#شوؤن عربية

الانتخابات المغربية في مرحلة ما بعد هيمنة حزب العدالة والتنمية : السياقات والتوقعات

نبيل زكاوي *- 7/9/2021

يتناول هذا المقال الانتخابات المغربية العامة البرلمانية والجماعية والجهوية والسياقات المعقدة التي تجري فيها ومآلاتها وما هي فرص وحظوظ الفاعلين المشاركين وخصوصًا حزب العدالة والتنمية الذي يتولى رئاسة الحكومة.

تخوض الأحزاب السياسية المغربية نزال الانتخابات العامة (برلمانية وجماعية وجهوية) في موعد تزامني، يوم 8 سبتمبر/أيلول الجاري (2021)؛ حيث سيصوِّت الناخبون في نفس الآن لاختيار ممثليهم محليًّا ووطنيًّا. وتحاول هذه الورقة أن تستشرف شكل الخريطة السياسية للانتخابات البرلمانية على الخصوص بالنظر لرهاناتها الداخلية، لأنها لن تحدد فقط معالم الحكومة الجديدة بل مستقبل حزب العدالة والتنمية ليس فقط في ضوء النتائج المنتظرة، وإنما أخذًا بعين الاعتبار مساره التطوري السابق على الانتخابات والمرتبط بتقييم تجربته الحكومية.

طبعًا ينبغي استحضار السياق الخارجي لهذه الانتخابات؛ حيث توقف قطار تجربة الإسلام السياسي في الحكم ببلدان الربيع العربي، غير أنه ليس معيارًا بالغ الأهمية لتحديد مستقبل الحزب الإسلامي المغربي، وذلك لأن المحيط لا يستطيع أن يمارس أية ضغوط في هذا الشأن أمام استقلالية قرارات النظام السياسي بالمغرب.

ولذلك، ما يمكن أن ينال من نتائج الانتخابات الحالية فعلًا هو فقط عدم اليقين الهيكلي الذي زرعه فيروس كورونا ويمكن للاقتراع أن ينطبع به، بحيث ينبغي ألا يحيد عن الأذهان، والنتائج النهائية في الانتظار، أنه مهما بلغت جدية التكهنات، فتوقع غير المتوقع قد يكون سيد الموقف.

انتخابات سياق الأزمة وتحديات قديمة متحوِّرة

تُجرى الانتخابات في وقت يستمر فيه وباء كورونا في انتشاره بالمغرب؛ حيث في ضوء المخاوف بشأن المخاطر الصحية فرضت وزارة الداخلية قيودًا على الأساليب التقليدية للحملات الانتخابية(1)، وهو ما جعل هذه الأخيرة تبدو فاترة ميدانيًّا، ويبدو أن حزب العدالة والتنمية هو المتضرر الرئيسي من ذلك على اعتبار أن قدراته الانتخابية تعتمد بشكل أساسي على التواصل المباشر مع الناخبين. وقد تبيَّن أن الأحزاب لا تلتزم بهذه التدابير، وعلى مرأى من أجهزة السلطات العمومية، التي تتغاضى في الغالب عن ذلك، لأنها تراهن على الرفع من نسبة مشاركة الناخبين؛ حيث لم تتوجس معظم الأحزاب من التحريك العلني للمواكب الدعائية للمرشحين، الذي انزلق في بعض الأحيان إلى عنف انتخابي بين الأنصار، فضلًا عن حوادث متفرقة لعنف ممارَس على المرشحين من قبل بعض المواطنين الساخطين.

وبخلاف ذلك، ازدهرت أعمال “الاقتصاد الانتخابي” من قبيل تعبئة متعهدين مأجورين، خاصة من الشباب العاطلين، لتوزيع المناشير والملصقات الانتخابية. ويظهر أن ساحات المجال الإلكتروني، لاسيما وسائط التواصل الاجتماعي، صارت البديل الأنسب لتنشيط الحملات الانتخابية، ليس فقط لأنها تستجيب لفروض التباعد الاجتماعي، ولكن لأهمية نطاق الاستهداف فيها في مقابل توفير الوقت والجهد والتكلفة المادية. غير أن ما يلاحظ عليها هو نوع من التدفق الانتشاري للوائح الترشيحات دون أن يقترن ذلك بعرض وشرح البرامج الانتخابية، وهو ما يعكس حقيقة أن التنافس بين الأحزاب هو تنافس على تعظيم المقاعد وليس على عروض البرامج. ولذلك غالبًا ما لا يرى أو يسمع الناخبون عن البرامج الانتخابية، بل حتى هم لا يرهقون أنفسهم بالاطلاع عليها في الوقت الذي يفترض أن يرجحوا بين الأحزاب وفق برامجها. “وبناء على ذلك، فإن البتَّ في الانتخابات نادرًا ما له علاقة ببرنامج ومبادئ الحزب حيث قرار التصويت يجري وفق محيط انفعالي وليس وفق وجهات نظر منطقية. فهذا القرار يُبَتُّ بين الأصدقاء، على طاولة اللقاءات الدائمة، ضمن العائلة، أو في مكان العمل”(2).

وفي الوقت الذي يهدد الوباء الصحة العامة، بما في ذلك سلامة الناخبين، تثير إدارة الانتخابات في زمن الوباء عدة تحديات، فبصرف النظر عن الإعدادات التقنية المتعلقة بشفافية السلوك الانتخابي، هناك مخاوف بشأن الأمن الصحي، والتي تتطلب حلولًا إضافية، حيث يحتاج الإطار الانتخابي كذلك إلى التفكير في حلول للجائحة. وهو ما لم يتم استحضاره مع الإبقاء على نفس أشكال التصويت السابقة على مرحلة الوباء. ذلك أن السلطات الانتخابية، باستثناء ما فرضته من قيود على الحملات الانتخابية، لم تقدم خطة لإدارة مخاطر الانتخابات في ظل تفشي المرض، والمرتبطة بتجمعات الناخبين يوم الاقتراع؛ إذ كان من الممكن التفكير مثلًا في دمج الحلول الإلكترونية التي يجري تنفيذها في مجالات التعليم والعمل وغيرها، أو التفكير في تمديد عملية الاقتراع إلى أكثر من يوم، بحيث يتمكن الناخبون من الإدلاء بأصواتهم على مدار أيام، لأن ذلك يساعد على توزيع “حركة مرور الناخبين” بدلًا من تجميعها في يوم واحد، ويضمن بالتالي تحقيق التباعد الاجتماعي المطلوب أثناء الوباء. وإذا كان الخيار الثاني يواجه صعوبات لوجستية بحيث يتطلب مزيدًا من الموارد البشرية والمادية قد لا تكون متاحة لدى الدولة، خاصة في الظرفية الصعبة الحالية، إلا أنه يظل حلًّا “منخفض التقنية” مقارنة بالخيار الأول. ومع ذلك فكلاهما في سياق ديمقراطية هشة -والحالة هذه بالمغرب- قد يقوض بعض جوانب العملية الانتخابية لاسيما ما يتعلق بسرية وشفافية الاقتراع؛ “إذ من المرجح أن يؤدي الاعتماد المتأخر للممارسات الجديدة (وعدم اختبارها مسبقًا) إلى فرض ضغوط كبيرة على مسؤولي الانتخابات وتهديد جودة إدارة الانتخابات”(3).

ولعل التحدي الأبرز في ظل “انتخابات كورونا” هو تحدي المشاركة العامة؛ إذ كيف يمكن تحفيزها في ظل سياق أزمة متشابكة الأبعاد: سياق أزمة الثقة السياسية حيث الخيارات محدودة أمام الناخبين للمفاضلة الاضطرارية بين أحزاب غير موثوقة أصلًا، علمًا بأن هناك علاقة طردية بين منسوب الثقة في الأحزاب السياسية والمشاركة الانتخابية؛ إذ خلص أحدث تقرير وطني حول مؤشر الثقة في المؤسسات إلى أن “ما يقارب 84 في المئة من المستجوَبين الذين عبَّروا بأنهم لا ينوون التصويت في الانتخابات المقبلة أكدوا أنهم لا يثقون في الأحزاب”(4)، مع تسجيل أن “الثقة في الأحزاب السياسية تعد من بين أدنى مستويات الثقة التي شملها استطلاع مؤشر الثقة بمتوسط 22 في المئة. ويكمن التصور العام في كون الأحزاب السياسية مهتمة بشكل رئيسي بتراكم السلطة والموارد المالية والامتيازات بدلًا من تمثيل السكان”(5).

ثم هناك سياق الأزمة الصحية التي تفرض الحد من حركة الناخبين، على أن هذا التحدي يؤرق الفاعل الحزبي والدولة على السواء. ذلك أنه ليست الأحزاب وحدها من يعبئ الناخبين للتصويت بهدف زيادة مكاسبها من أصواتهم، وإنما حتى الدولة تعمل على ذلك عبر وسائل الإعلام العمومي، فهي تحتاج لإبراز قدرتها على ضمان الاستقرار الانتخابي، الذي لا يعكسه فقط الحرص على تنظيم الانتخابات في موعدها برغم الوضع الصحي الراهن، ولكن أساسًا السعي لتحقيق نسبة مشاركة تؤمِّن عتبة الشرعية الانتخابية، وتكفل بالتالي للدولة بأن تستعرض قدرتها على إنجاح الدورة الانتخابية الجارية. ذلك أن العديد من الانتخابات التي أُجريت في دول مختلفة في ظل تفشي كوفيد-19 أبانت أنه “يمكن للفيروس نفسه أن يثني الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم ويؤثر على المستويات الإجمالية للإقبال. في الوقت الذي ينظر الكثيرون إلى إقبال الناخبين على أنه عامل حاسم يدعم شرعية الانتخابات، ويوفر التفويضات الانتخابية للقادة، وكمقياس لصحة الديمقراطية بشكل عام”(6).

إذن في ضوء ذينك السياقين، سيكون السلوك الانتخابي بمنزلة تصويت أزمة أكثر منه تصويتًا عقابيًّا لصالح أحزاب لم يسبق أن قادت الحكومة أو تصويتًا احتجاجيًّا قد يعكسه ارتفاع عدد الأصوات الملغاة، وذلك لأن الاختيارات ستكون محدودة أمام الناخبين، ولأنه بغضِّ النظر عن الارتفاع المحتمل في عدد الممتنعين عن التصويت، فإن معدلًا ضئيلًا للمشاركة الانتخابية كفيل بتمرير الطقس الانتخابي، حتى لو كان ذلك سيلقي الشكوك حول التمثيلية وبالتالي على شرعية المنتخبين المحظوظين. فقد عبَّر 44.7٪ من المستجوَبين في مسح الأفروبارومتر الذي أُجري بين سنتي 2016-2018 بأنهم لا ينوون التصويت في انتخابات قادمة(7).

انتخابات بطعم استفتاء على حزب العدالة والتنمية

شكَّل الفوز في محطتين متتاليتين للانتخابات التشريعية، عامي 2011 و2016، علامة فارقة في مسار حزب العدالة والتنمية؛ إذ كما دفع به الفوز إلى المركز السياسي فإنه كثَّف دلالات قوته الانتخابية، التي يثار السؤال حول مدى قدرته على حفظها. ولذلك يحتل مستقبل الحزب الانتخابي موقع القلب في موضوع الانتخابات الجارية ليس فقط بالنسبة له، ولكن كذلك بالنسبة لمنافسيه أو حتى بالنسبة للدولة، حيث يُنتظر من نتائج الاقتراع أن تجيب عن أفق حقبة حزب العدالة والتنمية.

لقد كشفت مواصلة الحزب لتدبير الشأن العام عن محدودية قدرته على التكيف والإنجاز بما يتوافق مع شرعيته الانتخابية، فالحزب يخوض حملته الانتخابية الآن وهو في حالة من عدم التوازن، بحيث تلاحقه أخطاؤه دون أن يكون قد تعلم منها، ولا يزال يتبنى نفس الخطاب ويتبع نفس الأدوات الدعائية دون استحضار اختلاف اليوم عن الأمس، كما يواجه صعوبة ترميم شرعيته جزئيًّا باعتباره حزبًا يدَّعي المرجعية الإسلامية وذلك أمام إشكالية الالتزام القيمي؛ حيث لا يستطيع أن يداري ما يعتبره منتقدوه مساوئ مواقفه التي أثَّرت على صورته ووزنه في الشارع  وذلك مثل قبوله بفرنسة التعليم أو تسليمه بالتطبيع مع إسرائيل وفشله في عدد من الورش التنموية والحقوقية…

 كما يجد الحزب نفسه أمام امتحان شرعية الإنجاز بعدما أنتج فائضًا من خطاب الإصلاح وأفرط في الحكي عنه؛ إذ يستمر في تقديم وعود دون قدرة حقيقية على تنفيذها، ويدافع عن حصيلة أضعفته سياسيًّا ليس فقط بسبب عدم تجانسه مع مكونات حكومته، ولكن لأن هذه الأخيرة باشرت حزمة إصلاحات تَحَمَّل المواطن تكلفتها في الواقع، في مقابل أن الحزب صار يتفادى سؤال الإصلاح الحقيقي ويتخلى عن أهدافه وذلك بعدما وجد نفسه معلقًا في الهواء لقاء عدم قدرته على تعميق معول الإصلاح في تربة بعض مؤسسات الدولة، خاصة شبكة مؤسسات الفساد غير المنظورة؛ حيث ظل الفساد على حاله، حيث احتل المغرب المرتبة 86 عالميًّا في مؤشر مدركات الفساد لسنة 2020 برصيد 40 نقطة فقط(8)، بل إنه تراجع بنقطة عن مؤشر السنة التي سبقتها(9)، وذلك أمام تراجع نطاق الإصلاحات التي سعى الحزب لتبنيها، إما استجابة لضغوط دوائر التحكم أو حتى إرضاء لها، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تصفية بعض الإصلاحات، فمثلًا تلك التي جرى القيام بها في مجال الحريات لم تعمل على توسيعها ولكن على مزيد من تقييدها.

يستمر حزب العدالة والتنمية في السعي للبقاء في السلطة ولو على أشلاء حقبته الحكومية؛ إذ لم يثبت نجاحًا كبيرًا في الاضطلاع بمهام الحزب الحاكم في الوقت الذي تولى رئاسة الحكومة لمدة ليست باليسيرة، حيث لم يكن فعالًا في تحريك الوضع السياسي والحقوقي الراكد (ملف معتقلي حراك الريف، ملف معتقلي الرأي من الصحفيين)، كما لم يستطع أن ينفذ أحلام التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي بشَّر بها، وحتى ما يزعم أنها مشاريع كبرى تحققت في عهده هي في الأصل مشاريع مَلَكية، بل إن لها مفعولًا عكسيًّا على الحزب، لأن ما حققته يُضعف من شرعيته ويدفع الناخبين بعيدًا عنه بالنظر لاستمرار المشاكل التي تمسهم مباشرة، وهو ما ظلت تؤكده كثرة الاحتجاجات في عهده حتى أصبحت جزءًا من الحياة اليومية. وبرغم كل ذلك يصر الحزب على إنكار واقع مرئي لم يعد معه قطاع كبير من المغاربة قادرين على الاستمرار في تحمل تكلفة ما أصبحوا عليه، أو يكونوا حقل تجارب لمزيد من السياسات القاسية.

  لكن في المقابل، وباستحضار أن حزب العدالة والتنمية لم يكن في وسعه أن يقدم لناخبيه أكثر مما قدمته الحكومات السابقة بالنظر لعوامل أخرى موضوعية ليس من مهام هذه الورقة العودة لها، فإن توتر علاقته مع بعض قوى المجتمع وتأزمها مع أحزاب المعارضة ليس دليلًا كافيًا على مقدرة هذه الأخيرة على تقديم نفسها كبديل خاصة حينما يعوزها الإفلاس البرنامجي والانقسام؛ حيث لم تُوجِد تحالفات قَبْلِية لتواجه بها خصمًا ظاهرًا ومعلوم الوزن، ليس بسبب غياب الأساس الفكري والسياسي الذي سيُبنى عليه التحالف، ولكن ربما لأنها لم تعد تشعر بالخطر الانتخابي لحزب العدالة والتنمية؛ حيث ترى أن كسبها مسبقًا انتخابات ممثلي الغرف المهنية وممثلي المأجورين هو مؤشر على أن الانتخابات الحالية لن تفلت منها كذلك، أو ربما لأنها لا تجد غضاضة في التحالف مع حزب العدالة والتنمية حالة عوده في الفوز.

وفي ظل حدة النزال الانتخابي، ينزع خطاب الأحزاب المتنافسة على الصدارة إلى الواقعية والبراغماتية. فمن جهته، لم يعد حزب العدالة والتنمية يستخدم خطاب التشكيك القَبْلي في نتائج الانتخابات برغم أنه يتهم غريمه، حزب التجمع الوطني للأحرار، بالإفساد الانتخابي. بحيث إن ما يهمه هو الإبقاء على قوة التنظيم وتماسكه وذلك حتى يكون أداة ضغط في مفاوضات ما بعد الانتخابات. أما أحزاب الخصومة الانتخابية، فقد أضحت تخفف من حدة مكايدتها للحزب الإسلامي من خلال إبقاء المجتمع في وضعية استنفار أمام فزاعة الاستقطاب الذي قد يسبِّبه فوز جديد له، ويجعله بالتالي من “الأحزاب المهيمنة التي تتصرف باسم أغلبية متخيلة متجانسة تبرر مركزية السلطة وتقويض التعددية”(10)، وتكتفي بمناكفته سياسيًّا من خلال إثارة المخاوف من تكرار سيناريو حكومة أخرى بقيادته.

في الأخير، تستمر بعض قوى المجتمع من الإسلاميين (حركة العدل والإحسان) ومن اليساريين (حزب النهج الديمقراطي) في المجاهرة برفض العملية الانتخابية والسعي لإسقاطها، دون إدراك أن تجاهل الانتخابات -كما تدعو له- لن يحل مشاكل البلاد؛ حيث تكتفي بإبراز أوجه القصور الموجودة في المسلسل الانتخابي، وما ذلك في الحقيقة إلا نوع من المزايدة والعدمية دون تقديم بديل حقيقي، حيث الحزب المذكور ليس لديه موارد بشرية قادرة على خوض الانتخابات بنجاح، في حين أن الحركة المعنية يعوزها الإطار التنظيمي لأنها لا تزال محظورة قانونيًّا في نظر الدولة.

توقعات النتائج والسيناريوهات المحتملة

يُظهر حزبا العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار قدرة عالية على التنافس لحصد العدد الأكبر من المقاعد البرلمانية، لكن هذا لا يعدم إمكانية حدوث مفاجآت. وعلى العموم، فبحكم أن الاستحقاقات الجارية هي انتخابات بطعم استفتاء على حزب العدالة والتنمية، فإن هناك سيناريوهين: أحدهما وجيه لدرجة الوشوك والآخر احتمالي لدرجة الاستبعاد.

السيناريو المرجوح: عودة تراجعية لحزب العدالة والتنمية

هو سيناريو مطروح لكنه ضعيف التحقق، ويتوقف على لا عقلانية الناخب المغربي البسيط، أي على مشاركة مكثفة للناخبين من محدودي المستوى التعليمي والثقافة السياسية بغضِّ النظر عن نسبة المشاركة، بالنظر إلى أنه ليست لهم القدرة على الإدراك السياسي المنطقي، فكما هو معلوم حق الانتخاب يتمتع به حتى من ليس بمقدورهم ممارسته حسب قرارات منطقية سياسية، والانتخابات لها صلة هامشية بمنطق ونتائج التصويت الحقيقي لأن نسبة ضئيلة من الأصوات، مع رجحان كفة هؤلاء فيها، قادرة على إنجاح الحزب. ففي الغالب، يصوِّت هؤلاء بشكل غير موضوعي محكوم بعامل العاطفة والانجذاب إما لخطاب أطروحة “بياض اليد” أو “نظافة الذمة” الذي يسوِّقه مرشحو الحزب، أو للخطاب الشعبوي الذي كان عاملًا حاسمًا في فوز الحزب لمرتين متتاليتين حينما كان عبد الإله بنكيران قائده، والذي يمكن بخرجته الإعلامية في الأشواط الأخيرة من الحملة الانتخابية أن يُحدث انقلابًا في توجهات المصوِّتين خاصة لدى جمهور المترددين في التصويت لصالح الحزب؛ حيث “شنَّ هجومًا قويًّا على عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، للتشكيك في أهليته لترؤس الحكومة المقبلة”(11) بحكم أنه رجل أعمال تلاحقه تهمة الجمع بين المصالح، مذكِّرًا بأنه كان من خلال إحدى أبرز شركاته هدفًا للمقاطعة الاقتصادية في وقت سابق، وبهذا يكون بنكيران قد شوَّش على حظوظ حزب أخنوش بالفوز في الانتخابات، اللهم إذا كان تصريحه يُقرأ من جهة أخرى كتسليم مسبق بفوز حزب الأحرار، في مقابل أن يقع اختيار رئيس الحكومة من شخصيات سياسية أخرى من حزب الأحرار غير أخنوش.

على أيٍّ، في حال السيناريو المطروح قبلئذ، سيستمر حزب العدالة والتنمية في قيادة الحكومة لكن دون هيمنة تُذكر، بحيث بالكاد سيفوز، بعد أن يكون القاسم الانتخابي الجديد(12) قد ترك مفعوله بالتقليص من المقاعد التي يمكن أن يحصل عليها الحزب برغم احتلاله للصف الأول، وسيكون منزوع القوة السياسية، وسيضطر لعقد تحالف حكومي مبلقن، وهو ما سيجعل الحزب في موقف ضعف عند مفاوضات تشكيل الحكومة، بما يفرض عليه تقديم تنازلات ثقيلة لإخراجها.

السيناريو الراجح: خسارة حزب العدالة والتنمية

ويستند هذا السيناريو على مؤشرات عديدة أهمها سيولة البيئة السياسية التي أخذت تلفظ الحزب بفعل جموده ومقاومته للمراجعة، وخسارته العديد من المواقع داخل المجتمع نتيجة تراجع كبير في شعبيته وشعبية الحكومة التي يقودها، ثم المفعول المرتقب للقاسم الانتخابي، كما جرت الإشارة إليه أعلاه. كما يعتمد هذا السيناريو على مشاركة مكثفة للناخبين من فئات الطبقة الوسطى التي كانت الأكثر تضررًا من سياسات حكومة العدالة والتنمية، ومن فئات الشباب المتعلم الذين صارت لديهم، بحكم تنامي ناشطيتهم الإلكترونية، خبرة سياسية للحكم على الأحزاب من خلال ما قدموه من إنجازات، فهؤلاء سيصوِّتون تصويتًا عقابيًّا ضد حزب العدالة والتنمية في سياق جفاء شعبي عام اتجاهه موسوم بفتور المشاعر المؤيدة له وانحسار الانبهار المجتمعي بكونه هو الحل؛ حيث هناك ملامح لكتل من المعترضين على إعادة اختياره، ويُنتظر أن يتحولوا عنه بحثًا عن حزب قوي قادر على استعادة المسك بزمام الأمور، وهو ما ينطبق على حزب التجمع الوطني للأحرار المرشح بقوة لخلافة حزب العدالة والتنمية في رئاسة الحكومة، وذلك ليس لأن برنامجه هو الأفضل، بل على العكس تمامًا هو برنامج موغل في عدم الواقعية، بل لأنه سخَّر إمكانيات هائلة مكَّنته من إدارة حملته بشكل منظم ومحكم خاصة على الواجهة الإلكترونية بما في ذلك استعانته بخبرة شركات التواصل. في هذه الحالة من السيناريو، غالبًا لن يشارك حزب العدالة والتنمية في حكومة حزب الأحرار خاصة إذا كان يقودها عزيز أخنوش، بحيث سيتوارى إلى صف المعارضة كتراجع تكتيكي لاسترجاع رصيد المصداقية أمام الجزء المفقود من جمهوره الانتخابي.

ودون ذلك، بالنظر إلى أن قطاعًا عريضًا من الساخطين على حزب العدالة والتنمية أخذ يتوق للعودة إلى ما كانوا عليه قبل 2011، أي قبل فوز حزب العدالة والتنمية بأول ولاية حكومية، فذلك قد يعني العودة غير المتوقعة لحزب الاستقلال من جديد إلى سدة الحكومة. في حين أن المشهد الثاني من مفاجأة “لا حزب المصباح ولا حزب الحمامة”(13) يكمن في الصعود الممكن لحزب الأصالة والمعاصرة إلى رئاسة الحكومة بعدما تخلص من عقدة وسمه بـ”حزب الأنابيب”. وسيكون عندئذ من الوارد جدًّا أن يشارك معه فيها حزب العدالة والتنمية بعد تطبيع العلاقات بينهما، تمامًا مثلما يُنتظر أن يشارك في حكومة يقودها حليفه السابق، حزب الاستقلال.

على أن ما يوحِّد احتمال حلول الأحزاب الثلاث المذكورة محل حزب العدالة والتنمية في صدارة نتائج التشريعيات وفق الترتيب المشار إليه هو كونهم، بتحولهم إلى أحزاب أطر، يعتمدون بشدة على المرشحين الأعيان القادرين على تعبئة أصوات العالم القروي وبالتالي قلب كفة النتائج في الوقت الذي تتركز معاقل حزب العدالة والتنمية في الأوساط الحضرية خاصة المدن الكبرى، مستفيدين في ذلك من تزامن موعد الانتخابات المحلية، التي تشهد مشاركة مكثفة للناخبين القرويين، مع نظيرتها التشريعية.

مراجع

(1) تضمنت هذه الإجراءات عدم تجاوز عدد 25 شخصًا في التجمعات العمومية بالفضاءات المغلقة والمفتوحة، وعدم تنظيم تجمعات انتخابية بالفضاءات المفتوحة التي تعرف الاكتظاظ، ومنع نصب خيام بالفضاءات العمومية وتنظيم الولائم، وعدم تجاوز 10 أشخاص كحدٍّ أقصى خلال الجولات الميدانية، ثم عدم تجاوز 5 سيارات بالنسبة للقوافل، مع ضرورة إشعار السلطة المحلية بتوقيت ومسار هذه الجولات والقوافل، والالتزام بالإجراءات الاحترازية داخل مكاتب الحملة الانتخابية.

(2) وولف ووغنر، كيف تعمل السياسة، ترجمة شفيق بساط، الطبعة الأولى، (لندن: دار الحكمة، 2009)، ص. 109.

(3) Toby S. James and Sead Alihodzic, When Is It Democratic to Postpone an Election? Elections During Natural Disasters, Covid-19, and Emergency Situations, Election Law Journal, Volume 19, Number 3, 2020, p. 15, Published on line  at: https://sci-hub.se/10.1089/elj.2020.0642

(4) المعهد المغربي لتحليل السياسات، “مؤشر الثقة في المؤسسات: البرلمان وما وراءه في المغرب: تجديد الثقة من خلال بحث جذور نقصها”، نسخة 2020، ص78.

(5) نفس المرجع، ص79.

(6) Todd Landman & Luca Di Gennaro Splendore, Pandemic Democracy: Elections and COVID-19. Journal of Risk Research, Volume 23, Issue 7-8, 2020, p. 3.

(7) Afrobarometer (R7 2016/2018), https://bit.ly/3tmMpG9

(8) منظمة الشفافية الدولية، مؤشر مدركات الفساد 2020، ص2:  https://bit.ly/3zPhsNm

(9) نفس المرجع، ص19.

(10)  Esen Kirdiş Wolves in sheep clothing or victims of times? Discussing the immoderation of incumbent Islamic parties in Turkey, Egypt, Morocco, and Tunisia. Democratization, 25(5), p. 913.

(11) بنكيران يشن هجومًا لاذعًا على أخنوش..، هسبريس، 5 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول: 6 سبتمبر/أيلول 2021): https://bit.ly/3zOPrW5

(12) في الانتخابات الحالية، صار يجري احتساب القاسم الانتخابي الذي يُعتمد لتوزيع المقاعد على المرشحين على أساس عدد الناخبين المسجَّلين وليس على أساس المصوِّتين. حول خلفيات وأبعاد هذا التعديل، يمكن العودة لدراستنا: نبيل زكاوي، تضخيم القاسم الانتخابي بالمغرب: سلطوية انتخابية أم مشترعون ضد الديمقراطية؟، ورقات تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات، 5 مايو/أيار 2021:

 https://studies.aljazeera.net/ar/article/4990

13) رمزا حزبي العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار على التوالي.

* نبيل زكاوي – أستاذ مساعد في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب.

* عن مركز الجزيرة للدراسات .

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى