أقلام وأراء

الحبيب الأسود: قيس سعيد رسائل مضمونة الوصول إلى الغرب

الحبيب الأسود 24-2-2023: قيس سعيد رسائل مضمونة الوصول إلى الغرب

لا يكف الرئيس التونسي قيس سعيد عن تأكيد رفضه للتدخل الخارجي في شؤون بلاده الداخلية، ويشدد على أن تونس لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، ولذلك فهي لا تسمح بالتدخل في شؤونها من أي طرف كان، موجها بذلك رسائل واضحة إلى العواصم الغربية بأنه يضع السيادة الوطنية فوق كل اعتبار، وأن مرحلة الصمت أمام المواقف الأجنبية من الشأن الداخلي قد ولت وانتهت دون رجعة.

وخلال توليه رئاسة بلاده، تبنى سعيد الكثير من القرارات والرؤى في هذا الاتجاه، وعندما أعلن عن التدابير الاستثنائية بحل حكومة هشام المشيشي والإطاحة بحكم الإخوان وحل مجلس النواب وإلغاء العمل بدستور 2014 وتغيير النظام السياسي وقانون الانتخابات، وغيرها من القرارات، كان يدرك أن قوى خارجية، وخاصة الغربية منها، ستنتقد توجهه العام وستسعى لتحريك أصابعها لمناهضة مشروعه الإصلاحي، لكنه تحدى ذلك وسعى لتنفيذ رؤيته السياسية دون اعتبار لردود الفعل الأجنبية.

وتشهد تونس هذه الأيام معركة كسر عظم بين الرئيس سعيد ومعارضيه، لكنه يتحرك بقوة لترجيح كفته عبر التصدي لتلك القوى التي يتهمها علنا بالتبعية للخارج والتآمر على الدولة ومحاولة ضرب مؤسساتها والمساس من مقام الرئاسة، ويصف عناصرها بالإرهابيين والمجرمين، وهو ما يؤكد أن الرئيس غير مستعد للحوار مع تلك القوى وإنما يدعو بوضوح إلى مقاضاتها وتوقيع العقوبة عليها.

ومن بين الشخصيات القابعة حاليا وراء القضبان رجل الأعمال المتنفذ كمال اللطيف الذي يوصف منذ ثمانينات القرن الماضي برجل الولايات المتحدة في تونس، وكان له دور مهم في كثير من الأحداث التي عرفتها البلاد، ودخل في صراعات مفتوحة مع عدد من القيادات السياسية من بينها الرئيس السابق الراحل زين العابدين بن علي، وكان وراء إعادة الراحل الباجي قائد السبسي إلى السلطة عام 2011، عندما أشار على الرئيس المؤقت آنذاك فؤاد المبزع بتكليفه برئاسة الحكومة بدلا من محمد الغنوشي، كما يذكر أنه تعرض لحملات عدائية واسعة شنها ضده أغلب الفاعلين السياسيين وخاصة تيار الإسلام السياسي، وتم اتهامه بالوقوف وراء فشل حكومات تداولت على الحكم منذ وصول حركة النهضة إلى السلطة، من خلال نفوذه الواسع داخل أجهزة الدولة ومنظومتها العميقة وخاصة جهاز الأمن والقطاع الإعلامي.

في مناسبات كثيرة جرى الحديث عن اللطيف ودعيت الدولة إلى توقيفه عند حده، ولكن لا أحد تجرأ على ذلك، وقد رأى البعض أن للرجل الغامض حصانة لا تتوفر لغيره، وتتمثل في الغطاء الأميركي الذي كان يحميه من الملاحقات. لكن في هذه المرة تم توقيفه والزج به في السجن بسبب لقاءاته مع عدد من قادة المعارضة ومع بعض السفراء الغربيين في سياق ما وصفته بعض المصادر بمخطط التآمر على الدولة، وتم الترويج على أنه مخطط الانقلاب على النظام، لاسيما أن اسم اللطيف يتردد على أنه كان أحد المخططين البارزين للانقلاب “الصحي” على الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة عام 1987، وكان قريبا من الرئيس بن علي إلى أن اختلف معه في بداية التسعينات.

الشخصية الثانية التي يعتبر توقيفها رسالة إلى الغرب هي خيّام التركي الذي ظهر على المشهد السياسي كقيادي في حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر، الذي تولى رئاسة المجلس التأسيسي إثر انتخابات أكتوبر 2011، وذلك ضمن تحالف ثلاثي مع حركة النهضة الإخوانية برئاسة راشد الغنوشي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بقيادة المنصف المرزوقي، الذي تولى رئاسة الدولة آنذاك فيما ذهبت رئاسة الحكومة للنهضة، وفق ما سمي بتحالف الترويكا 1 و2. وفي مناسبات عدة تم إخراج اسم التركي من الأدراج بغاية ترشيحه لمنصب سياسي، لكن الكثير من الخلافات كانت تحول دون ذلك، بسبب عدم القدرة على تحديد الهوية السياسية الفعلية للرجل، رغم أن كل المؤشرات تدل على أنه ليبرالي علماني يحظى بعلاقات واسعة على الصعيدين المالي والاقتصادي في أوروبا والخليج، وهو قريب من عدد من الأوساط الأميركية، ويحمل الجنسية الإسبانية. وفي منتصف يناير الماضي غادر البلاد بواسطة جواز سفره الإسباني، ويبدو أن تقارير أمنية تحدثت عن اجتماعات عقدها مع معارضين تونسيين في الخارج ومع شخصيات أجنبية حول الوضع داخل تونس، وبعد عودته كانت له لقاءات مع قيادة ما تسمى جبهة الخلاص في إطار مساع لتقديمه كشخصية توافقية يمكن أن يجتمع حولها أغلب أطياف المعارضة.

ومن الرسائل التي لا تخطئ عنوانها، فتح ملفات التحقيق مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ومنعه من السفر، ولكن دون الزج به في السجن، وهو أمر مرتبط بالتزام واضح بعدم الدفع نحو المزيد من توتير العلاقات مع الإخوان، رغم أن أبرز مساعدين للغنوشي في قيادة حركة النهضة يقبعان وراء القضبان بتهم تتعلق بالإرهاب، وهما علي العريض الذي سبق أن تولى رئاسة الحكومة ووزارة الداخلية، ونورالدين البحيري الذي كان قد تولى وزارة العدل ورئاسة كتلة الحركة في مجلس النواب. كما أن شخصيات أخرى مهمة في النهضة تم توقيفها في إطار إرباك الحركة وتقليص حضورها وتحويلها من موقع الهجوم إلى موقف الدفاع عن وجودها الذي بات مهددا بشكل غير مسبوق منذ تأسيسها، وهو ما يشير إلى أن الرئيس سعيد يبدو حاسما في رفضه لكل محاولات الوساطة بينه وبين الغنوشي، أو تليين موقفه من تيار الإسلام السياسي الناشط في البلاد، وفي التنازل عن مبدأ المحاسبة الذي طالما نادى به منذ توليه رئاسة البلاد عام 2019 ثم بعد التدابير الاستثنائية التي اتخذها في 25 يوليو 2021.

رسالة أخرى توجه بها الرئيس سعيد إلى عواصم الاتحاد الأوروبي والغرب عموما، عندما أمر السلطات المختصة في بلاده بطرد الأمينة العامة للكونفيدرالية الأوروبية للنقابات إيستر لينش، بعد مشاركتها في مسيرة عمالية بمدينة صفاقس، متهما إياها بالإدلاء بتصريحات فيها تدخل سافر في الشأن الداخلي التونسي، وهو ما تم فعلا، وأثار جدلا واسعا في الداخل والخارج، ودفع نحو تعميق الهوة بين الرئيس وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، ولدى أنصار كلا الطرفين، حيث يبدو الاتحاد عرضة لانتقادات واسعة من قبل التيار الموالي للرئيس، وتحت ضغط التهديدات المباشرة وغير المباشرة خصوصا مع وجود شبه إجماع على أن التوافق بين الحكومة والنقابات يبدو مستحيلا حول الإصلاحات الاقتصادية التي أصبحت أمرا ضروريا للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.

وإذا كان الأمين العام للاتحاد قد غادر نحو الجزائر في زيارة عاجلة بدعوة من الطرف الجزائري الساعي للوساطة بين القيادة النقابية ومؤسسة الرئاسة، فإن توقيف هذا الناشط النقابي أو ذاك يشير إلى أن لا أحد يكبر في عين السلطة الحالية، وأن المعركة قد تتطور في أي لحظة. كما أن علاقات الاتحاد الخارجية ودوره المؤثر إقليميا ودوليا لا يعطيانه صكا على بياض، لاسيما أن القطيعة مع الاتحاد أصبحت واحدة من نقاط القوة التي يعتمد عليها الرئيس في دعم شعبيته.

ولا يمكن فصل موقف مجلس الأمن القومي من المهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول ما وراء الصحراء، والذين تكاثرت أعدادهم بشكل غير مسبوق، عن واقع الرسائل التونسية لدول الضفة الشمالية للمتوسط، فتونس التي كانت تستوعب في صمت الآلاف من المدفوعين إليها من الصحراء الكبرى وخاصة عبر الجزائر، وتسمح لهم بالإقامة على أراضيها دون أي مسوغات قانونية، حتى تحولوا إلى ظاهرة مربكة للتجانس الاجتماعي والثقافي في البلاد.

وأشارت تونس على لسان رئيسها إلى الأموال التي تدفقت على أطراف داخلية منذ عام 2011 لفرض هذا الواقع المستجد، وأكدت في رسالة مضمونة الوصول أنها غير مستعدة للاستمرار في هذا الدور، وفي أن تكون استراحة دائمة للمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين بدل عبورهم إلى جنتهم المشتهاة في الساحل الأوروبي المقابل.

وعندما اعتذرت قبل أيام عن استقبال وزير الخارجية الروسي لأسباب وصفتها موسكو بالأمنية، وجهت تونس رسالة إلى الغرب بأنها لا تزال تعتبر نفسها حليفا موثوقا به بالمنطقة. وقد تلقى الرئيس سعيد من بعض العواصم الأوروبية إشارات بأن الأولوية الحالية التي تواجهها حكومته اقتصادية بالأساس، وهي إشارات دعم فسحت أمامه مجال التصدي لما يعتبره محاولات للمساس من الدولة والنظام والسلم الأهلي، وأعطته مساحة لتأكيد شعبيته بما يتيح أمامه الفرصة لتنفيذ الإصلاحيات السياسية والاقتصادية التي يعد بها على نطاق واسع. فالرئيس التونسي يدرك جيدا كيف يستثمر الفرص ومتى يوجه رسائله، وكيف يحقق أهدافه، وكيف يضمن أن القطار يسير على السكة بالشكل الذي يريده له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى