أقلام وأراء

إبراهيم نوار يكتب – تقسيم العمل الدفاعي الإقليمي بين إسرائيل والولايات المتحدة

إبراهيم نوار  *- 30/9/2020

خلال فترة رئاسته الأولى وعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعادة العسكريين الأمريكيين من الخارج، تحت شعار «أمريكا أولا» وفي ظل هذا الشعار أيضا وصف ترامب حروب الشرق الأوسط مثل سوريا والعراق بأنها «حروب لا نهاية لها» و»لا طائل منها». وعلى هذا الأساس فإنه شرع في تخفيض عدد القوات الأمريكية في سوريا والعراق وأفغانستان، وقاوم بشدة إرسال قوات إلى السعودية، ما لم تدفع المملكة مقابلا ماليا، يتضمن تكلفة إرسال وإبقاء هذه القوات، إضافة إلى تعويضات كافية لتكلفة وجود قوات أمريكية تحمي الأسرة الحاكمة في العقود الماضية.

سياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط والهند، ربما كانت الأكثر نجاحا خلال فترة رئاسته الأولى، مقارنة بسياسته تجاه الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا وفنزويلا. وفي كل من المنطقتين، الشرق الأوسط والهند، لعبت إسرائيل دورا محوريا في تعزيز نجاح السياسة الخارجية الأمريكية. هذا الدور الإسرائيلي كان بمثابة (رد الجميل) إلى الرئيس الذي وقف مع إسرائيل ضد إيران، واعتبر أن المستوطنات الإسرائيلية شرعية، على العكس من سلفه باراك أوباما، وقرر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ونقل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران من السعي إلى بناء (وفاق عربي – إيراني) إلى (بناء محور عربي – إسرائيلي ضد إيران). وكانت نهاية الفترة الثانية لحكم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد سجلت صداما كبيرا مع إسرائيل، في ما يتعلق بالمستوطنات، ومع العرب في ما يتعلق بإيران. وبينما حاول إرضاء إسرائيل باتفاق مساعدات طويل المدى، فقد حاول أيضا تخفيف حدة الخلاف مع العرب، بدعوة قيادات مجلس التعاون إلى قمة خليجية – أمريكية في مايو 2015 في كامب ديفيد، أكد فيها على استمرار التعاون الاستراتيجي بين الطرفين. وعندما طلبت دول الخليج توقيع وثيقة للدفاع المشترك، رد أوباما أن الولايات المتحدة تحركت للدفاع عن الخليج في كل المناسبات بدون الحاجة إلى أي اتفاق مكتوب بين الطرفين، لكن أوباما استمر في محاولة إقناع دول المجلس بأهمية ما يمكن تسميته (الوفاق العربي- الإيراني) كأساس لتحقيق الاستقرار في المنطقة. وقد انتهت فترة حكم أوباما بالكثير من الشعور بالنقمة عليه وعلى سياساته في الأوساط الخليجية، باستثناء قطر والكويت وسلطنة عمان؛ فقد كانت الأخيرة وما تزال تؤمن بأن بناء السلام في المنطقة على أساس الثقة المتبادلة هو طريق تحقيق الاستقرار المنشود.

جاء ترامب إلى الشرق الأوسط، بعد أشهر قليلة من توليه مهام الرئاسة رسميا، مبشرا بسياسة جديدة، تتمحور حول العداء لإيران، وترى أن مواجهتها يجب أن تكون عبر تشكيل تحالف إقليمي عسكري، وهو ما عبّر عنه (إعلان الرياض) في مايو 2017. وخلال الفترة التالية حتى نوفمبر 2019 تولت الإدارة الأمريكية عملية دفع قوية لتحويل التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط (ميسا) من مجرد فكرة إلى هيكل إداري وعسكري قائم فعلا على الأرض. وشاركت في هذه العملية أجهزة وزارتي الخارجية والدفاع، إضافة إلى مجلس الأمن القومي. وتكشف المناقشات التي جرت خلال تلك الفترة أن المسؤولين عن التخطيط السياسي في تلك الأجهزة قد أقاموا فلسفة التحالف على أساس مواجهة التهديد الإيراني، باعتباره التحدي الرئيسي للاستقرار والسلام والتنمية في الخليج، وفي منطقة الشرق الأوسط ككل.

وطبقا لمداخلة تقدم بها ميك ميلروي نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط في أبريل 2019 فإن التهديد الإيراني يتضمن خمسة تهديدات فرعية، تتمثل أولا في سعي إيران لامتلاك سلاح نووي. وثانيا في تهديدها لأمن الملاحة البحرية في المنطقة. وثالثا في مساندة ودعم المنظمات المسلحة غير الحكومية مثل حركة الحوثي في اليمن، وحزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، وتوفير ملاذ آمن لقيادات «القاعدة». ورابعا في تطوير برنامج الصواريخ الباليستية التي تم استخدامها بالفعل في أماكن مثل اليمن. وخامسا في مجال الأمن السيبراني، حيث تنشط إيران بقوة في هذا المجال في السنوات الأخيرة. وقال ميلروي إن الرئيس الأمريكي مصمم على ألا تمتلك إيران سلاحا نوويا، ولذلك فإنه يشجع قيام تحالف إقليمي ضد إيران.

“تطبيع العلاقات مع إسرائيل، يمثل الآن أساس الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط، وانتقال راية القيادة للمنطقة إلى إسرائيل “.

لكن التنفيذ الفعلي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ عام 2017 أثبت أن هذا التصميم من جانب الرئيس الأمريكي يصطدم بثلاث عقبات، الأولى هي تعهد الرئيس بتخفيف أعباء وجود قوات أمريكية خارج الحدود، والثانية أن الدول العربية الشريكة للولايات المتحدة لا تشارك بالقدر الكافي في أعباء الاحتفاظ بقوات في المنطقة. أما العقبة الثالثة فهي الصراعات والخلافات السياسية بين دول الخليج في ما يخص العلاقات في ما بينها، وفي الموقف من إيران. وقد لاحظ جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق، أن الخلاف الخليجي – القطري يضعف الموقف الخليجي تجاه إيران. ولذلك فإنه أوصى في يونيو عام 2018 بضرورة أن تعمل الإدارة الأمريكية على «تغيير حسابات شركائنا في المنطقة». ومن أجل ذلك تم تعيين الجنرال المتقاعد أنطوني زيني بقيادة عملية المصالحة بين طرفي النزاع الخليجي، كما بعث الرئيس الأمريكي برسائل إلى قيادات تلك الدول محذرا من خطورة هذا النزاع على تماسك المحور المعادي لإيران في المنطقة. وتم عقد لقاء عربي – أمريكي في الرياض في أبريل 2019 شاركت فيه الولايات المتحدة، ودول مجلس التعاون الست، إضافة إلى الأردن، ولم تحضره مصر، التي فضلت الابتعاد عن المشروع. ويمكن القول بأن جهود الإدارة الأمريكية فشلت حتى الآن في خلق موقف مشترك يمثل أرضية صلبة لإقامة ذلك التحالف.

وكانت وزارة الدفاع الأمريكية في وقت تولي جيمس ماتيس، قد أعدت خططا تفصيلية للبدء في عدد من البرامج لإقامة الهيكل الإداري والعسكري للحلف، بعد اختيار المنامة، مقر قيادة الأسطول الخامس الأمريكي، مقرا للحلف. وتضمنت هذه الخطط برامج لبناء القدرات العسكرية، وإعداد رؤية مشتركة تتضمن استراتيجية للتعامل مع المخاطر والتهديدات، وكذلك بناء قدرات عملياتية مشتركة، من خلال المناورات والتدريبات المشتركة، والتسليح وتبادل الخبرات. ولم تستبعد وزارة الدفاع استخدام القواعد العسكرية الأمريكية، لكن أيا من هذه الخطط لم يجد طريقه للتنفيذ.

وقد ترافق القصور في النتائج على صعيد بناء التحالف مع قصور في استجابة الدول الخليجية لمطالب الولايات المتحدة في ربيع عام 2018 بأن تشارك، خصوصا السعودية، في المجهود العسكري الأمريكي في سوريا بالمال والسلاح والرجال، بل إن وزارة الخارجية الأمريكية رصدت محاولات من بعضها لتحسين علاقاتها مع بشار الأسد. وكانت النتيجة أن أجهزة وزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي بدأت في وضع خطط عملية لتخفيف الوجود العسكري في سوريا، والشرق الأوسط على وجه العموم، بما في ذلك دول الخليج. وطبقا لتقديرات خبراء عسكريين فإن حجم القوات الأمريكية في منطقة الخليج فقط (بدون العراق وسوريا وافغانستان) يتراوح بين 45 ألفا إلى 65 ألف عسكري، وهو رقم ضخم جدا إذا عرفنا أن حجم القوات الأمريكية في كل الدول الأعضاء في حلف الناتو يبلغ 35 ألف عسكري فقط. وقد بدأت الولايات المتحدة بالفعل تخفيف وجودها العسكري في المنطقة، بدءا من شمال شرق سوريا والعراق، ورفضت تقديم قوات مجانية للدفاع عن السعودية، وتتجه حاليا إلى تسريع معدل سحب القوات، حيث تعهد الرئيس الأمريكي بتخفيض عدد القوات في كل من العراق وأفغانستان بمقدار النصف تقريبا، لتصل بنهاية الشهر الحالي (سبتمبر) إلى 3000 جندي في العراق، وإلى 4500 جندي في أفغانستان في أوائل نوفمبر المقبل.

إن متابعة اتجاهات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تكشف عن وجود لغز يحتاج إلى تفسير، يتعلق بالتناقض بين مبالغة الولايات المتحدة في تصوير التهديد الإيراني، وقرار الإدارة الأمريكية بالإنسحاب من المنطقة، باستثناء وجود القوات والمعدات المستأجرة. لكن حل هذا اللغز لا يحتاج إلى مجهود كبير، إذا اعتبرنا أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل أصبح يمثل الأساس لإقامة محور إقليمي لمواجهة التهديد الإيراني، يستطيع بمساندة أمريكية، ان يلعب الدور المطلوب، ويؤدي في الوقت نفسه إلى تحرير القوات الأمريكية من البقاء في الشرق الأوسط، بدون أن تترك وراءها حالة من الفوضى الشديدة في ساحة مفتوحة على مصراعيها للنفوذ الإيراني والروسي والصيني. ولا تتضمن الوثائق الأمريكية الرئيسية، مثل استراتيجية الأمن القومي والاستراتيجية الدفاعية، إشارة إلى تهديد تركي للمنطقة، على اعتبار أن تركيا ما تزال عضوا في حلف شمال الأطلنطي، وأنه سيتم تطويع مواقفها لمصلحة الحلف في نهاية الأمر. من هنا يمكننا أن نستنتج أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، يمثل الآن أساس الإستراتيجية الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط، التي ستنتقل من خلالها راية القيادة للمنطقة من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، لتصبح المتصرف العسكري والاستراتيجي في شؤون الشرق الأوسط، بعد 72 عاما من قيامها. وبهذا فإن الدورة التاريخية لاستراتيجية الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط تكون قد مرت بثلاث مراحل رئيسية. في المرحلة الأولى اعتمدت على وجودها الإستراتيجي المباشر لحماية مصالحها في المنطقة، مثل النفط وأمن إسرائيل، وغلق بوابات النفوذ الروسي، وحماية حلفائها المحليين. وفي المرحلة الثانية زاد اعتمادها على وكلاء محليين، كبار أو صغار أهمهم إسرائيل وضمنت تفوقهم. وفي المرحلة الثالثة تنتقل الآن إلى ترتيبات إقليمية مستدامة بقيادة إسرائيل لتحقيق الأمن الإقليمي بأقل تكلفة ممكنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى