أقلام وأراء

إبراهيم نوار: نتنياهو ورفح: ما الثمن لعدم الاجتياح؟

إبراهيم نوار 28-3-2024: نتنياهو ورفح: ما الثمن لعدم الاجتياح؟

في الإعداد لحرب غزة كانت نصيحة مئير بن شبات مستشار الأمن الإسرائيلي سابقا إلى نتنياهو هي «إنتهوا من هذه الحرب بسرعة قبل أن يستيقظ العالم». وقد حاول نتنياهو توفير كل الإمكانات للقوات الإسرائيلية كي تنهي الحرب بسرعة البرق، قبل أن يستيقظ ضمير العالم، لكنها رغم الدعم الأمريكي المطلق فشلت؛ فكان هذا هو فشلها الأول في غزة، وكان الصمود الفلسطيني هو الذي أسقطها في هوة الفشل. وبحساب عدد إعادة اقتحام القوات الإسرائيلية لمستشفى الشفاء في غزة، التي روجت إسرائيل أن مقر القيادة العسكرية للمقاومة يقع في أنفاق أسفلها، فإن هذا الفشل تكرر أربع مرات حتى الآن. وهي تعود مجددا لشن عمليات عسكرية في مناطق كانت قد أعلنت من قبل سيطرتها عليها مثل خان يونس. ونقول بوضوح إن ما لم تستطع القوات الإسرائيلية تحقيقه في مدن ومخيمات قطاع غزة، لن تستطيع تحقيقه في رفح. ولن يتمكن نتنياهو بالخديعة الدبلوماسية أن يحقق ما فشل في تحقيقه بالحرب.

يقظة الضمير العالمي

بعد أن استيقظ ضمير العالم، وارتفعت أصوات الاحتجاج على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في غزة، فإن أهداف الحرب تاهت وسط الأنفاق، فلا عاد المحتجزون الإسرائيليون، ولا أُبيدت حماس والمقاومة، ولا انتهى خطر ما تعتبره إسرائيل تهديدا لوجودها. ومن ثم فإن نتنياهو أصبح مضطرا إلى إبطاء وتيرة العمليات العسكرية، مع الاستمرار يوميا في ارتكاب صنوف من جرائم الإبادة الجماعية للفلسطينيين، بدءا من قتل النساء حتى لا يولد أطفال، وقتل الأطفال حتى لا يصيروا فتيانا، إلى هدم المساكن وتجويع من ينجو من القتل، حتى يرحلوا عن أرضهم، وهم لن يرحلوا. هم صامدون باقون لأن الأرض أرضهم، والمستقبل لهم.

نعم، إن لصمود الشعب الفلسطيني ثمنا، وهو ثمن فادح يدفعه الفلسطيني عن رضا، حتى ينشأ جيل من الفلسطينيين له وطن، بعد أكثر من مئة عام من اغتصاب الوطن. هم في صمودهم يموتون بالرصاص، ويموتون جرحى، ويموتون جوعى. وبينما لا يضيرهم ذلك، مكتفين بالتضرع إلى الواحد الأحد والدعاء إليه، فإنهم يجدون من حولهم من يلقون اللوم عليهم، وهو ما يكشف عن نذالة سياسية وأخلاقية، لم نشهد لها مثيلا في عصرنا الحديث. هؤلاء الذين يبيعون قضية الشعب الفلسطيني لخصومة مع المقاومة، أو تحديدا مع حماس والجهاد، إنما يرتكبون جريمة بشعة في حق أمتهم. الأنكى من ذلك هو أنهم يروجون لبيع القضية بين شعوبهم، وفي كل أنحاء العالم. فهل يجوز بيع قضية شعب أصبح يأكل العشب حتى تأكلونه لحما طريا؟

الفلسطينيون لا يضيرهم أن يأكلوا العشب، أو أن يموتوا من أجل وطن حر مستقل يعيشون فيه آمنين، وهم لمنتصرون بإذن الله، رغم نذالة الأنذال ومكر الماكرين. وكأني أسمع صدى كلمات المولى عز وجل للصابرين الصامدين، يقول لهم «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون».

التهديد بالاجتياح البري

بينما الحرب جارية فعلا في رفح، حيث يتم قتل العشرات من الفلسطينيين الأبرياء كل يوم، ويتم هدم العشرات من البيوت الآمنة على رؤوس من فيها، ويتم قصف وتخريب البنية الأساسية بشكل ممنهج في المدينة الصامدة، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي يتاجر بمسرحية الاجتياح البري الهزلية. وهو يعلم على الأرجح أن اجتياحا بريا شاملا لاحتلالها سيكون مقبرة إسرائيل كلها، وليس مقبرة قواتها فقط. ولذلك فإن نتنياهو على الأرجح يعيد تكرار هذا التهديد الهزلي طمعا في مزيد من التنازلات الإقليمية والمزايا العسكرية وغير العسكرية من الولايات المتحدة وأصدقائها من الحكام العرب. وهو يعلم أنه لا يستطيع توفير غطاء دبلوماسي لاحتلال غزة، ناهيك عن اقتحام رفح بريا، دون تأييد وحماية الولايات المتحدة.

كما يعلم أن استقواءه على الشعب الفلسطيني، وانتهاكه للقانون الدولي، وتبجحه أمام محكمة العدل الدولية، وعدم احترامه للمحكمة الجنائية الدولية، لم يكن ليحدث دون تأييد وحماية الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا ودبلوماسيا. وقد وصلت به الوقاحة إلى إبلاغ الرئيس بايدن، ووزير الخارجية بلينكن، أنه ماض إلى اقتحام غزة بريا سواء بموافقة الولايات المتحدة أو من دونها، وأن عدم دخول رفح يعني هزيمة إسرائيل. هو يعتقد أن دخول قواته البرية إلى رفح ستكون نزهة، وأنه سيقتل قيادات المقاومة أو يأسرها، ويصفي حماس والجهاد الإسلامي تماما، وينزع سلاح غزة كلها، ويحولها إلى منطقة مدجنة خاضعة! نتنياهو ما يزال يعيش في الوهم، ولم يتعلم بعد دروس مستشفى الشفاء في غزة، وناصر في خان يونس ولا دروس المخيمات والمدن في كل غزة.

وإذا كان حقا يعني ما يقول بشأن الاجتياح الشامل منذ أوائل الشهر الماضي؛ فلماذا لم يقم بذلك حتى الآن؟ إن خبراء البيت الأبيض ومعظم مراكز الفكر الاستراتيجي في الولايات المتحدة توصلوا إلى استنتاج واضح بأن إسرائيل لن تستطيع تصفية وجود حماس، لا في غزة ولا في الضفة والقدس الشرقية ولا في العالم، لأن حماس عقيدة قبل أن تكون تنظيما، ولأن روح النصر أو الشهادة هي محرك عملياتها القتالية، ولأن خبرتها القتالية في حرب المدن وضعت الجيش الإسرائيلي في ورطة منذ اليوم الأول للعملية البرية، حينما اعتقد أنه سيشق طريقه إلى داخل غزة كما تشق السكين قالب الزبدة. وقد اتضح أن ذلك كان وهما. وتعرض الجيش لخسائر غير متوقعة، لدرجة أن قيادة العمليات أصدرت أوامر دائمة تطالب الجنود الإسرائيليين عدم الاقتراب من مقاتلي المقاومة أو الاشتباك معهم، وترك المهمة لسلاح الطيران.

كذلك فإن المخابرات العسكرية الإسرائيلية أبلغت القيادة السياسية في الشهر الماضي، أن حركة حماس ستبقى كتنظيم قادر على العمل العسكري والسياسي بعد انتهاء الحرب، مهما كان التقدم الذي تحرزه القوات الإسرائيلية، ومهما كان مصير حماس في غزة. وقد سخر السفير الأمريكي السابق دينيس روس، الذي عمل من قبل مستشارا لشؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض، لمدة طويلة تحت إدارات مختلفة، من أن نتنياهو، رغم إبلاغه تلك النتيجة، فإنه ما يزال يتحدث عن «تحقيق نصر تام على حماس»!

وبعد إعادة تحليل الموقف على ضوء حقائق الوضع الحالي، فإن روس استنتج أنه يتعين على نتنياهو تعديل أهداف الحرب، لأن القضاء على حماس لن يحدث، وأن استعادة المحتجزين سالمين من الأفضل أن يتم عبر صفقة تفاوضية، وأن عدم تهديد الوجود الإسرائيلي في المنطقة يمكن تحقيقه عبر ترتيبات إقليمية. وخلال الاتصالات التي جرت بواسطة الإدارة الأمريكية مع إسرائيل في الأيام الأخيرة، فقد ترافقت النصيحة بعدم الاقتحام البري الشامل لرفح غزة، بالتحذير من انعكاسات سلبية طويلة الأجل، يتعين على إسرائيل تجنبها، حتى لا تتعرض لعزلة سياسية دولية وإقليمية. هذه العزلة لم تعد افتراضا نظريا، ولكنها أصبحت حقيقة فعلية، منذ قررت دول في الاتحاد الأوروبي مثل، إيرلندا وإسبانيا، وخارج أوروبا مثل جنوب افريقيا وتشيلي والبرازيل، استعدادها للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، حتى قبل أن تقوم هذه الدولة، ومنذ قررت كندا وإيطاليا حظر تصدير المعدات العسكرية والذخائر إلى إسرائيل، إضافة إلى ذلك فإن دولا أخرى حول العالم تهدد بفرض حظر على إمداد إسرائيل بالمعدات العسكرية والذخائر في حال اقتحام رفح بريا منها فرنسا وألمانيا.

العرض الذي قدمته الولايات المتحدة إلى نتنياهو بتحقيق أهداف الحرب بوسائل أخرى غير عسكرية، مع عدم استبعاد حرية حركة الجيش الإسرائيلي في غزة، يضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ فهو يؤمن لها تعاونا أوسع نطاقا مع مصر في رفح، ويفتح الباب للتطبيع مع السعودية، الأمر الذي يسهل عملية إعادة بناء غزة بمساعدات خليجية. بعد ذلك تأمل الولايات المتحدة أن تتحول حركة حماس إلى مشكلة سياسية عربية، لا تنشغل إسرائيل بإيجاد حل لها. مع ذلك فإن مصير الصفقة الأمريكية، كما ظهرت نصا وروحا في مشروع قرار مجلس الأمن، الذي أسقطته روسيا، لا يتوقف على نتنياهو والحكومة الإسرائيلية، وإنما يتوقف على قرار حماس والمقاومة الفلسطينية. وما لم يكن إقامة دولة فلسطينية مستقلة هو الهدف النهائي المضمون دوليا للصفقة، فإنها ستسقط قبل سقوط أوراق الخريف.

هذه المعطيات تفسر تأخير تنفيذ اجتياح بري واسع النطاق لاحتلال مدينة رفح، وترجح بنسبة كبيرة ألا يحدث، وإن كانت لا تستبعده تماما، ورغم قسوة الظروف الإنسانية في غزة، فيجب أن لا يغيب عنا أبدا، وسط جهود الحرب والصمود والدبلوماسية، أن ضمان إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة قادرة على البقاء والدفاع عن نفسها، هو مركز القلب في أي صفقة سياسية لإنهاء الحرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى