أقلام وأراء

إبراهيم نوار: ما تبقى من ماء الوجه تحفظه انتفاضة ثالثة

إبراهيم نوار 14-2-2023م: ما تبقى من ماء الوجه تحفظه انتفاضة ثالثة

الانتفاضة هذه المرة، يجب أن تنطلق من رؤية سياسية واضحة عن كيفية التعايش بسلام، وتجنب الاقتتال الداخلي، فالمنطقة مليئة بعوامل الغليان، وفيها ما يكفيها من الشقاء والمعاناة. ومع كل ما يحدث لم يتبق للعرب، إلا القليل من ماء الوجه، قد يراق رخيصا أمام سخرية العالم وقهقهة الزمان. هذا الذي تبقى من ماء الوجه، يمكن أن تحفظه انتفاضة ثالثة، يقودها شباب في ربيع العمر، وصبية لم تتفتح براعمهم بعد، يهتفون بكلمات غسان كنفاني: «احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص»، وإنهم يفعلون، طالما أن الكبار تائهون في عوالم أخرى غير مقاومة الإرهاب، الذي يعاني منه الفلسطيني كل يوم.

الإرهاب ضد الفلسطينيين يراد به اقتلاعهم من أرضهم وطردهم منها، أو دفنهم فيها. هذا أصبح مصيرهم، الذي وعد به بن غفير وسموتريتش وجالانت ونتنياهو. كل منهم كشف عن وجهه القبيح. وقد شهدنا في الأسبوعين الأخيرين تغيرا في سلوك المستوطنين الإسرائيليين والقوات الأمنية تجاه الفلسطينيين، وذلك بالقتل الفوري في الشارع، إذا خرجوا احتجاجا على العنف الإسرائيلي والاستيطان، أو بشن حملات على مخيماتهم والقبض عليهم، وإيداعهم أقبية الزنازين السوداء. كما سجلت ملاحظات منظمات حماية المدنيين الدولية أن القوات الإسرائيلية والمستوطنين يتركون الفلسطينيين الجرحى ينزفون حتى الموت، ويمنعون وصول رجال الإسعاف إليهم لإنقاذهم. هذا التطرف العنيف ضد الفلسطينيين يخلق رد فعل عنيف أيضا، لن يجني منه الطرفان غير الخسارة.

تقنين القتل

في الشهر الأول من العام الحالي قتلت إسرائيل 37 فلسطينيا، وقتل الفلسطينيون 10 إسرائيليين. هذه الأرقام تعادل ثلاثة أمثال معدل ضحايا العنف المتبادل في العام الماضي، حين قتلت إسرائيل 152 فلسطينيا، أي بمعدل 13 شهيدا في المتوسط كل شهر. بينما فقدت هي 3 قتلى في مواجهات مسلحة، أي أن الإسرائيليين خسروا في شهر واحد هذا العام ثلاثة أمثال ما خسروا في العام الماضي كله. الفلسطينيون أيضا خسروا في شهر واحد ثلاثة أضعاف ما خسروا من الأرواح شهريا خلال العام الماضي. وبدلا من التهدئة وفتح الطريق لحل عادل يحرر الضفة الغربية من الاحتلال، حصل المستوطنون على رخصة سياسية لممارسة القتل ضد الفلسطينيين، وإجراءات إدارية لتسهيل حصولهم على السلاح والرصاص، لتفعيل سياسة «تقنين القتل». وفي الوقت نفسه تخطط الحكومة لتوسيع نطاق العمليات العسكرية الشاملة، وتطبيق سياسات العقاب الجماعي بكل أشكالها، بما في ذلك نسف البيوت، ومصادرة الأراضي، وعقاب العائلات وطردها. وتشير آخر تقارير وزارة الداخلية الإسرائيلية إلى أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية بلغ أكثر من 700 ألف مستوطن (أكثر من 500 ألف في الضفة و200 ألف في القدس الشرقية)، وأن حكومة نتنياهو- بن غفير- سموتريتش، آرييه درعي، تريد أن تحقق رقما قياسيا في الاستيطان خلال السنوات الأربع المقبلة، يعادل ما تحقق خلال السنوات العشرين الأخيرة. وفي هذا السياق يشير تقرير الرصد الصادر عن المنظمات الدولية لحماية المدنيين العاملة في الضفة الغربية عن الفترة من 10 إلى 30 يناير، إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي هدمت، أو صادرت، أو أجبرت الأهالي الفلسطينيين على هدم 88 بناية في مناطق القدس الشرقية والمنطقة (ج) من خريطة أوسلو، بما فيها 21 بناية سكنية، بحجة أنها أقيمت من دون تصاريح بناء، وهي تصاريح من المستحيل تقريبا الحصول عليها. ونتيجة لذلك فإن 99 فلسطينيا منهم 54 طفلا أصبحوا بلا مأوى، وفقد ما يقرب من 21 ألف شخص مصادر رزقهم كليا أو جزئيا. وكان من بين الـ88 بناية التي تم هدمها أو مصادرتها 55 بناية في المنطقة (ج) منها 5 بنايات تم هدمها بأمر عسكري، لا يسمح لملاكها بأكثر من 96 ساعة للطعن على قرار الهدم. وشملت موجة الهدم والمصادرة 26 بناية في القدس الشرقية. أما في المنطقة (ب) فإن سلطات الاحتلال قامت بإغلاق بئرين للمياه لتحرم حوالي 1500 أسرة فلسطينية من المصدر الوحيد لري أراضيها. هذه هي صورة الحياة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون في الضفة الغربية، في المناطق (ج) و(ب) والقدس الشرقية. لا أحد يدافع عنهم أو يحمي مصالحهم. ومع زيادة حدة العنف الإسرائيلي، فليس أمامهم غير الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم. إن ما تفعله حكومة نتنياهو هو إقامة حقائق جديدة على الأرض، وإزالة كل ما يمكن أن يبرر إقامة دولة فلسطينية في فلسطين؛ باقتلاع الفلسطيني من أرضه، وسلب هذه الأرض بواسطة المستوطنين. بلسان نتنياهو قبل الاجتماع الأخير للحكومة الأمنية قال: «لقد أتينا إلى هنا لنبقى». وما يجب أن يفعله الفلسطينيون هو إقامة حقائق جديدة على الأرض، حقائق تتكلم وتقول بصوت عال إن للفلسطينيين وطنا، وهو هنا، وإن الفلسطينيين ستكون لهم دولة، وهي هنا، وإن القتل يجب أن يتوقف، وإن يهود إسرائيل، والفلسطينيين بمسلميهم ومسيحييهم، يمكن أن يعيشوا في سلام مع بعضهم أو متجاورين.

تقنين الاستيطان بلا حدود

في الاجتماع الأخير للحكومة الأمنية الإسرائيلية يوم الأحد الماضي تقرر تقنين 9 نقاط استيطانية كانت معرضة للإخلاء بقرارات من الحكومة السابقة، رغم معارضة الولايات المتحدة، التي كانت خلال الزيارة الأخيرة لوزير خارجيتها قد طلبت وقف الاستيطان في محاولة لتجنب التصعيد. الحكومة أيضا قررت تعديل التشريعات، بما يسمح للإسرائيليين بالاستيطان في أي مكان في الضفة الغربية.

وكان وراء طرح الموضوع واتخاذ القرار، كل من وزير المالية بيسئليل سيموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. وفي ختام اجتماع الحكومة صدر بيان موجه إلى «كل اعدائنا» يفيد بالآتي: «في وجه كل محاولاتكم لإيذائنا وإضعاف سيطرتنا على أرضنا، فإننا نمد جذورنا في العمق، ببناء وإقامة المستوطنات في كل أنحاء بلدنا». فلسفة حكومة اليمين الصهيوني الديني في إسرائيل تقول بوضوح إن فلسطين لا تتسع إلا لليهود فقط. مع استمرار هذه السياسة، لن يتوقف سفك الدماء على الجانبين. ولا يبدو في الأفق حاليا طريق مفتوح إلى السلام والتعايش السلمي بينهما، وهو ما يثير قلق العالم، حيث تتعالى الأصوات محذرة من اتساع نطاق دوامة العنف والعنف المضاد.

ويرى كثيرون، ومنهم مدير المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، أن ردود الفعل العنيفة من جانب الفلسطينيين حاليا تشبه الانتفاضة الثانية. وإذا تطورت الصدامات الحالية إلى انتفاضة ثالثة، فإنها تكون أشد عنفا، وأكثر تسليحا من السابقتين. شهر رمضان الكريم قريبا سيدق الأبواب، وفيه تحلو الشهادة وبذل الروح والجهاد من أجل الوطن، ولن يسمح الفلسطيني لأحد بسرقة حلم الوطن، فلكل إنسان وطن، ولا يقل الفلسطيني عن أي إنسان، فمن حقه أن يكون له وطنه الذي يعمل من أجله، ويزهو به، ويورثه محررا مستقلا لأبنائه.

الذين اعتقدوا أن حلم الفلسطيني بالوطن سيزول، أخطأوا خطأ فادحا، فها هم الصغار الذين لم يبلغوا بعد سن الرشد، قد بلغوه مبكرا، وحملوا البنادق بدلا من الحجارة. ولن تستطيع الصهيونية الدينية المتطرفة مهما كان عنفها أن تغتال حلم الوطن الفلسطيني.

ومع ذلك فإن الفلسطينيين في حاجة إلى صوت قوي ينطق بالعقل وبالحق، ويتواصل مع العالم باللغة التي يفهمها، ويزيل أي وهم لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية بأنها يمكن أن تمارس العنف ضدهم تحت مبرر أنهم «إرهابيون»، وأن يصدقها العالم في مزاعمها. القضية الفلسطينية أصبحت في حاجة لإعادة تقديمها للعالم بشكل أوضح بعيدا عن أي التباس أو خلل في الفهم. قضية الفلسطينيين عادلة، ومن الضروري الدفاع عنها بالسلاح الذي يحترمه العالم ويقدره. وفي هذا السياق من الضروري أن تتضافر القوى والطاقات، ويجب أن لا ننسى أن في إسرائيل من يدعون للسلام والديمقراطية.

السلطة الوطنية الفلسطينية رغم ضعفها، لها دور كبير يمكن أن تلعبه، خصوصا في ساحات الدبلوماسية الدولية، بما فيها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية. والدول العربية، خصوصا تلك التي ما تزال تعتبر أن القضية الفلسطينية هي «قضية العرب المركزية»، لها دور يمكن أن تلعبه، في تأييد الفلسطينيين، وفي جمع التأييد لهم على مستوى العالم. حتى تلك الدول العربية التي تقيم علاقات مع إسرائيل، لها دور يمكن أن تلعبه، على الأقل بسحب سفرائها، احتجاجا على إجراءات الضم الفعلي للضفة الغربية، وتخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي وعلاقاتها التجارية. إن الانتفاضة الثالثة يجب ألا تكون تكرارا لما سبقها، وأن تنطلق من رؤية سياسية أوضح، وتستخدم توليفة أكبر وأكثر تنوعا من الأسلحة والأدوات، وألا تتراجع عن إعلان شعار التعايش السلمي والتمسك به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى