أقلام وأراء

إميل أمين: الترمبية هل تتعلم من الريغانية؟

إميل أمين 9-8-2025: الترمبية هل تتعلم من الريغانية؟

هل على الرئيس الأميركي دونالد ترامب إعادة قراءة تجربة الرئيس رونالد ريغان في ثمانينات القرن المنصرم؟

يبدو التساؤل وكأنه يطرح نفسه من منطلق الأزمة التي أحاطت بالعلاقات الروسية–الأميركية في الأيام الأخيرة، قبل انفراجتها بعد زيارة المبعوث الأميركي ستيف ويتكووف إلى موسكو. فعلى الرغم من أن ترامب اعتُبر كثيراً صديقاً للروس، ولبوتين شخصيًّا، وفي الواقع تفاءل الكثيرون مع فوزه بولاية ثانية، وتمنوا فيما يشبه الحلم نهاية الحرب الأوكرانية، إلا أن مشهد الغواصات النووية من نوعية أوهايو التي تحركت بهدف مواجهة ومجابهة النفوذ الصيني، وتهديدات نائب رئيس مجلس الأمن القومي ديمتري ميدفيديف بتفعيل نظام “اليد المميتة”، أضرَّ كثيرا جدا بتلك الأحلام المخملية، وجعلها أقرب ما تكون إلى الأوهام.

في هذا السياق، تبدو مسألة الرجوع إلى تجربة الرئيس ريغان، ومواجهته للاتحاد السوفيتي في أوج مجده، مهمة للغاية لسبب جوهري، وهو الانتصار بدون حرب، وتجنيب العالم صراعًا نوويًّا لا يبقي ولا يذر، كما أنه لا يؤذي فقط الجانبين الروسي والأميركي، بل بقية أرجاء المسكونة، والتي تعتريها حالة من القلق الشديد في حاضرات أيامنا.

في مؤلفه العمدة “النظام العالمي.. تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”، يخبرنا بطريرك السياسة الأميركية هنري كيسنجر، بأنه نادرًا ما أفرزت أميركا رئيسًا على هذا القدر من التناسب والتناغم مع عصره وزمانه مثل ريغان.

يعنُّ لنا التساؤل “لماذا؟”

باختصار غير مُخِلٍّ، لأنه الزعيم الأميركي الذي غير الأوضاع وبدل الطباع، من غير أن يطلق رصاصة واحدة، أو يريق نقطة دم من غير طائل.

يبدو سر ريغان في أنه تمكن من مواجهة الاتحاد السوفيتي الذي كان اقتصاده في المستنقع، بعد أن كسبت الولايات المتحدة سباق التسلح وأرهقت السوفيت بما لا يطيقون حمله، فيما كانت قياداته الثمانينية زائلةً حرفيًّا بالتتابع.

ولعل ما زخم ودعم ريغان بنوع خاص، مساندة الرأي العام الأميركي له والذي كان توّاقًا للخلاص من فترة كانت زاخرة بالخيبات.

استطاع ريغان دون تهوين أو تهويل تجميع نقاط قوة أميركا الكامنة، البادية متنافرة أحيانًا، نزعتها المثالية، مرونتها، إبداعيتها، وحيويتها الاقتصادية.

أعظم وأفخم أداة استطاع ريغان من خلالها تفكيك الاتحاد السوفيتي، تمثلت في إظهار عظمة أميركا الحقيقية، وإبراز نموذجها الاستثنائي، وهو ما تجلى بقوة في خطابه الوداعي عام 1989، حيث وصف رؤيته لأميركا بالمدينة المتألقة على تلة شماء مشيدة على صخور أقوى من المحيطات، كَنَسَتْها الرياح، عامرة بأناس من كل الأجناس متعايشين في تناغم وسلام، مدينة ذات موانئ حرة زاخرة بالتجارة والإبداع، وإذا كان لا بدَّ من وجود أسوار مدينة، فإن الأسوار لها أبواب، والأبواب مفتوحة لجميع من لديهم الرغبة والجرأة اللازمتان لدخولها. هكذا رأى ريغان أميركا.

هل كان الانتصار الأميركي الداخلي هو المدخل الطبيعي أول الأمر وآخره للفوز على السوفييت؟

في مقال أخير له عبر صفحات النيويورك تايمز، يصرح الكاتب الأميركي الشهير، توماس فريدمان، عراب العولمة المعروف بأن ممارسات الرئيس ترامب في ولايته الثانية قد تقود إلى فقدان أميركا التي يعرفها الأميركيون، أما الأخطر فهو اعترافه بأنه يقرّ بعدم درايته بالمدى الزمني الذي يمكن أن يتم فيه استرجاع أميركا التي يعرفها العالم.

تبدو أميركا ترامب غير أميركا ريغان، والمواجهة مع السوفيت وقتها، تختلف عن روسيا اليوم كثيرًا.

بدايةً، عمد ريغان إلى تقوية وتعزيز حلف الناتو، وبذل الغالي والثمين لدعم أوروبا الغربية بشكل مباشر، فيما أدوات البروباغندا الأميركية، والتي وجهت إلى أوروبا الشرقية، في صورة إذاعات ومحطات تلفزة، صحف ومجلات، جماعات المجتمع المدني، مؤسسات روحية كبرى قادرة وقاهرة والتعاطي معها سرًّا وعلانيةً، كل هذه تجَلَّتْ في لحظة خاطفة عُرفت بخطاب حائط برلين، وقادت إلى اللحظات الحاسمة التي أسقطت فيها جماهير ألمانيا الشرقية الجدار العازل، وكان من الطبيعي بعدها أن تنهار جدران الستار الحديدي من حول الجمهوريات السوفيتية وقبلها انفَكَّ عقد دول أوربا الشرقية.

لم يضطر ريغان إلى تحريك أساطيل أو غواصات، بل عمد إلى إظهار نموذج أميركا التي أحبها العالم، في مواجهة السوفيت الذين تجبّروا وتكبّروا، واعتبروا أن نظريتهم ستعيش لألف عام، ولهذا لم تتجاوز العقود السبعة.

كان كيسنجر على حقٍّ حين اعتبر أن أميركا بوصفها مدينة متألقة فوق تلة لم تكن صورة مجازية بالنسبة إلى ريغان، بل كانت موجودة فعلاً بنظره لأنه أرادها أن تكون موجودة.

شتان الفارق بين رؤية لريغان عن أميركا العامرة بكل الأجناس، ونظيرتها الترمبية التي تطارد المهاجرين، تحت دعاوى حماية الأمن القومي، وعلى الرغم أن لسيد البيت الأبيض الحقَّ في حماية بلاده من أي مخاطر تتهدد أمنها القوميّ، إلا أن الأمر لا يقتصر على أولئك الذين يتجاوزون الحدود الجغرافية عبر المكسيك، إلى فكرة الهجرة ونظرية بوتقة الانصهار التي تجمع الأميركيين تحت راية علم واحد.

أميركا الريغانية آمنت بفتح الموانئ الحرة والزاخرة بالتجارة والإبداع، وليس أميركا المكبلة بأغلال من التعريفات الجمركية التي تدفع العالم لاعتبار الولايات المتحدة “إمبراطورية الشر”، في قراءة بالمعكوس للمصطلح الذي اصطكَّه ريغان قاصدًا به الاتحاد السوفيتي، ورغم شدة وطيس الحرب الباردة، إلا أنه لم يفرض طوقًا من القيود التجارية أو الاقتصادية على بلاده.

نجح ريغان بالفعل في جعل أميركا عظيمة لكن من غير رايات فاقعة أو أصوات زاعقة، لكن عبر مثال الدولة الرمز التي تسعى في طريق تحرير البشر من أغلال الكراهية التي قيدت الشيوعية بها مواطنيها، ومواطني الدول التي دارت في فلكها.

والشاهد أنه مع إدارك الاتحاد السوفيتي عبثية أي سباق تسلح فيما كانت قيادتها الطاعنة في السنِّ تواجه مشكلات الخلافة، مخفية التعقيدات خلف حجاب من البساطة، كان ريغان يقوم بطرح رؤية مصالحة مع الاتحاد السوفيتي تتجاوز أي رأي كان يمكن للرئيس نيكسون أن يعبر عنه.

ليس خافيًا أن نيكسون اعتمد سياسة فَرِّقْ تَسُدْ، والقصد التفريق بين الصين وروسيا، ومحاولة كسب بكين عبر دبلوماسية البنج بونج.

اليوم يجد الرئيس ترامب صعوبة كبرى في وضع العصا بين دواليب موسكو وبكين، فكلاهما له مصلحة مع الآخر للوقوف صفًّا واحدًا في مواجهة المحاولات الأميركية لتأكيد فكرة القطبية الأميركية المنفردة.
هل يمكن لواشنطن أن تعود مرَّةً جديدة عظيمة بالفعل؟

غالب الظن أنه يتوجب عليها أول الأمر أن تطرد نظرية الخوف من الآخر، وأن تعمد إلى مبدأ التعايش السلمي مع جميع الأمم من خلال إحياء لأميركا الجمهورية لا الإمبراطورية التي تتطلع لمَدِّ النفوذ بأدوات القوة والتي لا تنفكُّ تخدع صاحبها يومًا وراء الآخر.

هل من حقيقة مؤكدة قبل الانصراف؟

قبل أربعين سنة وعلى امتداد عقود منذ ذلك الحين، كان يظن أن العقبة الكؤود أمام التوصل إلى نظام عالمي قائم على أساس السلم هي الاتحاد السوفيتي.

بدت النغمة التي تم الترويج لها، هي أنه حال انهار النظام الشيوعي، ستَحِلُّ حقبة من الاستقرار والنوايا الطيبة، غير أنه سرعان ما تَبَيَّنَ أن دولاب التاريخ يدور عمومًا دورات أطول، وكان لا بدَّ من معالجة ركام الحرب الباردة وأنقاضها قبل أن توفر إمكانية بناء صرح نظام دولي جديد.

هل يمكن اعتبار زيارة ويتكووف الأخيرة إلى موسكو وما رشح عنها حتى الساعة من آمال في إحياء نهج جديد من العلاقات الأميركية–الروسية، بداية مسيرة على الدروب الريغانية؟

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى