إميل أمين: بكين رُمّانة ميزان واشنطن وموسكو
إميل أمين 1-12-2025: بكين رُمّانة ميزان واشنطن وموسكو
تبدو ثلاثيّةُ موسكو وواشنطن وبكين، كأنها دورة جيوسياسيّة تاريخيّة، تعزف عليها ألحان السياسة الدوليّة، لا سِيَّما منذ سبعينيات القرن المنصرم.
لطالما استُخدِم مصطلح “دبلوماسية البنغ بونغ”، كتعبيرٍ عن الكيفيّة التي أديرت بها سياسات المواجهة والاحتواء، بين المعسكرَيْن الشرقي والغربي، أو حلف وارسو وحلف الأطلسي.
بدا العقدان اللذان تَلَيا نهاية الحرب العالميّة الثانية، وبخاصّة خمسينيات وستّينيات القرن العشرين، عقدَيْن للتناحر الأيديولوجيّ، بين الشموليّة والليبراليّة، وبين الديمقراطيّة والشيوعيّة، وكاد المشهد ينفجر خلال أزمة صواريخ كوبا في أكتوبر 1962، منذرًا ومهدِّدًا بحربٍ نووية، لولا حكمة وحنكة من آل كيندي، ومَنْ حولهم من عقلاء الولايات المتحدة في ذلك الوقت.
مع أوائل سبعينيات القرن الماضي، رأى ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر، أن هناك طريقًا ممكنًا للالتفاف حول تضاريس موسكو، وذلك من خلال الصين.
بدأت خطّة الاقتراب من بكين، عبر فرق لعبة البنغ بونغ، والتي فتحت مسارات سياسية لعلاقات أميركيّة–صينيّة متقدّمة في ذلك الوقت.
كان الهدف الواضح في أذهان الأميركيين هو فصل الصين عن الاتّحاد السوفيتيّ، كي تجد الكتلة الشيوعيّة ذاتها بمفردها أمام المعسكر الغربيّ، وهو ما حدث بالفعل، حيث نجح الأميركيون والأوروبيون عبر سياسة المدفع والزبدة، أن يغرقوا السوفيت في سباق التسلّح، ما جعل شعوب اتّحادهم تفتقد الزبدة، إذ تم تكريس جل الموازنات للتسلح.
مرة جديدة تبدو اليوم بكين رمّانة ميزان، بل أكثر من ذلك، أيّ طرف فاعل بقوّة في علاقات المثلّث المذكور، وبخاصة في ظلِّ تنامي قطبيّتها الأمميّة على الصعيدَيْن الاقتصادي والعسكري.
كثيرًا ما تساءل المتسائلون: “لماذا يعمد الرئيس ترامب، ومنذ ولايته الأولى إلى مداهنة فلاديمير بوتين، إن جاز التعبير، حتى ولو كَلَّفَه الأمر، توجيه الاتّهامات- من غير دليل- على أنه جاسوس للروس، وأنه تم تجنيده تحت اسم حركي “كرسنوف” في ثمانينيات القرن الماضي؟
الشاهد أنّه بعيدًا عن هذه الاتّهامات السفسطائيّة، والرطانات اللغوية التنظيرية من الديمقراطيين، وبنوعٍ متميّز جماعة اليسار المتطَرِّف فيهم، يبدو أنَّ ترامب قد وقر لديه وبقناعة كبرى، أنّه حان الوقت للتعاطي بصورة معكوسة، وعلى خلاف ما جرى قبل نحو خمسة عقود.. كيف ذلك؟
باختصارٍ مفيد، بدا فكر ترامب يدور في إطار بلورة رؤية تعاون مع روسيا-بوتين، ليضمن بقاء الصين بمفردها في الفضاء الدولي، والعمل بكلِّ قوة على قطع صعود الصين في مدارات القوى العظمى.
على أن المقادير كانت بالمرصاد لمخطَّطات واشنطن، ذلك أن الحرب الروسية-الأوكرانية، وعلى غير رغبة من الأميركيين، ربما أعطت فرصة ذهبية لبكين لتعزيز حضورها التنافسي الأممي، وليس العكس.
وجدت الصين نفسها بين خيارَيْن، التخلّي عن موسكو، ودعم واشنطن، أو دعم موسكو، ومواجهة واشنطن ولو بصورة غير مباشرة.
اختارت الصين بحكمة كونفوشيوسيّة، ومن خلال المضي في دروب فن الحرب لصن تزو، أن تلعب دور رمّانة الميزان بين الجانبَيْن لتخرج بأكبر قدر من الانتصارات.
مَدَّت بكين جذور الود مع موسكو وبقوّة، وفي عقل ثقاتها، أنه ليس حسنًا أن تسقط موسكو في مواجهة واشنطن وبروكسل، ذلك لأنه لو حدث، فستجد بكين في اليوم التالي نفسها بمفردها في مواجهة وكلاء الحرب الأميركيين في آسيا، وفي مقدّمهم اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان.
فضّلَتْ بكين شراكة ولو براغماتيّة مع موسكو، إذ لا يمكن بحال من الأحوال أن تضحى علاقة عضوية، فالطبقات السلافيّة الأرثوذكسِيَّة لا تَتَّسِق البتّة مع الفكر الأنطولوجيّ الكونفوشيوسي الصيني.
نعم، ربّما لم تقم بكين بتزويد موسكو بالأسلحة، لكنّها لعبت دوراً مهماً للغاية في أن تبقى موسكو قوية غير منكسرة، وبخاصَّة في ظل قراءتها للتوجُّهات الأميركية ناحية موسكو بعدما شعر سَيِّد البيت الأبيض بالكثير من الإحباط من بوتين، الذي وصفه بأنّه يعطيه من طرف اللسان حلاوة، لكن يروغ منه كالثعلب كما يقول الشاعر العربي.
جاء لقاء آلاسكا في أغسطس (آب) الماضي، بين بوتين وترامب، ليظهر سَيّد الكرملين وكأنَّه حَقَّق نصراً من غير أن يدفع أكلاف المعركة، ما ترك حزازة في صدر ترامب، حيث بدت أحلامه في تغيير مسارات القيصر واهية وذهبت أدراج الرياح.
ومع حلول أكتوبر (تشرين الأول)، حاول ترامب عكس اتجاهات العلاقات مع موسكو، وإن من غير رغبة في إحداث ألم جسيم في صورة بوتين نفسه.
فرضت إدارة ترامب عقوبات جديدة على أكبر شركتَيْ نفط روسيَّتَيْن، روسنفت ولوك أوبل، ممّا أشار إلى رغبة متجدّدة في دفع موسكو إلى طاولة المفاوضات في حربها ضدَّ أوكرانيا.
بدت هذه الخطوة ضارة بالاقتصاد الروسيّ دون شك، إلا أنّ حجمَ الضرر كان يعتمد على الصين بشكلٍ كبير، وبات السؤال وقتها هل ستُقْدِم بكين على شراء النفط الروسي، لتدور عجلة الاقتصاد الروسي، أم لا؟
ما حدث هو أن الصين اشترتْ بالفعل ما يقرب من نصف صادرات النفط الروسيّة منذ عام 2024، متجَنِّبة بذلك قيود واشنطن الحاليّة، ما يعني أن العقوبات الجديدة على موسكو لن تُفلِح في دفع بوتين للتراجع إلى الوراء، وغالب الظن أن هذا التصَوُّر كان السببَ وراء الحديث عن صفقة التهدئة الأخيرة، والتي سرَتْ من حولها الشائعات، وبلغ الأمرُ حدَّ القول إن الروس هم الذين كتبوا بنودها وقدموها لترامب، ويبدو أنَّ زلة لسانٍ مقصودة أو عفويَّة من وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو، كانت وراء اللَّغَط.
مهما يكنْ من أمر، بدتْ بكين قوة وازنة حقيقية على الصعيد الاقتصادي، وهي تدرك حكمًا أنَّها ستجد مقابلاً روسياً، ربّما في الفضاء بالتعاون العلمي مع الروس، بأكثر من حاجتها إلى تلقي الثمن برًّا أو بحرًّا.
الصين الوازنة، نجحتْ بشكلٍ مُؤَكَّدٍ في أمرٍ مهِمٍّ وخطيرٍ، وهو ذاك الذي أشار إليه البروفيسور الأميركيّ الشهير غراهام أليسون، مبتكر مصطلح “فخ ثيوثيديدس”، والذي كشف عن الدور الكبير الَّذي لعبَتْه بكين في تهدئة جموح، وربّما جنون الروس في صيف العام 2023، حين بدا أنّ أوكرانيا تُعدُّ العِدَّة للقيام بهجومٍ كاسح عبر الحدود الروسِيَّةِ، يمكن أن يكلف الروس ثمنًا باهظًا من الأرواح، قبل العَتَاد وهو أخشى ما تخشاه موسكو، التي تَئِنُّ تحت ضربات الديموغرافِيَّة، وتراجع عدد سكان وريثة القيصريّة، ما جعل خيارها النووي حاضرا للاستخدام.
في ذلك التوقيت تحرك مدير الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة، والدبلوماسيّ العتيد، وليام بيرنز، إلى بكين، طالبًا قيام القيادة الصينيّة بدور الوساطة في تهدئة موسكو، ودفعها بعيدا عن دائرة الشر المحمول عبر كافة المحاور الاستراتيجية، وهو ما نجحتْ فيه بكين بالفعل، وقدر للعالم أن يتجاوز فخ الحرب النووية.
الصين الوازنة، تبدو اليوم فاعلة بقوة في الجزء الغربي من العالم، هناك حيث مبدأ الرئيس مونرو، والذي يقطع بأن تكونَ تلك المساحة من البسيطة رهناً بإرادة وإدارة سَيِّد البيت الأبيض، ومن دون أدنى نفوذٍ لأيِّ قوَّةٍ أممِيَّة أخرى، ما يجعل وزير الحرب الأميركيّ بيت هيغسيث يبادر إلى إرسال قرابة ربع الترسانة البحريّة الأميركية إلى الكاريبي بحجة مطاردة كارتلات المخدرات.
هل يحتاج الحديث إلى قراءةٍ مكملة عن تلك الوزنة الوازنة في منطقة الإندوباسيفيك، ثم أفريقيا، والعودة لمغازلة أوروبا من جديد؟
إلى قراءةٍ مُتَمِّمَةٍ ومكلمة بإذن الله.
مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook



