أقلام وأراء

الحبيب الأسود: ليبيا والحاجة إلى خارطة طريق جديدة في الذكرى الثانية لحوار جنيف

الحبيب الأسود 26-1-2023: ليبيا والحاجة إلى خارطة طريق جديدة في الذكرى الثانية لحوار جنيف

أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى الثانية لملتقى الحوار السياسي في جنيف الذي انعقد من الأول إلى الخامس من فبراير 2021، وانتهى، من وسط دائرة الفساد التي أحاطته، إلى تشكيل السلطات التنفيذية الحالية في طرابلس، والمتمثلة في الحكومة المنتهية ولايتها والمجلس الرئاسي العاجز عن أداء دوره، والتي جاءت في سياق صراع محتدم على السلطة، ليس من أجل المساهمة في الخروج بالبلاد من مأزقها السياسي، وإنما من أجل تقاسم المصالح والاستفادة من موارد الثروة والتنعّم ببهرج النفوذ ومتعة الحكم، التي لا تعادلها متعة أخرى في نظر من جرّبها، حتى قالت العرب إن “الإمارة حلوة الرضاع، مرة الفطام”، وهو ما يشعر به حاليا الفاعلون السياسيون في ليبيا.

كان مؤتمر الحوار في جنيف امتدادا للمؤتمر الافتتاحي الذي احتضنته تونس في نوفمبر 2020، والذي حضره 75 عضوا اختارتهم رئيسة البعثة الأممية بالإنابة آنذاك ستيفاني ويليامز التي، ورغم أنها كانت تنطلق من أجندا أميركية أكثر من أن تكون أممية، إلا أنها كانت أقدر نظرائها المتناوبين على إدارة البعثة، على فهم الملف الليبي وطبائع المؤثرين المحليين فيه، وعلى الاقتراب من الأحوال النفسية والاجتماعية المتحكمة في مسارات العمل السياسي في البلاد، حتى أنها أصبحت تتحرك بسهولة في شرايين القرار الليبي وتلامس أبعاده الخفية، ولا أستغرب أن تكون مطلعة حتى على أخصّ خصوصيات المتحكمين في المشهد، ما جعلها تصمهم بأقذع النعوت، وهي على قناعة بأنهم سيكتفون بالصمت.

نبهت ويليامز باكرا إلى أن “الطبقة الحاكمة التي تضم شبكة من الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والأمنيين، مع داعميهم الدوليين المرتبطين بها، ستستمر في لعبة الكراسي الموسيقية هذه طالما ظل النفط هو المصدر الوحيد للإيرادات، فسوف يقاتلون من أجل ذلك لـ40 سنة مقبلة بطريقة أو بأخرى”. وهي تعلم أن هناك من أصحاب القرار حاليا من انتهوا من إعداد ورثة لهم وجهزوهم لقيادة المرحلة القادمة، تأكيدا على حالة المسخرة التي حلت بالبلاد خلال السنوات الماضية، فكل الشعارات التي رفعها المتدخلون في معركة الإطاحة بنظام القذافي، كالحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والتداول السلمي على السلطة والعدالة الاجتماعية وغيرها، انقلبت إلى صراع بين أفراد معدودين على المصالح الشخصية والعائلية والفئوية تحت أغطية حزبية وقبلية وجهوية، فيما يعاني الشعب من أوضاع معيشية بائسة، ويجد نفسه في خانة المضحوك عليه والملعوب به والمنهوب حقه والمسلوب رزقه والمظلوم والمأزوم والمحروم من ثروته والعطشان والماء بين يديه.

وتقول ويليامز عن الفاعلين السياسيين الليبيين إنهم “يحبون التودد إلى الجهات الفاعلة الخارجية، والسفر حول العالم، وتلقي معاملة السجادة الحمراء” ثم يلومون علنا الجهات الفاعلة الخارجية على ما هو في النهاية فشل ليبي في الغالب في التوصل إلى الإجماع المطلوب، كما أنهم “يميلون إلى تبادل إطلاق النار خلال النهار ويتواطؤون بالليل مع الاستمرار في تجميع مغانم كبيرة على حساب مواطنيهم المستبعدين، ولاسيما في المناطق النائية الجنوبية الشاسعة”، وهي بذلك تؤكد أن ممارسات من كانت أطلقت عليهم اسم الديناصورات التي لا تريد أن تنقرض، مكشوفة للجميع، ولاسيما للقوى التي كانت ويليامز تمثلها، والتي تكتفي في أحيان كثيرة بمجاملة بؤساء المشهد السياسي الليبي بغاية ابتزازهم والاستفادة من أطماعهم في تنفيذ مطالبها وخدمة مصالحها.

ولم تجانب ويليامز الصواب عندما بيّنت أن “أعضاء المجلسين التشريعيين (البائدين) لا يرغبون في إنتاج انتخابات من شأنها أن تحرمهم على الأرجح من مقاعدهم والحصول على رواتب مجزية ومزايا وثمار المحسوبية”، إذ أنها تعرف جيدا ما يدور وراء ستائر مجلس النواب، الذي بدأ وطنيا وانتهى جهويا، بغطاء قبلي يجسده عقيلة صالح الذي يرغب في إدارة شؤون البلاد من مجلسه الخاص، والذي لا يهمه حاليا إلا أن يكون رئيسا للمجلس الرئاسي القادم بعد الإطاحة بالحالي، ولا يشعر بأن هناك حاجزا قد يحول دون الوصول إلى غايته إلا ذلك الذي يمثله قائد الجيش الجنرال خليفة حفتر، حيث أن صالح وإن كان يضع نفسه في صورة زعيم برقة المفترض، إلا أنه يدرك جيدا أن زعامته لا رصيد لها، وأن كل البهرج الذي أحاط به نفسه، جاء نتيجة تبادل المصالح مع حفتر الذي وفّر له غطاء الأمن والسيادة مقابل الغطاء السياسي والتشريعي الذي وفره مجلس النواب لقيادة الجيش في ظل حالة الانقسام السائدة منذ 2014.

أما مجلس الدولة، فهو نتاج التدخلات الخارجية التي فرضته في إطار عملية تدوير لبقايا المؤتمر الوطني المنتخب في 2012، تم فرضها على مؤتمر الصخيرات واتفاقه الموقع في ديسمبر 2015، بضغط تركي – قطري – بريطاني – أميركي لتغليب مصلحة تيار الإسلام السياسي وتكريس حضوره في المشهد السياسي رغم عزلته الاجتماعية، وتقديمه في صورة الطرف القادر على احتواء الميليشيات الخارجة عن القانون وعلى تأطير 17 فبراير، وفق حسابات من دعموها منذ بداياتها وجعلوا منها شعارا أساسيا لمخطط التحولات المقررة للمنطقة، وبعد 11 عاما من انتخابهم لا يزال أعضاء مجلس الدولة يتحكمون في جزء مهم من اللعبة بالبلاد، بينما لا يختلف رئيسه خالد المشري عن صالح في تمسكه بالسلطة وامتيازاتها، وهو يمتطي صهوة وهم متغلغل في قناعاته، بأنه الزعيم الفعلي لطرابلس وعموم المنطقة الغربية.

أشارت ويليامز إلى “تدني شعبية أعضاء مجلسي النواب والدولة وتدني الاحترام لهما من قبل معظم الليبيين، ولذلك فهم لا يريدون انتخابات، خاصة أنه من غير المحتمل إعادة انتخابهم” واستشهدت في ذلك بأن أحد أعضاء مجلس النواب البارزين كشف لها عن رغبته الجادة في أن يستمر المجلس لمدة 20 عاما، أي يبقى حتى العام 2034، وذلك على غرار ما حدث سابقا في لبنان خلال الحرب الأهلية، وهو ليس وحيدا في هذه النزعة، حيث أن الأغلبية الساحقة من الفاعلين في المشهد السياسي غير راغبين في التخلي عن كراسيهم، ولا في التنازل عن امتيازاتهم المادية والمعنوية وعن الوجاهة الاجتماعية التي باتوا يحظون بها ويستفيدون من ثمارها، لاسيما أن الكثيرين منهم جاءت بهم الصدفة إلى مراكز صنع القرار، ومنهم من يشعر أن قيمته الحقيقية من قيمة الكرسي الذي يجلس عليه والموقع الذي يشغله، وأن من يتقربون منه اليوم سيتخلون عنه حال استبعاده من منصبه و فقدانه لامتيازاته.

ولعل أهم ما يشغل بال الجميع حاليا هو ملف الانتخابات الذي كانت ويليامز تحدثت عنه في مناسبات عدة، وقالت إنها لا تنظر إلى العملية الانتخابية كوسيلة في حد ذاتها، وأن الاستحقاق لن ينتج معجزة أو يحل كل شيء، لكن هناك حاجة إلى عملية انتخابية نشطة جارية في ليبيا، لأنه من دونها ستكون هناك شهية لا تشبع للسلطة التنفيذية المؤقتة، وهي تشير بذلك إلى رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة، الذي ترى أنه تصرف بسوء نية بانتهاك التعهد الذي قطعه خلال منتدى الحوار السياسي الليبي في فبراير 2021، وهو تعهد تم بثه على الهواء وكتابيا، بأنه لن يقدم نفسه كمرشح للرئاسة.

قبل أن تغادر منصبها كمستشارة للأمين العام للأمم المتحدة في طرابلس، كانت ويليامز قد أدركت أن هناك وضعية صعبة تواجه جهود الحل، وفي نوفمبر الماضي اقترحت أن يُجرى في أول انتخابات رئاسية انتخاب مجلس رئاسي يتكون من ثلاثة أشخاص، يمثل كل عضو منهم واحدة من المناطق التاريخية الثلاث في ليبيا، وذلك لمواجهة مخاوف استئثار الرئيس بالسلطة، معتبرة أن “بعض المرشحين الرئاسيين المحتملين، سيأخذون كل شيء إذا جرى انتخابهم، ليكون هنالك شخص واحد، وإستراتيجية لمرة واحدة، مما سيؤدي إلى العودة إلى أيام الدكتاتورية الفظيعة”.

هذا التصور الذي طرحته الدبلوماسية الأميركية، يمكن أن يتشكل لاحقا إما في مجلس رئاسي جديد يتميز بأنه منتخب ويتكون من رئيس ونائبين، أو أن يكون هناك ثلاثة رؤساء بواقع رئيس لكل إقليم مما قد يمهد الطريق أمام انقسام فعلي، وهو ما قد يتلاءم مع طبيعة الصراع الإقليمي والدولي على تقاسم النفوذ في ليبيا. وإذا وضعنا في الاعتبار الدور الأميركي المتصاعد حاليا، فإن واشنطن لا تخشى إلا من أمرين اثنين، وهما التمدد الروسي في شرق وجنوب البلاد، وترشح شخص لا ترغب فيه للحكم، ما يعني أنها ستضع في طريقه كل العراقيل باسم الخوف على الديمقراطية الناشئة ومن عودة الدكتاتورية السابقة إلى السلطة، أما إرادة الشعب فلا معنى لها مقارنة بمصالحها ومصالح حلفائها.

آخر المؤشرات تقول إن واشنطن لن تمضي في اتجاه الرؤساء الثلاثة، وقد باتت مقتنعة بضرورة تشكيل حكومة ثالثة تقود البلاد إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، وهي بذلك تعود إلى مشروع سبق أن طرحته ويليامز في الخفاء منذ عامين، وتم تنفيذ جزء منه بتشكيل حكومة ظل بدأت منذ أشهر في العمل على إعداد نفسها لمرحلة الحكم، ويبدو أن الوقت حان لذلك.

وطبيعي أن يكون أي مقترح جديد قد نوقش مع المبعوث الأممي عبدالله باتيلي الذي يؤكد المقربون منه أنه يواجه الكثير من الصعوبات في أداء مهمته، وفي أحيان كثيرة يبدو أقرب إلى التشاؤم، لاسيما بعد أن قابل أهم الفاعلين السياسيين وأدرك أنه يمكن أن يبقى لسنوات عدة وهو يدور في نفس الدائرة المغلقة دون أمل في الخروج منها، فهم حالة خاصة لا مثيل لها في أغلب الدول الأخرى، ومن أهم ما يميزهم المرونة المصطنعة التي يبدونها ثم ينقلبون عليها بسهولة، والوعود التي يطلقونها جزافا ثم ينهمكون في إيجاد المبررات لعدم الإيفاء بها.

أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى الثانية لمؤتمر الحوار بجنيف، وقد يكون من الملائم الحديث عن التوصل إلى خارطة طريق جديدة وفق جملة الخيارات التي تم التوصل إليها مؤخرا في سياقات الحراك القائم بوجوهه المعلنة والغامضة، وقد يكون من الضروري تحديد الآليات المناسبة لاستبعاد ديناصورات السياسة بقرارات حازمة، والاتجاه لتشكيل سلطات تنفيذية موحدة مكونة من رجال القضاء والتكنوقراط قادرة على قيادة البلاد نحو انتخابات خلال عام.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى