البشير عبيد: غزة: الصمود الإستثنائي ومختبر التحولات الإقليمية

البشير عبيد 30-9-2025: غزة: الصمود الإستثنائي ومختبر التحولات الإقليمية
تقف غزة اليوم كرمز حي للصمود والمقاومة المستمرة، ليست مجرد مساحة جغرافية ضيقة على ساحل البحر المتوسط، بل مختبر حي لفهم التفاعلات السياسية والإقليمية والدولية. يبلغ طول الشريط الساحلي الذي تحتضنه غزة نحو أربعين كيلومترًا، وعرضه لا يتجاوز عشرة كيلومترات، لكنها مليئة بالتحديات اليومية التي تعكس حجم الصعوبات التي يعيشها سكانها تحت الحصار المستمر منذ عقود. في هذه المدينة، التي تجاوزت التحديات الإنسانية والسياسية، يظهر بوضوح قدرة الإنسان على التكيف والصمود، إذ أن الحياة اليومية هنا تمثل صراعًا مستمرًا بين البقاء والمقاومة، بين الواقع القاسي والأمل المستمر.
تاريخ غزة الطويل والمعقد يجعلها نموذجًا فريدًا على الصعيد الإقليمي. فقد مرت عبر الحضارات القديمة، الفترات الإسلامية والعثمانية، وصولًا إلى الانتداب البريطاني، ثم الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي الحديث. اللاجئون الفلسطينيون، والمخيمات المكتظة، والجيل الجديد الذي نشأ تحت الحصار المستمر، يشكلون نسيجًا اجتماعيًا معقدًا يتفاعل مباشرة مع الأحداث السياسية والإقليمية. هذا الواقع يجعل من غزة مرآة لفهم ديناميكيات المنطقة، حيث كل حدث صغير أو تصعيد عسكري يعكس إعادة ترتيب التحالفات، ويؤثر في السياسات الإقليمية والدولية.
بالإضافة إلى ذلك، غزة تمثل حالة دراسة مثالية لمراكز الدراسات والأبحاث السياسية، إذ تمكن الباحثين من دراسة أثر النزاعات المستمرة على المجتمع المدني، وفهم استراتيجيات الصمود، وتحليل تأثير القوى الإقليمية والدولية في المنطقة. أي قراءة تحليلية دون رصد هذا الواقع ستكون ناقصة، لأن المدينة تقدم نموذجًا حيًا لفهم العلاقة بين القوة، السياسة، والمجتمع.
الحرب الأخيرة وتحولات القوى الإقليمية
الحرب الأخيرة على غزة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية محلية، بل تجربة شاملة تكشف تعقيد المشهد العسكري والسياسي في المنطقة. شاركت فيها عدة أطراف إقليمية ودولية، سواء بشكل مباشر أو عبر دعم سياسي واقتصادي وإعلامي، ما جعل كل صاروخ يُطلق، وكل ضربة جوية، وكل تصريح سياسي، جزءًا من شبكة تأثير متعددة الأبعاد. صمود السكان تحت الحصار والتهديد المستمر جعل غزة محورًا حاسمًا في إعادة حسابات القوى الإقليمية والدولية، واضطر الأطراف الإقليمية إلى إعادة تقييم استراتيجياتها لتوازن النفوذ وتحقيق أهدافها السياسية.
التحولات الأخيرة أظهرت بروز محاور جديدة أكثر مرونة وسرعة في التأثير، بينما تراجعت قدرة بعض القوى التقليدية على فرض سيطرتها المباشرة. دعم الأطراف الإقليمية للأطراف الفلسطينية، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو إعلاميًا، أعاد توزيع النفوذ وجعل غزة مؤشرًا استراتيجيًا لكل لاعب يسعى لتأكيد وجوده وقدرته على التأثير في المنطقة.
الحرب الأخيرة كشفت أيضًا عن حقيقة التوازن العسكري الهش، إذ أظهرت قدرة المقاومة الفلسطينية على استخدام وسائل غير تقليدية، بما في ذلك صواريخ محلية الصنع ونظم دفاعية محدودة لكنها فعالة. هذا أظهر أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي، بل الصمود الاجتماعي والتكيف اليومي يمثلان جزءًا أساسيًا من المعادلة. هذه التجربة تجعل من غزة حالة دراسة مهمة لمراكز الأبحاث، حيث يمكن تحليل استراتيجيات الصمود المدني ومرونة السكان في مواجهة التفوق العسكري التقليدي، بالإضافة إلى رصد قدرة المجتمع الدولي على التأثير عبر الوسائل الدبلوماسية والإنسانية.
البعد الإنساني و الاجتماعي
البعد الإنساني والاجتماعي في غزة هو جوهر المعادلة وفهمه ضروري لأي دراسة سياسية. الحصار الطويل، وتكرار الحروب، وتدمير البنية التحتية جعل الحياة اليومية صعبة للغاية. الكهرباء والمياه محدودة، المدارس والمستشفيات متضررة جزئيًا أو كليًا، والبطالة مرتفعة بشكل غير مسبوق، خصوصًا بين الشباب. الاقتصاد المنهك أدى إلى ظهور أسواق غير رسمية ومبادرات محلية محدودة، لكنها جزء من مرونة السكان وصمودهم، كما أنها تعكس قدرة المجتمع على التكيف مع الواقع القاسي والقيود المفروضة.
إضافة إلى ذلك، التعليم والفن والمبادرات المجتمعية تمثل أدوات مقاومة غير مباشرة، تحافظ على الهوية الوطنية وتعزز القدرة على التكيف وسط الظروف الصعبة. الأطفال الذين نشأوا تحت الحصار يتعلمون منذ سن مبكرة معنى الصمود والمقاومة، والشباب يسعون لتطوير مهاراتهم لإيجاد فرص اقتصادية محدودة، والنساء يحملن أعباء الأسرة والمجتمع في الوقت نفسه. كل هذه العناصر تجعل غزة مختبرًا حيًا للتفاعل بين السياسة، الاقتصاد، والمجتمع المدني، وفهم هذا البعد أمر ضروري لمراكز الدراسات لتحليل أي سياسات إقليمية أو دولية مستقبلية.
البعد الإنساني يتجاوز الخدمات الأساسية، فهو يشمل الحياة اليومية التي تفرض على السكان صمودًا مستمرًا، بدءًا من مواجهة نقص المياه والطاقة، مرورًا بعمليات إعادة البناء بعد كل هجوم، وانتهاءً بالمبادرات الثقافية والتعليمية التي تحافظ على الهوية الفلسطينية، وتربط الماضي بالحاضر، وتبني آفاق المستقبل رغم القيود المفروضة. وقد أظهرت دراسات محلية أن دعم المجتمع المدني، مثل المبادرات التعليمية والمشاريع الصغيرة، يلعب دورًا استراتيجيًا في تعزيز الصمود وتقليل آثار الأزمات الاقتصادية
الموقف الدولي والسيناريوهات المستقبلية
الموقف الدولي كشف عن حدود قدرة القوى الكبرى على فرض سياسات موحدة أو تحقيق تسويات سريعة. الولايات المتحدة، القوى الأوروبية، والمنظمات الدولية كلهم يشكلون شبكة تأثير مختلفة تؤثر على مجريات الحرب وقدرة الأطراف الإقليمية على فرض إراداتها. تدخل المجتمع الدولي، سواء بالضغط السياسي أو الدعم الإنساني، يرتبط مباشرة بواقع السكان وصمودهم، ما يجعل أي تحليل للمشهد الدولي مرتبط بالمعطيات الميدانية والإنسانية.
السيناريوهات المستقبلية تشمل تسوية جزئية تتضمن وقف إطلاق النار وفتح معابر محدودة، تصعيد مستمر يضاعف الكلفة الإنسانية ويعيد ترتيب التحالفات الإقليمية، مبادرات إقليمية شاملة تتطلب تنسيقًا عالي المستوى بين القوى الكبرى، أو حلول مبتكرة بدعم التنمية المستدامة لتحسين البنية التحتية والتعليم والصحة وربطها بالحلول السياسية. كل سيناريو يعتمد على توازن القوى الإقليمية والدولية، صمود السكان، وقدرة الأطراف على الالتزام بالحلول العملية.
كما أن السيناريوهات المستقبلية تتضمن أبعادًا اقتصادية وثقافية واجتماعية، إذ أن أي استقرار مستقبلي يتطلب دعمًا حقيقيًا للمجتمع المدني، وتحسين البنية التحتية، وتوفير فرص العمل للشباب، ودعم التعليم، وإعطاء مساحة أكبر للمبادرات المجتمعية. من هذا المنطلق، تصبح غزة نموذجًا حقيقيًا لفهم الصمود والتحولات الكبرى، ودور مراكز الدراسات في تقديم تحليلات دقيقة تسهم في صنع السياسات الإقليمية والدولية، بما يعزز قدرة الباحثين على تقديم توصيات عملية تستند إلى الواقع الميداني والتحليل الموضوعي للمعطيات الإنسانية والسياسية.
خاتمة: غزة رمز الصمود والتحولات الكبرى
غزة ليست مجرد مدينة تواجه الاحتلال والحصار؛ إنها مرآة تعكس حدود القوة لكل لاعب إقليمي ودولي، ومؤشر حي على قدرة المجتمع الدولي على التأثير، واختبار لصمود الإنسان ومقاومته اليومية. صمود الغزيين يعكس إرادة قوية للتكيف مع الصعوبات، ويضع أي تحليل سياسي أو إقليمي أمام ضرورة فهم الواقع الميداني والإنساني بشكل معمق. من هنا، تصبح غزة أيقونة للصمود ومؤشرًا للمشهد الإقليمي والدولي، ومختبرًا لمعرفة حدود القوة وصعوبة فرض السيطرة المطلقة. أي محاولة لتحليل المشهد الإقليمي أو صياغة حلول سياسية دون المرور بغزة ستكون ناقصة، لأن المدينة تعلمنا أن القوة ليست فقط في السلاح أو السياسة، بل في الإرادة الحية للإنسان على البقاء والمقاومة والتفاعل مع الظروف المعقدة.