#شوؤن عربية

إياد العنبر: مسارات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة… الأولوية لسؤال من يحكم؟

إياد العنبر، المجلة 12-12-2025: مسارات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة… الأولوية لسؤال من يحكم؟

يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة شروط الإمام وصفاته، التي مِن ثمَّ تنعكس على السجال بشأن مصدر شرعيته، وفيما بعد تأتي عناوين فرعية أو على الهامش لتناقش كيفية الحكم وما هي معايير عدالة حُكمه.

وهنا تحديدا نجد اتجاهَين: الأول يناقش موضوع “كيف يحكم الإمام أو السلطان” من منظور الأدب السياسي الذي يهتم بتقديم النصائح للملوك والسلاطين والأمراء. أما الاتجاه الثاني ويمثله بعض الفقهاء الذين يرفضون الطعنَ بشرعية الحاكم أو الخروج عليه حتى وإن كان ظالماً! وما على الناس إلا السمع والطاعة للأمير حتّى وإن “ضربكم على ظهورِكم وأخذ أموالَكم”.

في العراق ومنذ اليوم الأول بعد الانتخابات تبدأ السجالات بمناقشة السؤال الأبرز: مَن يكون رئيس الوزراء القادم؟ وتبدأ التكهنات وترشيح الأسماء ومناقشة حظوظها في نيل هذا المنصب الذي لا يناله إلا ذو حظ عظيم في العراق، لأنَّ الموضوع لا يتعلَّق بالكفاءة ولا بالخبرة في السياسة والاقتصاد، وإنما يتطلب عاملَين: الأول أن يحظى بالقبول بين الفرقاء السياسيين، وهذا القبول لا يعتمد كاريزما القيادة السياسية، وإنما معياراً محدداً من الولاء والسمع والطاعة لزعماء الطبقة السياسية. أمّا العامل الثاني فينحصر في القبول وعدم الاعتراض، من أصحاب النفوذ الخارجي.

تختلف انتخابات 2025 عن انتخابات 2021، كون السجال الذي بدأ بعد انتخابات 2021 بشأن كيف تتشكل الحكومة؟ بأغلبية أم التوافق؟ وربما غطى على الجدل الذي يثار دائماً بشأن من يكون رئيس الوزراء. أو يكون الاختلاف أيضاً، بسبب فوز “التيار الصدري” بأكبر عدد من المقاعد في تلك الانتخابات، قد أعطى أريحية بشأن حسم الموضوع لصالح كتلتهم.

ولكن في انتخابات 2025 بدأ الصراع حتى قبل الانتخابات، فائتلاف “الإعمار والتنمية” دخل الانتخابات معلناً صراحة أن مرشحه لرئاسة الوزراء هو رئيس الائتلاف محمد شياع السوداني رئيس الوزراء المنتهية ولايته. وكذلك بدا التلويح واضحاً في “ائتلاف دولة القانون” الذي أعلن أن مرشحه هو رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. بيد أن الرياح لم تأت بما يشتهي المتنافسون، فعدد المقاعد التي حصلت عليها قائمة السوداني وقائمة المالكي، لم تعطهم القدح المعلى في حسم منصب رئاسة الوزراء. ومن ثم، باتوا “مكرهين لا أبطالا” في العودة مرة أخرى إلى التجمع في تحالف الأصدقاء-الأعداء.

المشهد ذاته يتكرر داخل القوى السياسية السنية، فرئيس حزب “تقدم”، دخل الانتخابات رافعا لواء العودة مرة أخرى إلى الجلوس على كرسي رئاسة البرلمان، ولكن أيضا، كانت لغة الأرقام هي العامل الحاسم، كون تحالفه لم يحصل على مقاعد الأغلبية التي تؤهله إلى فرض خياراته على منافسيه السياسيين. ليختاروا العودة مرة أخرى إلى التجمع في “المجلس السياسي الوطني”.

تحالفات هشة

تشير جميع المعطيات إلى أن الكتلة المعنية بتسمية رئيس الوزراء سوف تتشكل على أساس تحالفات هشّة هدفها الأساسي تقاسم مغانم السلطة بين الكتل السياسية من خلال الاتفاق على الرئاسات الثلاث والوزراء وتقاسم المؤسسات والهيئات السياسية. وسواء كثرت مساحة الخلافات أو تقلصت، ستكون النتيجة النهائية الاتفاق على تكرار السيناريو القديم نفسه: الكل يتفق على حصصه في الحكومة، وفيما بعد يبدأ هذا الإجماع والاتفاق السياسي بالتلاشي يوماً بعد يوم، حتى نقترب من الانتخابات القادمة ونعود مرة أخرى إلى معادلة “الكل في السلطة والكل في المعارضة”، إذ إن جميع الفاعلين السياسيين شركاء في تقاسم السلطة، ولكنهم في الوقت نفسه ينتقدون الحكومة وسياساتها!

تخبرنا التجارب السابقة لتشكيل الحكومة، أن انتخابات 2025 لا تختلف كثيراً عن سابقاتها إلا في التحديات التي تفرض نفسها على سؤال من يكون رئيس الوزراء؟ إذ تفرض الإرادات الخارجية تحدياً على الدور المطلوب من الحكومة القادمة بالتعامل مع تحدي بيئة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في منطقة الشرق الأوسط، والعراق لا يزال برميل البارود الذي يمكن أن يصل إليه ما يتطاير من شرارات النار التي لا تريد أن تنطفئ إلا برسم شرق أوسط جديد.

داخليا، ينحصر الصراع بين منظومة حاكمة تحارب من أجل ترسيخ أعرافها السياسية في أن لا يكون رئيس الوزراء القادم قوياً ولا يستحوذ على كرسي في طاولة الزعامات الأوليغارشية. ونموذج محمد شياع السوداني الذي تحول من مقعد واحد في البرلمان إلى صاحب أكبر عدد من المقاعد بين الكتل السياسية، بفضل توليه منصب رئيس الوزراء. لذلك يبدو “الإطار التنسيقي” متناقضاً مع نفسه، إذ كيف يمكن البحث عن رئيس وزراء يكون قوياً في التعامل مع الملفات الخطيرة التي تهدد العراق واقتصاده وأمنه، ولكن، في الوقت ذاته، يكون خاضعاً وتحت سيطرة وهيمنة قيادات “الإطار”! بمعنى: يريدونه رئيس وزراء للعراق، ولكنه موظف مهمته إدارة مصالح الفاعلين الأساسيين في “الإطار التنسيقي”!

حسابات الفرقاء السياسيين تنظر إلى شخصية مَن يكون رئيس الوزراء القادم من خلال منظور مصالحها، لذلك هي تنشغل بالبداية في ترتيب مغانم السلطة وتوسيع دائرة النفوذ السياسي في مؤسسات الدولة، ومن ثمَّ تكون المعايير المطلوب توفرها في شخصية رئيس الحكومة ووزرائه منحصرة في ضمان الالتزام بتنفيذ أجندة المصالح التي جرى تحديدها داخل الكتل السياسية. وعلى هذا الأساس واهمٌ مَن يتصور أن الكتل السياسية ستعمل وفق معادلة التوازن بين مصالحها التي تتجسد في الوصول إلى السلطة والبقاء فيها، وبين تحقيق مصالح المواطنين بصورةٍ عامة.

وبعيدا عن الأسماء المطروحة أو التي سوف تُطرَح مستقبلاً، وحتى اسم من سيتسلَّم قيادة الحكومة القادمة، فإن مهمته الأساسية تنحصر في إدارة الصراعات بين الفرقاء السياسيين، الذين يرون أن مهمة الحكومة القادمة هي تنفيذ مشروعهم في ترسيخ بقائهم ضمن منظومة الحكم من جهة، وإضعاف الخصوم المنافسين من جهةٍ أخرى. لذلك، باتت السجالات تنحصر اليوم في شخصية رئيس الوزراء لا في مشروع إدارة الدولة في المرحلة القادمة ولا في كيفية تجاوز أخطاء الماضي وإيجاد معالجات عملية لتراكمات الفوضى والفشل والفساد وسوء الإدارة.

من يكون رئيس الوزراء

يُعد منصب رئيس الوزراء رأس الرمح في النظام السياسي العراقي، أما رئيس البرلمان فتنحصر وظيفته السياسية في إدارة الملفات التي تتعلق بالتشريع والرقابة، حتى وإن كان التنافس على هذا المنصب قد يؤسس لزعامة داخل الساحة السياسية السنية. لكن رسم السياسات العامة وتحديد المصلحة العليا للبلاد والقيادة العامة للقوات المسلحة تبقى من صلاحيات رئيس الوزراء دستوريا.

وفيما يخص منصب رئيس الجمهورية، فقد أصبح بالنسبة للقوى السياسية الكردية المتنافسة على هذا المنصب، نوعاً من التكريم لشخصيات بعد إحالتها إلى التقاعد، أو إبعادا لبعض الشخصيات عن ساحة التنافس السياسي في كردستان. ولذلك تتجه جميع الأنظار إلى البحث عن إجابة لسؤال: من هو رئيس الوزراء القادم؟

قوى “الإطار التنسيقي” أعلنت أنها الكتلة النيابية الأكبر عددا، وأنها هي المعنية بترشيح رئيس الوزراء. ولكن الأطراف الفاعلة ضمن “الإطار التنسيقي”، كأنما تريد أن تثبت العرف السياسي القائم على أساس أن نتائج الانتخابات ليست هي التي تحدد اسم رئيس الوزراء، حتى وإن كانت هناك كتلة تملك أكثر المقاعد داخل “الإطار التنسيقي”.

لذلك فتحت قوى “الإطار التنسيقي” باب الترشيح وتواصلت مع رؤساء وزراء سابقين لتقديم رؤيتهم بشأن إدارة المرحلة القادمة. وكأن الموضوع يوحي بأنهم يبحثون عن شخص بمواصفات محددة لإدارة شركة أو يشغل وظيفة اسمها “رئيس الحكومة”!

يريد محمد شياع السوداني أن تجدد له الولاية، ويبقى في المنصب. ويتعكز في ذلك، على قائمته التي تفوقت على الكتل السياسية الأخرى بحصولها على أكثر عدد من المقاعد. أما نوري المالكي فيقدم نفسه منافسا للسوداني ويسوّق ذلك بالاستناد إلى أن المرحلة القادمة تحتاج شخصا قادرا على إخراج العراق من دائرة الخطر والتهديد، والمالكي وكتلته “دولة القانون” يعتقدان أنه الشخص المؤهل لتلك المهمة! حتى وإن كانت تجربة حكمه لثماني سنوات كان فيها الكثير من الأخطاء والإخفاقات.

قوى “الإطار” الأخرى، تختلف رؤاها. إذ إن هناك من لا يريد الدخول في سباق التنافس على منصب رئيس الوزراء، ويكتفي بالمناورة والتفاوض على حصته من الوزارات والمناصب العليا في الدولة حتى يعطي صوته لمن يكون رئيس الحكومة القادمة. وهناك من يبحث عن شخصية قادرة على فك خناق الضغط الأميركي في المرحلة القادمة، لا سيما أن الرسائل الأميركية باتت علنية بشأن رفضها التعامل مع الحكومة القادمة إذا شارك فيها وزراء من أي عنوان سياسي لديه فصيل مسلح، وفي الوقت ذاته كيف يعزز من مكاسبه داخل الحكومة ويوسع دائرة نفوذه.

أما بقية الأطراف التي حصلت على 10 مقاعد فتنقسم بين مَن يريد أن يعزز رصيدَه السلطوي بالحصول على المناصب السياسية والإدارية، ومن يريد أن يبقى مشاركاً في السلطة حتّى وإن كانت مشاركته هامشية.

بموازاة ذلك، لا تريد القوى السياسية الكردية أكثر من إيجاد حلول للمشاكل التي تتعلَّق بالرواتب وتصدير نفط الإقليم والتي باتت تتكرر مع كل دورة حكومية. أمّا المكاسب الأخرى التي سوف تبحث عنها فهي لا تتركز في المناصب السياسية وإنما ستكون في النقاش بشأن المناطق المتنازَع عليها، وكيفية ضمان ضمّها إلى مناطق الإقليم. وبالتالي ستكون هذه هي شروطها الرئيسة في المفاوضات مع الكتل السياسية وفيما بعد تبحث عن ضمانات تنفيذها من قبل شخصية رئيس الحكومة القادم.

أمّا القوى السياسية السنية، فإن البحث عن ضمانات ترسيخ الزعامة السياسية السنية هو الشغل الشاغل للقوى المتنافسة، ويبدو أن حظوظ السيد محمد الحلبوسي في توسيع نفوذه السياسي متاحة، حتى وإن تخلى عن خطابه الانتخابي الذي كان يروج فيه لفكرة الانقلاب على أعراف تقاسم المناصب العليا بين الكرد والسنة، برئاسة الجمهورية بدلا من رئاسة البرلمان. أما بعد الانتخابات، فربما يكون التنازل عن رئاسة البرلمان وراداً مقابل الاستحواذ على حصة الأسد من الوزرات المحددة للقوى السنية.

إذن، في الوقت الذي يبحث فيه الفرقاءُ السياسيون عن رئيس وزراء ينفّذ إراداتهم ويحقق مصالحهم، فإنهم يفكّرون بأن يكون خاضعاً وخانعاً لهم. وعلى هذا الأساس لا نجد الحديثَ داخل الأروقة السياسية عن مشروع سياسي لإنقاذ البلاد من الخراب والفشل، وإنما عن شخصية تعمل باعتبارها رئيس شركة خاصة تكون مهمّتها الأساسية التمتع بالامتيازات التي يوفرها المنصب التنفيذي الأعلى، وضمان تحقيق مصالح أصحاب الشركة، وَهُم الفرقاءُ السياسيون.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى