إميل أمين: ترمب وسياسة الردع ذو الأولويّة

إميل أمين 10-9-2025: ترمب وسياسة الردع ذو الأولويّة
تابَعَ العالمُ قبل أيام معدودات الاستعراض العسكري الصيني، الذي جرى في ميدان تيانانمن، في ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي تسبَّبَ من غير أدنى شكّ، فيما يشبه الصدمة للغرب الأوروبي والأميركي، بعد أن رأوا بأم أعينهم، فورة وثورة عسكرية صينية لا تصدّ ولا تحدّ، وأسلحة نووية فائقة التطور، تطال جغرافية الولايات المتحدة من جهة، وكافة القواعد العسكرية الأميركية في منطقة الإندوباسيفيك من ناحية أخرى، عطفًا على الجديد والعديد من الأسلحة التقليدية المبتكرة، ما يعني أن الصين باتت بالفعل على موعد مع جيش نظامي، تشاغبه فكرة “الملكوت المركزي أو الأوسط”، وهي الترجمة الحقيقية لمعنى كلمة الصين في اللغة الأم.
لم تتوقف مخاوف واشنطن وبروكسيل على المنظر العسكري الصيني الوليد، بل تجاوزت ذلك من خلال تصريحات الرئيس الصيني، وتأكيده على أن “صعود الصين أمر لا يمكن إيقافه”.
يَعِنُّ لنا أن نتساءل: أهي صحوة صينية فحسب؟
المؤكد أن الصورة كانت ناطقة ومعبرة،فقد بدأ بينغ بجوار نظيره الروسي بوتين، وزعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، وكأنهما ثلاثي العالم الجديد، الذي يعلن في تحَدٍّ صارخ أن فجر نظام عالمي مغاير لذاك الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية على وشك الانبلاج.
لم يكن سيد البيت الأبيض ليوفر هذه المناسبة، والتي تعكس بصوة قاطعة مخاوف جماعة اليمين الأميركي قاطبة، إذ اعتبر أن الامر من قبيل التحضير للتآمر على الولايات المتحدة، بشكل عسكري، كما أن مشروعات الصين للتمدد اقتصاديًّا حول العالم، هي ضرب من ضروب مَدِّ أطراف للهيمنة على العالم عبر الردع النقدي الذي باتت تمتلكه.
في هذا السياق يتبادر إلى الذهن الأحاديث الدائرة في الداخل الأميركي، وما إذا كان ترمب على حق بالفعل في البحث عن ما يسمى ” الردع ذو الأولوية “، أم لا؟
في أغسطس/آب الماضي، أطلق “رايلي مور”عضو مجلس النواب عن ولاية فيرجينيا الغربية، نقاشًا مثيرًا وربما خطيرًا حول أدوات الردع التي يتوجب على أميركا امتلاكُها، في عالم يتطور بسرعة مخيفة في الحال، وتتنظره أوقات صعبة في الاستقبال، لا سيما تجاذبات الذكاء الاصطناعي ونوازله، في دائرة الأسلحة النووية، برًّا وبحرًا وجوًّا.
مفهوم الردع ذو الأولوية كما يقدمه لنا رايلي مور، مُحكم بضبط النفس، ويوجه بقيود كمية ومتأصّلة مفروضة على الأمة الأميركية ومواردها وشعبها.
من هنا، يبدو أن إدارك تلك الحقائق أمر يجبر صانعي القرار على تحديد أولويات التهديدات والتحديات بناء على مدى إلحاحها وشِدّتها.
أي حاجة تعوز أميركا اليوم، وهي ترى المثلث النووي الصيني يتعاظم بشكل مخيف، بل وغالب الظن أن هناك ما لم يعلن عنه في هذا الاستعراض العسكري، من أسلحة صينية، تتجاوز مجالات الأرض والبحر والجو؟.
المتابعة المحققة والمدققة لمراكز البحث الأميركية تخبرنا بأن هناك مَن يعدّ أنفاس الصين في الفضاء، ومن هؤلاء الخبراء، ألين تشانغ، الباحث في مركز الدارسات الآسيوية التابع لمؤسسة التراث، مركز صناعة القرار في إدارة الرئيس ترمب، والمرشَّح لتقديم وجوه قادة أميركا الجدد، وعلى رأسهم نائبه جي دي فانس.
في قراءة معمقة لتشانغ أوائل يوليو تموز الماضي، كشف عن أن الجيش الصيني يعمل بسرعة شديدة عبر جوانب خفية، ومنها استكشاف إمكانية تجهيز “نظام القصف الجوي المتعدد” المعروف باسم FOBS، ولهذا السبب فإن القبة الذهبية التي أعلن الرئيس ترمب عنها، وهي امتداد لفكرة حرب النجوم أو الكواكب، ذاك الذي أرسى دعائمه الرئيس رونالد ريغان في العام 1983، تأتي بمثابة الدرع الدفاعي الشامل الذي تحتاجه أميركا للبدء في مجابهة مهددات الأمن القومي، الأمر الذي لا يمثل زعزعة للاستقرار العالمي كما أشار إلى ذلك الرئيس بينغ، بل حماية لأمن أميركا ومستقبل أجيالها.
هنا وبِغَضِّ النظر عن الاتفاق مع أو الافتراق عن الكثير من سياسات الرئيس ترمب الخارجية والدولية، فإن غالبية إن لم يكن كل الأميركيين، يرون أن الصين باتت تمثل مخاطر قائمة وقادمة، اشد عنفوانًا من روسيا، ولهذا فإن أولوية الردع يجب أن توجه إلى الصين وبرامجها العسكرية لا سيما النووية منها بنوع خاصّ.
لم يكن أنصار معسكر المجمع الصناعي العسكري الأميركي بعيدين عن فكرة الردع على هذا النحو، إذ اعتبروا أنه يتوجب على أميركا أن تحافظ على السياسة الدفاعية الخاصة بنموذج الردع التقليدي من خلال الحفاظ على تهديد حقيقي للمعتدي وتكلفة غير مقبولة للعدوان على الولايات المتحدة، وذلك انطلاقًا من إن تحديد الأولويات والهيمنة التقنية يحدان من إغراء الانخراط في ألعاب حافة الهاوية مع كل دولة محرّضة، وهو قيدٌ ضروريٌّ بالنظر إلى قيود الموارد واحتمال التصعيد المتزايد، وعليه يجب أن يكون العمل العسكري الحركي موثوقا، وأن يكون دائمًا الملاذ الأخير، وأن ينشر دائمًا وفقًا للجدول الزمني الأميركي وشروطه.
تبدو الكلمات المتقدمة وكأنها تحمل ألغازًا، غير أنَّ فك شفرتها يضحي حاضرًا من عند التفكير الأميركي الأحدث في نوعية بعينها من أسلحة الردع التي ترعب العدو، والتي تجنب واشنطن الدخول في حروب دموية تقليدية.. ماذا عن ذلك؟
باختصار غير مُخِلٍّ، تعمل الولايات المتحدة اليوم على تطوير ترسانتها النووية التي حفظت لها قوة الردع في مواجهة الاتحاد السوفيتي طوال عقود الحرب الباردة الأربعة.
في هذا الإطار، يبدو المشهد النووي الأميركي قافزًا فوق سنوات ترمب المتبقية، فهناك توجه يرصد تريليون دولار لتطوير أسلحة نووية جديدة، عطفًا على صيانة القديم منها أو تكهينه.
غير أن الأكثر حداثة في القصة يمضي في طريق تقليدي عسكري أول الأمر من خلال بناء نوعية جديدة من القنابل النووية التي تعمل بالجاذبية، وهذه ستكون ذات قوة تفجيرية غير مسبوقة .
بدأت هذه المسيرة النووية الجديدة في سرّيّة تامّة، العام 2022، بعد أن تم اتخاذ القرار على أعلى مستوى سياسي في وقت إدارة الرئيس بايدن، ليعكس البيئة الأمنية الدولية المتغيرة، وبما يكفي لردع منافسَيْ أميركا الرئيسِيَّيْن في بكين وموسكو، وما يمكن أن يستحدث من قوى نووية على سطح الأرض بجانب كوريا الشمالية بنوع خاصٍّ.
في تصريحات لموقع “ديفنس نيوز” يؤكد البروفيسور هانز كريستنس، خبير الأسلحة النووية في اتحاد العلماء الأميركيين أن قنبلة واحدة من تلك القنابل، تعادل 80 ضعف قوة القنبلة التي سقطت على هيروشيما عام 1945، وأن الطائرات الحديثة سوف تكون قادرة على حملها، بما في ذلك قاذفات الشبح بي–21 رايدر التي يطورها سلاح الجوّ حاليًّا بالتعاون مع شركة نورثروب غرومان.
يعتقد الأميركيون أن ترمب قد أحسن صنيعًا بدفع وتطوير برامج أسلحة نووية، إذ لا يقتصر هدف الجيش الأميركي على خوض الحروب والانتصار فيها فحسب، بل يشمل أيضًا ردع الصراعات قبل وقوعها، وهذا يتطَلَّبُ الحفاظ على التفوق التقني الأميركي في كل مجال على حدة.
هل يعني الردع ذو الاولوية في شِقِّه النووي أن سلام العالم مهدد بالفعل، وأن شبح الشتاء النووي لا يزال يخيم على العالم إلى حدِّ إمكانية الإطباق عليه ذات لحظة جنونية من سخونة الرؤوس؟
لا أحد يتمنى ذلك ولو كان الأمر كابوسًا ليليًّا، لكنه ومع كل أسف يبقى الكابوس وارد الحدوث.