اجتماعات أخرى في عواصم كتونس وأنقرة وروما في ظل توافق بينهما على اعتماد الأول محافظا والثاني نائبا له، بينما باءت كل محاولات مجلس النواب للإطاحة بالكبير بالفشل، وقوبل اتفاقه مع مجلس الدولة في أبوزنيقة المغربية على التعيينات القيادية في المناصب السيادية بعراقيل عدة داخليا وخارجيا حتى لا يتم المساس بموقع ومكانة الصديق الكبير.

تم إفشال خطة توحيد مصرف ليبيا المركزي لضمان الإبقاء على نذر التقسيم، فالانقسام المالي والاقتصادي هو انعكاس للانقسام السياسي والحكومي الذي كان قد ظهر من جديد بتشكيل حكومة فتحي باشاغا من قبل مجلس النواب ونيلها ثقته في مارس الماضي بعد سحبه الثقة من حكومة عبدالحميد الدبيبة منذ سبتمبر 2021 وسحب الاعتراف بها رسميا بعد فشل جهود تنظيم الانتخابات في موعدها الذي كان مقررا للرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، وتأكد أن مصرف ليبيا المركزي في مقره الرئيسي بطرابلس ومن خلال إدارة الكبير تحول إلى منفذ أساسي لمشروع سياسي يتزعمه الدبيبة كواجهة لشبكة متعددة الأوجه الأسرية والمناطقية والسياسية والمالية والدبلوماسية والميليشياوية تعمل على السيطرة المطلقة على ليبيا سواء من خلال تنظيم انتخابات أو من دونها، كما كان واضحا أن سلطات المنطقة الشرقية وجدت نفسها معزولة بسبب سياقات الصراعات الإقليمية والدولية على النفوذ في ليبيا والمنطقة لاسيما في ظل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

يبقى أن التهم الموجهة إلى الحبري بالفساد لا تحتاج إلى الكثير من التحري، فإلى حد الآن لم يتبين أن هناك مركزا من مراكز القرار التشريعي أو التنفيذي، والسياسي أو الإداري أو المالي والاقتصادي، غير مورط في الفساد في بلد يعاني من أشرس عملية نهب تعرض لها بلد في المنطقة بعد العراق، وإذا تم اتهام الحبري بنهب المال العام فإن الصديق الكبير ومساعديه يواجهون نفس التهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجلس النواب والحكومات المتداولة على السلطة في البلاد، ولكل من وجد بين يديه فرصة للتلاعب بالمال العام عبر النهب أو الإهدار، حتى أن معركة ليبيا الحقيقية منذ العام 2011 هي معركة من أجل الثروة بزعامة قوى النهب الخارجية والداخلية التي نجحت في توفير ما تحتاج إليه من آليات للاستمرار في تنفيذ مشاريعها الجهنمية للاستيلاء على قوت الشعب ومقدرات الدولة.

وفي سياق متصل، تبدو هناك خطة تهدف إلى الإطاحة بالنائب العام الصدّيق الصور الذي كان قد تم التوافق على تكليفه بمهمته من قبل مجلسي النواب والدولة، ونجح خلال الفترة الماضية في إثبات جديته في تفعيل القانون ضد الفساد والجريمة المنظمة والإرهاب، وأصبح يحظى باحترام كبير من الليبيين في مختلف أنحاء البلاد ومن مختلف التيارات السياسية.

وخطة الإطاحة بالصور يقودها عبدالرحمان السويحلي وعدد من أتباعه في مجلس الدولة معتمدين في ذلك على مزاعم بعدم شرعية قرار مجلس النواب بتكليف النائب العام الصادر في أبريل 2021، فيما يرى أغلب المتابعين للشأن الليبي أن الأمر يتعلق بمحاولة جماعات ضغط مرتبطة بحكومة الدبيبة استبعاد الصور أو نزع الشرعية عنه أو جره إلى تقديم تنازلات لاسيما في ملف الحرب على الفساد بعد قراراته الأخيرة بسجن العشرات من المسؤولين السابقين والحاليين في عدد من القطاعات احتياطيا على ذمة قضايا تتعلق بنهب المال العام.

وقد يكون الصور المسؤول الوحيد الذي يلقى حاليا التقدير والاحترام من مختلف الفرقاء بالرغم من أنه لا يزال عاجزا عن فتح ملفات الميليشيات وأمراء الحرب من المتورطين في جرائم لا تسقط بالتقادم تتعلق بقتل المدنيين والاتجار بالبشر والاختطاف والفساد، وغيرها، حتى أنه لم يستطع فتح أي تحقيقات في الصراعات المسلحة التي عرفتها العاصمة طرابلس وأدت إلى قتل المدنيين وتصفية الحسابات بين المسلحين أنفسهم.

لا يزال الكبير في منصبه مستندا إلى قرارات القوى التي توفر له الغطاء الضروري، وحتى عندما قرر مجلس الدولة الاتجاه إلى تنفيذ اتفاق مع مجلس النواب باستبعاده من منصبه، وقف الدبيبة للمجلس بالمرصاد ومنعه من عقد جلسته، أما الحبري فقد تم عزله ليترك منصبه لخليفته، لكن اتهامه بالفساد لم يكن موفقا، ولاسيما عندما يأتي في سياق عام يعتبر أن الفساد عنوان النجاح والتفوق.. وأنه الدافع الحقيقي لكل ما يجري في ليبيا من صراع دائم على الوصول إلى السلطة ثم على الحفاظ عليها أطول فترة ممكنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى