#شوؤن دولية

“البحر الأسود”… ميدان للردع البحري بين الولايات المتحدة وروسيا

آية عبد العزيز * ، ١-٧-٢٠١٩

تجددت مرحلة أخرى من التنافس في منطقة البحر الأسود بين الولايات المتحدة الأميركية ورسيا، تجلت في تنامي عدد المناورات العسكرية، وتعزيز القوات الدفاعية والعسكرية للجانبين للحفاظ على توزان القوى في المنطقة لصالح واشنطن وحلفاءها، فضلاً عن سعيهم إلى تطويق موسكو في محيطها الجغرافي وعمقها الاستراتيجي.  

تجسد ذلك مع إعلان “يوري بوريسوف” نائب رئيس الوزراء الروسي، خلال اجتماع عقد في مدينة سيفاستوبل “إلى أن بلاده عززت من قدراتها البحرية المتمركزة في  “البحر الأسود” بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة، تمثل في زيادة عدد السفن الحربية التي بلغت 23 سفينة وزورقًا قتاليًا، و10 سفن مساندة، و6 غواصات مزودة بصواريخ “كاليبر” المجنحة بعيدة المدى”، وذلك بعد استعادة شبه جزيرة القرم في عام 2014 لدعم القدرات العسكرية الروسية التي شهدت تراجعًا حادًا إبان الحرب الباردة ومع انهيار الاتحاد السوفيتي. (1)

دوافع التحرك الروسي

جاء التحرك الروسي الأخير على خلفية رصد مجموعة من عمليات الاستطلاع الجوي في المنطقة من قبل واشنطن باستخدام طائرتين حربيتين؛ حيث حلقت الطائرة الأولى بالقرب من إقليم كراسنودار الروسي، وعلى طول الشاطئ الجنوبي لشبة جزيرة القرم، لعدد من الساعات التي امتدت لفترات طويلة. تزامنًا مع تحليق طائرة تجسس إلكترونية على طول الساحل الغربي والجنوبي للقرم وحتى مضيق كيرتش. (2)

بجانب قيام القوات البحرية التابعة لحلف شمال الأطلسي بتدريبات ومناورات عسكرية في المنطقة، شاركت فيها خمس سفن حربية تابعة للحلف تقودها رومانيا بمشاركة كل من كندا واليونان وتركيا وهولندا، خلال الفترة الممتدة من 5 إلى 13 أبريل/نيسان2019. مع تعهد مسؤولو الولايات المتحدة وحلف الناتو بزيادة وجودهم في البحر الأسود للرد على سياسات موسكو الصارمة، “خاصة في المياه القريبة من شبه جزيرة القرم، بعد ضمها في 2014”.

والجدير بالذكر، قيام قوات تابعة للحلف بالتحرك بإعادة التمركز والانتشار، علاوة على إرسال مدمرات تابعة للأسطول الأميركي للقيام بعمليات استطلاع ومهام استكشافية امتددت لفترات طويلة، فعلى سبيل المثال قضت سفن الناتو 4 شهور في البحر الأسود في 2018 مقارنة بـ 80  يوم في عام 2017. (3)

فضلاً عن تحرك بعد السفن العسكرية التابعة لأوكرانيا لعبور البحر الأسود متجهه إلى بحر آزوف في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 ، الأمر الذي أدى إلى أول مواجهة عسكرية بين موسكو كييف، أسفر عن احتجاز موسكو للسفن الأوكرانية بطواقهم التي بلغ عددهم 24 بحارًا.

وعليه فقد بدأ الأسطول البحري الروسي في دعم تواجده في المنطقة من خلال تنامي عدد المناورات العسكرية، والقيام بتدريبات موازية للقوى الغربية في نفس التوقيت للردع الآمن لهم دون التصعيد، لأن المواجهة العسكرية التي ستنعكس بشكل سلبي على الجانبين.

تجلى ذلك في إعلان وزارة الدفاع الروسية قيام وحدات أربع سفن سطحية تابعة للبحرية الروسية وغواصة في التدريبات تابعة للأسطول الروسي، بتدريبات قتالية ضد عدو محاكي يتكون من مجموعات تكتيكية وسفن فردية وطائرات بدون طيار وأنظمة الصواريخ المضادة للسفن الساحلية، للكشف عن الأهداف وضبط نيران المدفعية في قاعدة القرم البحرية، لضمان سلامة الملاحة والتدريب القتالي للقوات البحرية في البحر. (4)

الأهمية الجيو-استراتيجية للبحر الأسود

        تتميز منطقة البحر الأسود بأهمية استراتيجية تزايدت مع استعادة روسيا مكانتها في النظام العالمي، التي تراجعت مع إنهيار الاتحاد السوفيتي. بالرغم من أن روسيا حافظت على التصور بأن جمهورياتها السوفيتية السابقة – ومنطقة البحر الأسود – تنتمي إلى مجال نفوذها الطبيعي، إلا أنها افتقرت إلى القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية لفرض إرادتها بالكامل عليهم.

ولكن هذه السياسة لم تستمر طويلًا مع إدراك موسكو، رغبتها في استعادة مكانتها الإقليمية للرد على الثورات الملونة التي امتدت في عمقها الاستراتيجية، في جورجيا (2003-2004) وفي أوكرانيا (2004-2005)، علاوة على توسع الناتو في منطقة أوروبا الشرقية بضم كل من بلغاريا ورومانيا في عام 2004، مما أدى إلى أن وجود ثلاث من الدول الساحلية الستة الواقعة على البحر الأسود أعضاء في حلف الناتو، ودولتين أخريين، أوكرانيا وجورجيا، يرغبان في التعاون والتنسيق مع القوى الغربية والناتو الذي ينظر إلى منطقة البحر الأسود على إنه منطقة جيواستراتيجية للأمن الأوروبي الأطلسي.

نظرت روسيا إلى هذه الأحداث على أنها انتهاك لمناطق نفوذها، وعليه سعت موسكو إلى تبني استراتيجية الردع السلمي من خلال توازن القوى، وتوظيف قواتها ومقدراتها من الطاقة للضغط علي هذه الدول لوقف التمدد الغربي في محيطها الأمين، تمثل في استخدام  سلاح الطاقة كأداة للتأثير على أوكرانيا في عام 2006 ثم مرة أخرى في عام 2009، عندما توقفت روسيا مؤقتًا عن توفير الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر أوكرانيا وزيادة أسعار الطاقة الروسية.

بالإضافة إلى التصدي إلى محاولة ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو، علاوة على ضم شبه جزيرة القرم واستعادتها بناءًا على استفتاء شعبي، وذلك تمهيدًا إلى زيادة التعزيزات العسكرية في المنطقة مع خلال نشر S300 و S400، ووحدات الدفاع الساحلية Bastion-P، وغيرها من أنظمة الصواريخ المضادة للأجسام المضادة للسطح.

وهنا لابد من التوضيح نقطة مهمة وهو أن إعادة التمركز والانتشار الروسية لم تتوقف عند حدودها ولكنها استطاعت خلق مجال نفوذ لها في الشرق الأوسط من خلال التدخل العسكري في سوريا، بناءًا على طلب من الرئيس السوري “بشار الأسد” في سبتمبر 2015 لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة، أظهرت روسيا قدرتها على إسقاط عناصر من أسطول البحر الأسود، ونشرت كل من الدفاعية ( S300) والأنظمة الهجومية (SS-26) في مسرح العمليات. وتعمل موسكو الآن على دعم قدراتها العسكرية من خلال التوسع في قواعدها الخارجية مثل القاعدة الجوية المتمركزة في اللاذقية بسوريا، مع تجديد منشآتها البحرية في طرطوس لتصبح أكبر قاعدة روسية خارج نطاق حدودها قادرة على استضافة ما يصل إلى 11 سفينة في آن واحد، علاوة على إبرامها اتفاقية مع قبرص تسمح للسفن الروسية بالرسو في موانيها. (5)

البحر الأسود في الاستراتيجية الأوروبية

تعد منطقة البحر الأسود ذات أهمية استراتيجية وأمنية لأوروبا، كونها مفترق طرق رئيسي وتقاطع بين الممرات بين أوروبا والشرق الأوسط، من شرق البلقان إلى جنوب القوقاز؛ حيث يعتقد العديد من الخبراء أن كل من يسيطر على البحر الأسود، يمكنه التحكم في مسار التفاعلات الأمنية والدفاعية داخل الأقليم الأوروبي.

كما تُعد المنطقة موطن لثلاثة أعضاء في الناتو (بلغاريا ورومانيا وتركيا) والعديد من الدول الشريكة في الناتو، لذلك فإن أي عدم استقرار أو عداء في المنطقة يؤثر بشكل مباشر على الحلف. وعليه يمثل أي تحرك لموسكو في المنطقة تحدي مباشر للأمن الأوروبي، وخاصة مع المتغيرات الإقليمية والدولية المتلاحقة في الآونة الأخيرة، وانتهاج الإدارة استراتيجية مغايرة تجاه الأمن الأوروبي، الأمر الذي انعكس على الاستقرار في المنطقة.

تجلى ذلك في التحركات الاستفزازية، وعمليات الاستطلاع التي تقوم بها الدول الغربية، وقيام موسكو بالرد عليها من خلال زيادة التعزيزات البحرية في المنطقة الأمر الذي يمثل تحديدًا لأوروبا، كما تجلى ذلك في  نزاع روسيا مع جورجيا في عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. لذا تمثل التفاعلات في منطقة البحر الأسود انعكس مباشر على استقرار الأوروبي، وهو ما تدركه القيادة الأوروبية بشكل كبير وفي مقدمتهم المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، والرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الذين أكدوا مرارًا على أهمية التنسيق والتعاون مع موسكو لحماية وضمان استقرار الأمن الأرووبي، مع رفضهم التدخلات الروسية في شرق أوكرانيا، وفي دول كومنوليث الاتحاد السوفيتي.(6)

المركز العربي للبحوث والدراسات

المراجع

1. روسيا تعزز أسطول البحر الأسود بسفن وغواصات متطورة“، روسيا اليوم، 21/6/2019. http://cutt.us/CFBf7

2. “طائرات استطلاع غربية تتجسس على الشواطئ الروسية “، روسيا اليوم، 11/6/2019. http://cutt.us/4UYIL

3. Russian navy tracks U.S. destroyer as it reaches Black Sea “, Ahval News, 15/4/2019. https://ahvalnews.com/black-sea/russian-navy-tracks-us-destroyer-it-reaches-black-sea

4. Russian Black Sea Fleet holds drills parallel to NATO exercises”, Xinhua News, 17/4/2019. http://www.xinhuanet.com/english/2019-04/17/c_137985583.htm

5. The Geostrategic Importance of the Black Sea Region: A Brief History“, Center for Strategic and International Studies, 2 February  2017 .

https://www.csis.org/analysis/geostrategic-importance-black-sea-region-brief-history

6. The Black Sea region: a critical intersection“, 25/5/2018. https://www.nato.int/docu/review/2018/Also-in-2018/the-black-sea-region-a-critical-intersection-nato-security/EN/index.htm

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى