إميل أمين: قمة شنغهاي ورسالة إلى واشنطن

إميل أمين 4-9-2025: قمة شنغهاي ورسالة إلى واشنطن
في حراك لا تخطئه العين، بدت الأوراسية، وكأنها صاعدة من جديدة، في شقها الآسيوي، عبر لقاء عمالقة القارة، روسيا والصين والهند، في مدينة تيانجين الصينية والتي شهدت قمة منظمة شنغهاي، المؤسسة القادمة بقوة في عالم تتنازعه التكتلات الجيوسياسية، بل تكاد تصنع من خلاله نظاما دوليا، غير ذاك الذي أستقرت عليه الأوضاع بعد مرحلتين تاريخيتين، الأول أعقبت إنتصار الحلفاء في الحرب الباردة، والثانية بعد إنهيار المعسكر الشيوعي أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن العشرين.
يعن للذين تابعوا قمة شنغهاي أن يتساءلوا:” هل هي بداية لخطوات مغايرة، لتشكيل أممي منافي ومجافي لفكرة إنفراد الولايات المتحدة بالقطبية شبه المنفردة، بمعنى هل كانت قمة تيانجين الأخيرة، رسالة مؤكدة من آسيا قلب العالم الجديد، إلى الولايات المتحدة الأميركية مالئة الدنيا وشاغلة الناس، حتى إشعار أخر ؟
المؤكد أن الرئيس الصيني شي جين بينغ، والذي تحتفل بلاده بمرور 80 عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية، قد نجح بالفعل في إعداد وتقديم قمة مغايرة من حيث الشكل والمضمون، ذلك أنه ضمن دوائر المنظمة كبار الشخصيات من عشرين دولة أوراسية يعضهم عضو بصفة مراقب أو ” شركاء في الحوار “.
بداية يمكن القطع بأن الصين وروسيا، لطالما روجا لمنظمة شنغهاي للتعاون كبديل لحلف شمال الأطلسي، وليس خافيا على أحد أن زخم القمة هذه المرة، حمل الكثير من الإشارات الضمنية الظاهرة والمبطنة لسيد البيت الابيض.
تأسست شنغهاي في منتصف يوليو/ تموز من عام 2001، على يد ست دول الصين وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان.
وكانت الرغبة المشتركة من قبل لاعبي الشرق الرئيسيين بكين وموسكو، تكوين تحالفات اسيوية تشكل درعا واقية في العلاقات الجيوبولتيكية ، دافعا للتحرك المبكر بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ، وبهدف لا يغيب عن الأعين ، وهو إحتواء الجمهوريات المنفصلة عن الإتحاد السوفيتي.
تظهر الوثيقة القانونية الاساسية للمنظمة اهداف كيان شنغهاي ن تلك التي تتمثل في تعزيز الثقة المتبادلة وحسن الجوار بين الدول الاعضاء ، وتعزيز التعاون الفعال في السياسة والتجارة والاقتصاد والبحوث،والتكنولوجيا والثقافة ، وكذلك في التعليم والطاقة والنقل والساحة وحماية البيئة.
تبدو الأرقام الجغرافية والديموغرافية لدول منظمة شنغهاي، مدعاة للتوقف والتأمل مليا في هذا الكيان الأوراسي المثير ، ذلك أنها من حيث المساحة تحتل حوالي 30 مليونا و189 الف كيلومتر ، أي ثلاثة أخماس مساحة أوراسيا ، فيما عدد سكان الدول الأعضاء فيصل إلى 1.5 مليار نسمة أي قرابة ربع سكان الأرض.
تبدو الأرقام المتقدمةوكأنها بالفعل قادرة على أن تكزن رقما صعبا على ثلاثة مستويات، إقتصادية ، وعسكرية، وسياسية.
بالنظر إلى المكونات الكبرى الثلاث، نجد أن الصين ورغم كل ما يقال عن التراجعات الإقتصادية والإشكاليات الحزبية في هيكلها الواسع والشاسع، إلا أنها تبقى الكتلة الاسيوية الحرجة، والتي لابد للولايات المتحدة الأميركية من أن تتعاطى معها بشكل أو باخر، وعلى غير المصدق أن يراجع مقال الكاتب الأميركي توماس فريدمان الاخير في صحيفة النيويورك تايمز نهار الإثنين الفائت وجاء تحت عنوان :” الذكاء الإصطناعي هو الخطر الوحيد الذي يجب أن يوحد أميركا والصين “.
المقال المطول مفاده أنه لابد لواشنطن أن تجد طريقا للعيش سويا مع بكين، وأن ينسقا مع خطوط الطول والعرض في كافة مناحي الحياة، في قادم الايام، حيث الذكاء الإصطناعي، ذلك الذي أطلق عليه ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر ” الديكتاتور الخالد “، سيبسط حضوره على الجنس البشري.
روسيا التي على رأسها القيصر بوتين، يقول الراوي أنها تسببت للرئيس الأميركي الحالم بجائزة نوبل للسلام، في حالة من الإحباط الشديد، وربما هذا ما أدى إلى بعض التردي في حالته الصحية، تلك التي كثرت من حولها الشائعات في الاسبوعين الماضيين.
عطفا على ذلك تبدو الحرب الدائرة مع أوكرانيا على غير موعد مع النهاية، بل ربما يشتد أوراها كلما شعر الدب الروسي، بأن واشنطن تشعر بالسأم من الإنتظار، وأوروبا تخشى الدخول في صراعات هي في غنى عنها في الوقت الراهن، ويكفيها ما لديها من أزمات إقتصادية تنموية
من جهة، وصراعات قومية شوفينية من جهة ثانية، والأخيرة تشكل خطورة خاصة على حاضر قارة التنوير ومستقبلها سيما أن بعضا من تلك الجماعات تشعر بميل تلقائي وربما إنتقائي لتصطف بجانب روسيا القيصرية السلافية وكأن التاريخ يعيد نفسه، أو أن أحداثه تتكرر كما قال الكاتب الأميركي الساخر مارك توين.
ماذا عن الهند ؟ يبدو حضورها هذه المرة إشكاليا بصورة غير مسبوقة، لا سيما أنه ياتي في ظل توتر غير معهود في العلاقات مع واشنطن، من جراء فرض الرئيس ترمب تعريفات جمركية عالية على نيودليهي بسبب شراءها للنفط من روسيا .
هل غاب عن العقول المفكرة في البيت الأبيض والخارجية الأميركية، فكرة الوالاءات المناطقية، وكذا التجاذبات الجغرافية ، عفوا على المناورات السياسية ؟
يعرف القاصي والداني أن الهند والصين في حالة عداء تاريخي ، وكذا الهند وباكستان، ولهذا ترى في روسيا ورقة ضمان في مواجهة الصين، والأخيرة تدعم باكستان بشكل واضح، وهو ما تجلى في معركة الطائرات الأخيرة .
ولعله من نافلة القول، أن هناك عددا من الملفات التي تدفع إلى تعزيز الجبهة الأوراسية عبر منظمة شنغهاي .
خذ إليك على سبيل المثال قضية جزيرة تايوان، والتي تجمع التقارير الإستخباراتية الأميركية على أن الصين سوف تحاول بحدود العام 2017 غزوها ، جنيا إلى جنب مع أزمة بحر الصين الجنوبي، ما يجعل من صراع روسيا في أوكرانيا من الدروس المهمة لبكين للتعلم منها، وتلافي اية اخطاء مستقبلية .
هنا تبدو منظمة شنغهاي منصة واجبة الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة للتعاون في وجه النفوذ الأميركي ، وهذا ما يشير إليه البروفيسور “ديلان لوخ” الاستاذ المساعد في جامعة ناتيانغ التكنولوجية في سنغافوره، والذي يعتبر أن” الصين تسعى منذ فترة طويلة إلى تقديم منظمة شنغهاي للتعاون بإعتبارها كتلة قوية غير غربية تعمل على تعزيز نوع جديد من العلاقات الدولية، وهو ما تدعي أنه أكثر ديمقراطية “.
هل واشنطن متيقظة لما يجري في أوراسيا وبالقرب من المحيط الهادئ حيث الكل يجمع على أن المعارك العالمية القادمة ربما تجري بها المقادير هناك؟
” لا تتخلى عن أوكوس ” كان هذا أحد أهم العناوين التي حملتها مجلة الفورين افيرز الأميركية في عددها الأخير لشهر سبتمبر أيلول الجاري، والكتاب عدد من كبار المسؤولن العسكريين الأميركيين والبريطانيين والأستراليين .
أما صلب المقال فهو أن الحاجة تزداد إلى تقوية حلف أوكوس الذي يشكل اميركا وبريطانيا واستراليا، للوقوف صفا وحدا في مواجهة اطماع الصين وروسيا والهند في منطقة المحيط الهادئ، وأنه لا يتوجب أن يتراجع أي طرف عن الخطط الموضوعة سلفا.
أما النائب الديمقراطي الاميركي جو كورتني، فيكتب عبر مجلة ” ناشونال أنترست”، عن الدعم الواجب أن يوليه الجميع لأوكوس، بصفته أكبر تجمع يمثل كابوسا للصين وحصنا لأمن منطقة المحيطين الهندي والهادي على حد سواء .
هل كانت قمة شنغهاي الأخير علامة في طريق عالم يثور ويكاد يفور بالكثير من المتغيرات غير المتوقعة؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، مع التاكيد على أن الرسالة وصلت واشنطن التي تكاد تنقسم روحها في داخلها من جراء مسكونية الكراهية، وللأمر حديث قادم بإذن الله .