#شؤون اقليمية

إعادة الاصطفاف الإقليمي: قراءة في نتائج قمة طهران

إعادة الاصطفاف الإقليمي ..

رحاب الزيادي – ماري ماهر – نوران عوضين 20-7-2022

استقبلت العاصمة الإيرانية طهران، يوم الثلاثاء 19 يوليو 2022، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أول زيارة له للشرق الأوسط منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والثانية له خارجيًا بعد زيارته لطاجيكستان وتركمانستان في يونيو 2022، حيث شهد اجتماع الدول الضامنة لمسار أستانة مع نظيريه الإيراني والتركي، علاوة على عقد اجتماع مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، واجتماعات ثنائية وثلاثية مع القادة الإيرانيين بما في ذلك المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، إلى جانب اجتماع ثنائي بين الرئيسين التركي والإيراني.

دلالات التوقيت

عادةً ما ينظر إلى هذا الاجتماع باعتباره لقاء معتادًا لدول ضامني مسار أستانة، حيث كان آخر اجتماع واقعي للقادة الثلاثة في سبتمبر 2019، لكن نتيجة لظروف الوباء عُقد اجتماع افتراضي في يوليو 2020، واتفق الأطراف حينها على عقد لقاء مباشر للرؤساء في طهران “عندما تسمح الظروف الوبائية بذلك”. وبالرغم من تراجع حدة انتشار الوباء في الفترة الأخيرة، برزت الحرب في أوكرانيا باعتبارها عاملًا آخر لتأجيل انعقاد القمة نتيجة لانشغال روسيا بالحرب ومن ثم انصرافها عن متابعة القضايا الإقليمية، بل وتشير بعض التقارير إلى أنه قبل أسابيع كان الكرملين قد أعلن أن الزيارة قد تتم قبل نهاية الصيف، من دون أن يحدد تفاصيل إضافية. ولكن على العكس من ذلك، تم تحديد موعد القمة الثلاثية عقب أيام من زيارة بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط وانعقاد قمة جدة للأمن والتنمية، لتذهب بذلك التحليلات إلى الربط بين كلا الحدثين. فعلى الرغم من كون الملف السوري هو المظلة الرئيسية المعتادة لاجتماع الدول الثلاث، تتسم القمة الثلاثية هذه المرة بسياق دولي وإقليمي مختلف، الأمر الذي استدعى تصور كونها تأتي في إطار التنافس الأمريكي الروسي الراهن، وفي القلب منها رغبة من الأطراف في تحقيق عدد من الأهداف.

وكما سبق التوضيح، تأتي القمة الثلاثية في سياق امتداد الحرب الروسية الأوكرانية واشتداد الصراع الروسي الغربي، هذا في الوقت الذي تتجه فيه الأعين الدولية مجددًا إلى منطقة الشرق الأوسط لاجتذابها إلى أحد صفوف المتنافسين، وهو الأمر الذي كان في قلب زيارة بايدن إلى المنطقة، وفي ذهن بوتين أيضًا؛ ففي أعقاب تحصينه للجبهات الأوروبية وجبهات أخرى في المنطقة الآسيوية (جولة بايدن الآسيوية، ومشاركته بقمة الحوار الأمني الرباعي “الكواد” مايو 2022)، جاء بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط ليعلن عن رغبة بلاده في عدم ترك فراغ في المنطقة لتملأه روسيا والصين.

يعد ملف الطاقة أحد أهداف زيارة بايدن إلى المنطقة، حيث حث الدول الخليجية المنتجة للنفط، لا سيما السعودية والإمارات، على زيادة إنتاجهما النفطي لضمان سد الاحتياجات العالمية، وهو الأمر الذي كانت تخشى روسيا تحققه، وعُبر عنه في تصريح ديميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين: “نحن نقدر العمل الذي يمكننا القيام به مع شركائنا (في إطار اتفاقيات أوبك+)، بما في ذلك مع شركاء بارزين مثل المملكة العربية السعودية.. وطبعًا نأمل ألا يكون تطوير علاقات الرياض مع عواصم العالم الأخرى موجهًا ضدنا”.

وفي أعقاب قمة جدة، يأتي الرئيس الروسي بنفسه إلى المنطقة لتنسيق الرؤى والجهود بشأن الأزمة السورية، وهو ما يمكن تفسيره بوجود رغبة روسية في إيصال رسالة إلى باقي شركائها بالمنطقة بأنها ستظل حاضرة. فبالرغم من انشغالها على الجبهة الأوكرانية، حضر بوتين إلى طهران للتنسيق مع شركائه حول مستجدات الأزمة في سوريا، وللتفاوض بشأن صرف تركيا عن إجراء عمليتها العسكرية في سوريا، تجنبًا لتجدد الصراع هناك.

في المقابل، وعلى الرغم من أن التهديدات التركية بإجراء عملية عسكرية جديدة في سوريا قد انطلقت منذ مايو الماضي، لكن اختارت روسيا هذه اللحظة لتجديد العمل مع شركائها ضمن صيغة أستانة، حيث ترغب روسيا في إيصال رسالة أخرى إلى الغرب مفادها عدم استعدادها التخلي عن نفوذها المتحقق في منطقة الشرق الأوسط، هذا إن لم يكن توسيعه وتقويته عبر نسج تفاعلات وتدخلات جديدة تصب في صالح سياستها في النهاية. 

تعد مسألة احتواء إيران والضغط عليها هدفًا آخر من زيارة الرئيس الأمريكي إلى المنطقة، الأمر الذي أصبح معه انعقاد القمة الثلاثية فرصة لطهران للرد على التحركات الأمريكية بالمنطقة، حيث التأكيد على استمرار حضورها ومحورية دورها بأزمات المنطقة بالرغم من المحاولات الأمريكية لعزلها. وإقليميًا، تسعى إيران عبر استمرار الحوار مع تركيا إلى تعزيز صورتها كدولة مشجعة للحوار. فبالرغم من تعدد ملفات الخلاف الإيراني التركي (لا سيما عودة العلاقات التركية الإسرائيلية، ورفضها إجراء تركيا عملية عسكرية في سوريا)، يُبرز هذا الاجتماع قدرة كلا الدولتين على تجاوز مساحة هذه الخلافات عبر الحوار والتفاهم، وهو ما قد يحمل رسالة بشأن إيران إلى باقي دول المنطقة، ولا سيما بعد ما تلقته إيران من رسائل عقب قمة جدة تتضمن عدم الرغبة في تشكيل تحالف مناهض لها.

أما عن تركيا، فتأتي القمة لتؤكد التزامها باتباع استراتيجية براجماتية في إطار سياستها الخارجية حماية لمصالحها الوطنية. فعلى الرغم من انضمامها للحلف الغربي في مواجهة روسيا حيث رفض الغزو الروسي لأوكرانيا، وغلق المجال الجوي التركي أمام الطائرات الحربية الروسية المتجهة إلى سوريا، والموافقة على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، يذهب الرئيس التركي إلى طهران للاجتماع مع نظيريه الروسي والإيراني لبحث الملف السوري، ويجتمع أيضًا بشكل ثنائي مع كل من قادة الدولتين لبحث ملفات ثنائية أخرى، بما يعني احتفاظ تركيا بعلاقاتها الثنائية مع كلا الدولتين برغم الخلافات والتناقضات.

إلا أنه لا ينبغي إغفال السياق المصاحب للقمة بالنسبة لتركيا، حيث تأتي القمة في أعقاب تهديد الرئيس التركي يوم 18 يوليو الجاري بتجميد عملية انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، إذا لم تتخذ الدولتان الخطوات اللازمة لمعالجة المخاوف الأمنية لأنقرة المتعلقة بتقديم كلا الدولتين ملاذًا آمنًا لنشطاء الأكراد، الذين تصنفهم تركيا إرهابيين. وعليه، يمكن رؤية حضور الرئيس التركي لقمة طهران من منظور ضغط تركي على الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وذلك نتيجة عدم تلبية المطالب التركية. وهنا، يمكن الإشارة أيضًا إلى التخوف التركي من قبول الولايات المتحدة طلب اليونان بالحصول على سرب من 20 طائرة من طراز F-35، والذي من شأنه تقييد التحركات التركية في منطقة المتوسط.

قمة أستانة.. اجتماع تقليدي ونتائج محدودة

شهدت طهران الاجتماع السابع على مستوى رؤساء الدول الضامنة لمسار أستانة الذي كان من المفترض استضافته في مارس 2020 لكنه عُقد افتراضيًا بسبب جائحة كورونا، ولم يتم عقده مطلقًا عام 2021 خروجًا على التقليد الذي تطور منذ عام 2017 بأن يجتمع رؤساء الدول الثلاث سنويًا بالتناوب بين عواصمهم، وربما كان هذا بسبب انشغال الإيرانيين في الانتخابات الرئاسية وتغيير الحكومة والإدارة. لكن متغيرات جديدة عجلت بعقد تلك القمة التي اشتمل جدول أعمالها على العديد من البنود والأولويات التي تختلف بحسب مصالح هذه الدول واهتماماتها السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي يمكن بحثها كالتالي:

• العملية العسكرية التركية المخطط لها تجاه منبج وتل رفعت: كانت موضوعًا رئيسيًا على أجندة القمة الثلاثية، حيث يريد أردوغان تنفيذ العملية التي تهدف إلى إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كم داخل شمال سوريا لربط الحزام الأمني الجنوبي الذي شكّلته العمليات الثلاث السابقة دون الدخول في مواجهة القوات السورية والمليشيات الإيرانية، لذا فهي تريد إخراجهم من المنطقة عبر المفاوضات مع إيران وروسيا الدولتين الراعيتين للحكومة السورية. وحتى الآن حظيت العملية بفيتو روسي إيراني، حيث حذر القادة الروس من أن تحركًا عسكريًا تركيًا محتملًا قد يشكل خطرًا على الاستقرار، لا سيمَّا أن الجغرافيا السورية تشهد الكثير من التحركات العسكرية الروسية بالتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري رافضة ومواجهة لهذه العملية، كما أظهرت تصريحات إيران الرسمية وغير الرسمية معارضتها لها نظرًا لاعتبار طهران أن نفوذ تركيا المتنامي في سوريا يمثل تحديًا أمامها. ويأتي هذا الرفض بينما يُبدي البلدان تفهمهما للمخاوف التركية، فعلى سبيل المثال، شدد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال محادثاته مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو في أنقرة يوم 27 يونيو على ضرورة تبديد مخاوف تركيا الأمنية في سوريا. ويتوقع أن تشهد القمة الثلاثية محاولات روسية إيرانية لطمأنة المخاوف التركية، والاتفاق بشأن إمكانية وقف نشاط قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في المنطقتين المذكورتين مقابل التخلي عن العملية العسكرية المزعومة التي ينظر لها البلدان باعتبارها ستعقّد وجودهما ونفوذهما السياسي في سوريا، فيما يشبه إعادة إنتاج الاتفاق المبرم بين روسيا وتركيا في أعقاب عملية نبع السلام أكتوبر 2019. 

• الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية: تريد إيران وروسيا التوصل لتفاهم ثلاثي مع تركيا لتحديد موقف من الضربات الإسرائيلية المتتالية على مواقع إيرانية في الجغرافيا السورية، التي تأتي وسط تقارير تُفيد بتصاعد الوجود الإيراني في سوريا واتهام الإسرائيليين علانية للجيش الروسي بمنح الإيرانيين المزيد من حرية الحركة، بينما توقعت دمشق وطهران أن تقاوم روسيا الهجمات الإسرائيلية بشكل أكثر جدية. وقد أدان البيان الختامي للقمة استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية على سوريا، مشددًا على أن هذه الهجمات تنتهك القانون الدولي وسيادة سوريا ووحدة أراضيها، وتزعزع الاستقرار، وتزيد من حدة التوتر في المنطقة.

• اجتماعات اللجنة الدستورية: يأتي طرح تلك المسألة بعدما فشلت جولاتها الثماني السابقة في إحداث تقدم ولو ضئيل فيما يتعلق بالعمل الدستوري، كما تعثر الاتفاق بشأن عقد الجولة التاسعة التي كانت مقررة في 25 يوليو الجاري ومن ثم تأجيلها إلى أجل غير مسمى. وقد اعتبر أردوغان أن “فشل اللجنة الدستورية فشل لمسار أستانة، مشددًا على ضرورة أن تحقق اللجنة نتائج ملموسة بسرعة”. ويتطلب إحداث اختراق في اجتماعات جنيف توافقًا بين الأطراف الدولية والإقليمية الراعية للمكونات السورية المُمثلة داخل اللجنة، وهو الأمر الذي يبدو بعيدًا في ظل توافق ضمني على استقرار مناطق النفوذ الحالية، ووجود تجاذبات سياسية مرتبطة بالحرب الروسية الأوكرانية، فضلًا عن رفض روسيا إبقاء الاجتماعات في جنيف نظرًا للتعامل مع المندوب الروسي في جلسات اللجنة الدستورية كفرد عادي وليس كممثل للدولة.

• المصالحة التركية السورية: تريد إيران طرح محاولاتها السابقة لإعادة العلاقات بين أنقرة والنظام السوري، لكن من غير المتوقع أن تقدم الحكومة التركية أو حتى النظام السوري على خطوات جدية تجاه الحوار أو المصالحة، على الأقل خلال الفترة الحالية، حيث اقتراب انعقاد الانتخابات التركية (يونيو 2023)، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وغياب توافق دولي بشأن الحل السياسي للأزمة السورية وموقع النظام السوري فيه.

ومع ذلك، وفقًا للبيان الختامي يبدو أن القمة لم تسفر عن توافق ما في حل الملفات الخلافية بين الأطراف الثلاثة الضامنة لمسار أستانة التي تتمثل في رغبة تركيا إقامة منطقة آمنة على طول حدودها الجنوبية، واشتراط روسيا حل هيئة تحرير الشام مقابل السماح لها بذلك. وتتطلع إيران لتعزيز حضورها في الشمال السوري، حيث جاءت عبارات الجانب الإيراني معبرة عن مواقف عامة مكررة كسابق البيانات المماثلة. فعلى سبيل المثال، تم التأكيد على مواصلة العمل معًا لمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره دون الإشارة صراحة للمخاوف الأمنية التركية. كما أشاروا إلى ضرورة تسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخليًا إلى أماكن إقامتهم الأصلية في سوريا وضمان حقهم في العودة، وهو ما يتناقض مع الطرح التركي الخاص بتوطينهم في مناطق الشمال السوري الواقعة تحت سيطرة مواليها. وهكذا يُتوقع أن تستمر الخلافات دون حلول على المدى القريب، لكن تنبع أهمية القمة من المعطيات الجديدة التي فرضتها التطورات الدولية والإقليمية والتي عززت الحضور الإيراني في سوريا بشكل جعل من الضروري إبرام تفاهمات معها فيما يخص المناطق الشمالية بعكس المرحلة السابقة التي فضلت فيها أنقرة وموسكو إبرام تفاهمات ثنائية بمعزل عن طهران. 

ملفات ثنائية

إلى جانب الملف السوري، تحمل زيارة بوتين أهدافًا أوسع تتصل باجتماعاته الثنائية المقررة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والقادة الإيرانيين، حيث احتل البلدان مكانةً متقدمةً على أجندة الدبلوماسية الروسية، وهو ما يُمكن شرحه على النحو التالي:

1. على صعيد العلاقات الثنائية الإيرانية-الروسية: تدفع المتغيرات الدولية والإقليمية البلدين إلى استكشاف الخيارات والفرص الثنائية، وبالأخص على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، وهو ما يتجسد في الملفين التاليين:

• الالتفاف على العقوبات الغربية: جعلت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا وإيران وما استتبعها من عزلة دولية فُرضت عليهما، التعاون بين البلدين أكثر إلحاحًا للالتفاف على العقوبات وتخفيف تأثيراتها الاقتصادية الضاغطة. وبعد الحرب الأوكرانية، باتت روسيا تعتبر إيران حليفًا مهمًا يمكن أن يساعدها في بيع النفط والطاقة، وتجنب العقوبات نظرًا لخبراتها الممتدة مع كسر العقوبات الغربية. لذلك، كان التخطيط لتطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين على رأس أولويات المشاورات بين بوتين ورئيسي، حيث وقعت شركة النفط الوطنية الإيرانية اتفاقًا بقيمة 40 مليار دولار مع شركة غازبروم الروسية يتضمن إجراءات مثل بناء خطوط أنابيب لتصدير الغاز. 

وتأتي تلك الخطوة استكمالًا لخطوات سابقة خطتها الدولتان نحو توسيع علاقاتهما الاقتصادية شملت توقيع مذكرة تفاهم بشأن النقل البري في نهاية اجتماع اللجنة المشتركة للنقل البري بين البلدين في موسكو خلال يونيو 2022، وزيارة محافظ البنك المركزي الإيراني علي صالح العبادي إلى موسكو خلال يوليو الجاري ولقائه كبار المسئولين الروس وعلى رأسهم نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، ووزير التنمية الاقتصادية مكسيم ريشيتنيكوف، ومحافظ البنك المركزي لروسيا الاتحادية، لمناقشة قضايا الاستثمار المشترك وتعزيز التعاون النقدي والمصرفي وإزالة الحواجز.

• مبيعات الأسلحة: توقعت بعض التقديرات أن ينتهز البلدان الفرصة لمناقشة صفقات تسليحية من شأنها تأكيد تحالفهما الناشئ والتحدي المشترك للولايات المتحدة، وجاءت تلك التوقعات بناء على تقييم لوكالة الاستخبارات الدفاعية التابعة للبنتاجون بأن طهران مهتمة بشراء طائرات مقاتلة روسية من طراز Su-30 وطائرات تدريب Yak-130 ودبابات T-90 وأنظمة دفاع جوي S-400 وأنظمة دفاع ساحلي باستيان، لكن من المعتقد أن إتمام أي صفقات ستتطلب أولًا رفع العقوبات المالية الأمريكية. علاوة على إمكانية مناقشة ما أثاره مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان في تصريحات للصحفيين يوم 11 يوليو بوجود معلومات بشأن استعداد الحكومة الإيرانية تزويد روسيا بما يصل إلى عدة مئات من الطائرات بدون طيار بما في ذلك تلك المزودة بالأسلحة وتدريب القوات الروسية على كيفية استخدامها، ومع ذلك ليس من الواضح درجة دقة المعلومات الاستخباراتية الأمريكية حول الصفقة وما إذا كانت إيران ستكون قادرة على الوفاء بها، أو ما إذا كانت القوات الروسية ستكون قادرة على تشغيلها بشكل فعال.

2. على صعيد العلاقات الثنائية التركية-الروسية: نظرًا لكونه اللقاء الأول بين رئيسي البلدين منذ الحرب الأوكرانية فإن كلا الدولتين سوف يستغلانه لتحقيق مصالح استراتيجية، بما في ذلك: 

• تعزيز المكانة الجيوسياسية: أظهرت الحرب الأوكرانية الأهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة لأطراف الصراع كافة، وهو ما سعى أردوغان لاستثماره لتحقيق مكاسب مضاعفة داخليًا وخارجيًا، حيث تبرز أزمة الحبوب العالمية كموضوع مهم لاستعراض قدرة الدبلوماسية التركية على التوسط بين أطراف النزاع، والتوصل إلى صيغ تفاهمية ما بشأن موضوعات ذات طبيعة حيوية للاقتصاد العالمي، ونقصد هنا تحديدًا طرح مسألة جهود أنقرة لتسهيل مبادرة تقودها الأمم المتحدة لتشكيل ممرات آمنة عبر البحر الأسود لتصدير الحبوب على أجندة المباحثات الثنائية بين الرئيسين، بناءً على مخرجات المحادثات الرباعية التي استضافتها إسطنبول يوم 13 يوليو الجاري بحضور مسئولين عسكريين أتراك وأوكران وروس ومسئولين في الأمم المتحدة، والتي انتهت إلى الاتفاق بشأن إنشاء مركز تنسيق في إسطنبول بمشاركة جميع الأطراف، الأمر الذي يُشكل نجاحًا للوساطة التركية يُمكن لأردوغان الترويج له لطرح بلاده كوسيط محتمل في محادثات سلام بين موسكو وكييف استغلالًا لعلاقاته الجيدة مع بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

• إظهار سياسة خارجية متوازنة وقدرة على المناورة: يأتي اجتماع بوتين-أردوغان بينما تمر العلاقات التركية-الأمريكية بمرحلة تعثر مدفوعة باحتمالية موافقة إدارة بايدن على طلب قدمته الحكومة اليونانية لشراء 20 مقاتلة من طراز F-35 وأعلن عنه رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس يوم 30 يونيو، أي بعد يوم واحد من تأكيد الرئيس جو بايدن لأردوغان على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في مدريد أنه يدعم طلب الأخير المعلق لشراء طائرات F-16، مما يضع عقبة أمام العلاقة المتوترة بالفعل بين البلدين، خاصة أن الصفقة يمكن أن تغير التوازن العسكري في شرق المتوسط ​أخذًا في الاعتبار التحالف اليوناني القبرصي الإسرائيلي. وفي هذا الإطار، تسعى أنقرة لتوظيف علاقاتها مع موسكو كورقة ضغط على واشنطن ولإبراز سياسة خارجية أكثر استقلالية وتوازن رغم عضويتها في الناتو، لا سيمَّا أن أردوغان سيكون أول زعيم دولة في حلف شمال الأطلسي يلتقي بوتين منذ الأزمة الأوكرانية.

• توسيع التعاون الاقتصادي والتجاري: كان أحد الموضوعات على طاولة مناقشات الرئيسين الروسي والتركي، حيث ازدادت الأهمية الاستراتيجية لتركيا في العلاقات الاقتصادية الخارجية لروسيا، فمع خروج الشركات الغربية من السوق الروسية يتم استبدالها بشركات تركية، كما تسمح أنقرة أيضًا لرجال الأعمال الروس بدخول البلاد قائلة إنهم مرحب بهم كسياح أو كمستثمرين، واللافت هنا أن تركيا لم تفرض عقوبات على روسيا رغم الضغوط الدولية.

3. على صعيد العلاقات الثنائية التركية-الإيرانية: تسعى الدولتان إلى الحفاظ على مستوى من التفاهم والتنسيق فيما بينهما رغم تعدد ملفات الخلاف، حيث تنظر طهران بقلق إلى تحركات أنقرة الأخيرة، ولا سيمَّا استعادة العلاقات مع تل أبيب، وتوثيق تعاونها مع دول الخليج، وهو ما قد يترتب عليه انضمام أنقرة لاحقًا إلى حلف مناهض لطهران. 

وتصاعدت حدة الخلافات الإيرانية التركية مع ما أُثير بشأن وجود مخططات إيرانية لاستهداف سياح إسرائيليين في تركيا، الأمر الذي أصبح معه من الضروري إجراء وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان زيارة إلى أنقرة. وهناك، أصدر تصريحًا يحمل لهجة مختلفة بشأن التدخل العسكري التركي المحتمل، معربًا عن تفهم بلاده الحاجة إلى عملية عسكرية تركية جديدة ضدّ المقاتلين الأكراد في سوريا، بالرغم من تأكيده لاحقًا أن أي عمل عسكري لتركيا في سوريا سيزعزع أمن المنطقة، وتأكيد المرشد الأعلى علي خامنئي خلال لقائه الرئيس التركي قبيل انعقاد القمة الثلاثية على “وحدة الأراضي السورية، وأن أي هجوم على شمالي سوريا لن يخدم دول المنطقة، بل إنه سيخدم الإرهابيين فقط”.

وعلى مستوى العلاقات الثنائية، تعلن طهران بين حين وآخر عن رفضها بناء تركيا سدودًا على المياه الحدودية بين البلدين، لما سيحمله ذلك من مشكلات بيئية للشعب الإيراني. ومع ذلك، لا تنفي تلك الخلافات استمرار وتيرة التعاون الاقتصادي الإيراني التركي؛ فعلى هامش القمة الثلاثية، وقعت تركيا وإيران اتفاقيات تعاون اقتصادي في مجالات مختلفة، بالإضافة إلى الاتفاق على إنشاء معامل ومصانع مشتركة، وتمديد عقد إمداد تركيا بالغاز الإيراني لـ25 عامًا، هذا في ظل التأكيد على أن المستهدف أن يصل التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار. وفي هذا الإطار، أوضح الرئيس التركي أنه من الممكن اتخاذ خطوات مشتركة مع إيران في مجالي الصناعات الدفاعية والغاز المسال.

التبعات الإقليمية

يعد المحور الروسي- التركي- الإيراني في ضوء اللقاء الثلاثي المنعقد في طهران محاولة لموازنة التحركات الأمريكية في الشرق الأوسط التي أرادت واشنطن من خلالها طمأنة شركائها الإقليميين، وضمان اصطفافهم إلى جانبها في سياق الحرب الروسية-الأوكرانية، والذي اتضح من جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى بعض دول المنطقة وانعقاد قمة جدة للتنمية والأمن في 16 يوليو الجاري، بهدف تشكيل محور يضم الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول العربية لمواجهة النفوذ الروسي الصيني في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي أثار بعض التساؤلات عن تبعات هذه المحاور على منطقة الشرق الأوسط في ضوء المتغيرات الإقليمية والعالمية المستجدة. ورغم أن هذا المحور قائم بالأساس لتنسيق وإدارة الخلافات بين الفاعلين الثلاثة بشأن الأزمة السورية، إلا أن استمرار نمط التنسيق الثلاثي في سياق التطورات العالمية قد يحمل تبعات على بعض ملفات المنطقة، وهو ما يُمكن توضيحه فيما يلي:

• خفض التوتر الإيراني-الخليجي: قد تحاول روسيا من جانبها تقريب وجهات النظر بين دول الخليج من ناحية وإيران من ناحية أخرى لما تتسم به العلاقات الروسية-الإيرانية من إيجابية من ناحية، وكذلك العلاقات الروسية-الخليجية من ناحية أخرى، ومحاولة روسيا كسب نفوذ في مواجهة الولايات المتحدة، من خلال دفع روسيا للعلاقات الخليجية-الإيرانية إلى مسار أكثر تقاربًا وأقل توترًا، من خلال الضغط على إيران لخفض تصعيدها تجاه دول الخليج، في سبيل مواجهة المحور الذي تعمل عليه الولايات المتحدة في محاولة لاصطفاف الدول الخليجية وإسرائيل في مواجهة إيران. وقد يدعم هذا التوجه ما تبديه طهران من تصريحات ترحب بالحوار مع الدول الخليجية. وهنا تجدر الإشارة إلى تصريحات كمال خرازي وزير الخارجية الإيراني السابق، فيما يتعلق باستعداد طهران للحوار مع دول المنطقة لحل الخلافات، ولا سيما بعد قمة جدة للأمن والتنمية والتي حاولت الولايات المتحدة بها طمأنة شركائها الخليجيين تجاه مخاوفهم الإقليمية بشأن إيران.

• الملف النووي الإيراني: قد يمثل التقارب الروسي-الإيراني في ضوء اللقاء الثلاثي محاولة من جانب إيران لحلحلة الملف النووي وكسب تأييد روسيا تجاهها، ومن ثم توافقهما على الضغط على الدول الغربية للتوصل إلى اتفاق بشأن ملفها النووي. وعليه، يُتوقع أن يكون اللقاء الثنائي بين رئيسي البلدين قد شهد حوارًا بشأن هذا الملف؛ فإيران حريصة على الخروج برؤية توافقية مع روسيا بشأنه لما يمثله من قلق لديها في ظل الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها نتيجة العقوبات الغربية، لا سيمَّا أن التوصل لتسوية في هذا الشأن قد يساهم في حل أزماتها الاقتصادية. كما أن من مصلحة روسيا بالرغم من تعاونها مع إيران في بناء محطة بوشهر للطاقة النووية، منعها من المضيّ قدمًا في تطوير قدرات تخصيب اليورانيوم، حيث تعارض موسكو امتلاك طهران أسلحة نووية، معتبرة أن مثل هذا التطور سيغير ميزان القوى في المنطقة، فوجود إيران المسلحة نوويًا على الجانب الجنوبي لروسيا قد يشكل تهديدًا في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، ويقوض نفوذها في مناطق الاتحاد السوفيتي السابق.

ومع ذلك، من غير المتوقع تحقق اختراق جديد بالملف النووي، نظرًا لميل الولايات المتحدة إلى المماطلة في التوصل لتسوية حتى انعقاد انتخابات التجديد النصفي بالكونجرس الأمريكي في نوفمبر القادم، وهو ما يتلاقى مع تفضيلات طهران البقاء بعيدًا عن اتفاق يضمن لها استمرار العمل على رفع مستويات التخصيب، ومن ثم رفع سقف التفاوض بشكل يمنح طهران أوراق ضغط جديدة.

• أزمة الغذاء: تحاول تركيا استغلال السياق العالمي الذي فرضته الحرب الروسية الأوكرانية من خلال لعب دور الوسيط بين الأطراف المتصارعة. وفي هذا السياق، ربما يمثل دور الوساطة التركية في أزمة الحبوب أهمية قد تنعكس إيجابيًا على المنطقة، فتعطل سلاسل الإمداد نتيجة إغلاق موانئ البحر الأسود (حيث تصدر أوكرانيا 95% من حبوبها عبر البحر الأسود ويذهب أكثر من 50% من صادراتها من القمح إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عام 2020)، أدى لنقص إمدادات الحبوب إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وارتفاع أسعارها بشكل مثَّل ضغطًا على الاقتصادات الإقليمية المتضررة جراء تداعيات جائحة كورونا، لا سيمَّا أن أسعار القمح ارتفعت بحوالي 45% تقريبًا خلال 2021 متأثرة بالجائحة وواصلت ارتفاعها متأثرة بالأزمة الأوكرانية، وهو ما وضع الأمن الغذائي في كثير من المنطقة في مأزق، فوفقًا لبرنامج الغذاء العالمي توجد حوالي 43 دولة بما في ذلك إريتريا والصومال معرضة لخطر المجاعة.

ختامًا، لم يقدم اجتماع القادة الثلاثة في طهران جديدًا في المسألة السورية التي يبدو أنها أصبحت ملفًا هامشيًا على جدول أعمالهم، نتيجة التطورات التي شكلتها الحرب الروسية الأوكرانية على المستويين الدولي والإقليمي، وبخلاف التصريحات الدبلوماسية الإيرانية والروسية التي نفت وجود أي ارتباط بين قمة طهران الثلاثية وقمة جدة للأمن والتنمية، إلا أنها لا تنفصل عن سياق الترتيبات الجارية بشأن الاصطفافات العالمية والإقليمية في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، وسعي الأطراف الثلاثة لتحقيق مكتسبات ومساحات إقليمية جديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى