ترجمات أجنبية

أورينت 21 – أدريان غيران – غور الأردن .. تصفية عرقية ومضايقة مستمرة للمزارعين الفلسطينيين

أورينت 21 – أدريان غيران* – 25/7/2020

كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحاً عندما سمع عمر صوت محرك سيارات الجيب الإسرائيلية: “كنت أعرف سبب قدومهم، ولكن بما أنه لم يصلني قرار بهدم منزلي، ظننت أنهم جاؤوا لهدم بيت جاري”. لكن عمر عرف ما يجري عندما رأى الجنود يسيرون تجاهه: “أمروني وعائلتي بأن نجمع أغراضنا… ونرحل. أجبتهم بأنني تقدمت بطلب تصريح، لكنهم لم يكترثوا بذلك، قال أحدهم: ‘لا تقل هذا لي بل قله لمحاميك’”. وفي أقل من ساعة، تحوّل منزل عمر وخمسة مبان أخرى من قرية الحديدية إلى تراب. “إنها المرة الخامسة منذ 1982 التي يهدم فيها الجيش بيتي”.

هدم البيوت بالجرافات إحدى الوسائل الكثيرة التي تستعملها إسرائيل لتنكيد عيش فلسطينيي غور الأردن. فهي تقتلع أشجار الزيتون بانتظام وتحرق حقول القمح وتخرّب خزانات المياه، كما تجعل الوصول إلى الماء أو الكهرباء شبه مستحيل. وقبل أيام معدودة من الموعد المقرر لتقديم رئيس الوزراء، بنيامين ناتنياهو، مشروع ضم غور الأردن الاستراتيجي، قلّة هم الذين تحدثوا عما يعنيه ذلك بالنسبة للستين ألف فلسطيني -بحسب مختلف التقديرات- الذين يعيشون على هذه الأراضي التي تسعى إسرائيل إلى الاستيلاء عليها بطريقة دائمة.

“إنهم لا ينظرون إلينا”

الحديدية قرية ريفية تقع في شمال غور الأردن. يشرف عليها شمالاً على بعد كيلومترات تلّ عليه قاعدة عسكرية إسرائيلية، وتوجد مستوطنة على بعد كيلومترين إلى الشمال الغربي للقرية. ويجد أهلها أنفسهم محاصرين تماماً بالمحتلين. وتوجد أراض شاسعة شمالاً وشرقاً وجنوباً ممنوعة على أهالي الحديدية بعد أن أعلن الجيش الإسرائيلي أنها مناطق للتدرب على إطلاق النار. كما أن الطريق المؤدية إلى القرية لم تكن معبدة، وعندما قام الأهالي وبعض الجمعيات بجعلها قابلة للاستخدام، قام الجيش بتخريبها. كما يُمنع السكان من استعمال المياه التي تديرها شركة إسرائيلية تتحكم في الموارد المائية في المنطقة. وفي 2015، كان الجيش يأتي يومياً لهدم البيوت، حتى أنه لم يعد للعائلات خيار آخر سوى النوم على الأرض.

ويأتي الجيش الإسرائيلي كل أسبوع إلى الحديدية لتفقد المكان ومراقبته. ويقول عمر: “إنهم لا يقولون شيئاً، بل يكتفون بالتصوير وتدوين بعض الأشياء، وقد يحدث أن يستعملوا طائرة من دون طيار. ثم يعودون ومعهم أمر بالهدم يضعونه على الأرض ويضعون فوقه حجراً وينصرفون، حتى أنهم لا ينظرون إلينا”. ويعرف السكان جيداً أنه عندما يصدر هذا الأمر، فإن منزلهم سيُهدم لا محالة، لكنهم لا يعرفون متى: “قد يكون ذلك بعد أسبوع أو شهر أو سنوات. فالضبابية استراتيجية تستعملها إسرائيل لبث الخوف، لأن هدفهم ليس مجرد الهدم وإنما الترهيب. وهم يأملون بأننا سنسأم العيش في هذه الظروف ونرحل”.

كانت آخر مرة هدم فيها منزل عمر في تشرين الأول (أكتوبر) 2018. وذكرت الأمم المتحدة أنه في ذلك الشهر نفسه، تعرض 51 مبنى فلسطينيا للهدم أو المصادرة من قبل السلطات الإسرائيلية في بعض مناطق الضفة الغربية أو القدس الشرقية. وأعلنت منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسليم” أنه تم هدم 698 بيتاً في غور الأردن بين 2006 و2017. ولكن قلّما يتم إدراج هذه الأخبار في النقاش حول إسرائيل وفلسطين. كما أن الاضطهاد الذي يتعرض له أشخاص مثل عمر وعائلته بات أمراً عادياً لا يكاد يُحسب له حساب.

“أينما ذهبنا، سيدمرون بيوتنا”

يعيش أبو صقر في أحواز الحديدية منذ أكثر من سبعين عاماً، ووصل به الأمر إلى رفع قضية لوقف التدمير أمام المحكمة العليا. وحكم القاضي ضده بحجة أنه يمثل خطراً على المستوطنة المجاورة، رغم عدم وجود أي سوابق عدلية له. ويعلق أبو صقر على ذلك: “أنا عربي، ولذلك أنا بنظرهم إرهابي محتمل”. كما قيل له أنه باعتباره “بدويا” (بمعنى من البدو الرحّل)، فإنه يمكنه الرحيل إلى أي مكان آخر. ويجيب أبو صقر عن ذلك: “الحصول على تصريح للبناء أمر يكاد يكون مستحيلاً بالنسبة لفلسطيني. ولذلك، أينما ذهبنا، سيدمرون بيوتنا. إنهم يريدون أن نرحل من هنا”.

بينما تواصل إسرائيل توسعها في غور الأردن، تتقلص مساحة الأراضي التي يرعى فيها الفلسطينيون ماشيتهم. ويعلّق أبو صقر على ذلك: “لا يريد المستوطنون رؤيتنا، لذلك يسعون دائماً إلى خلق مساحة خالية حول المستوطنات. وعندما نحاول البقاء بعيداً عنهم، نجد أنفسنا في مناطق التدرب على إطلاق النار. فإما أن يعتقلنا الجيش أو يضايقنا المستوطنون”. وتأخذ هذه المضايقات ضد الرعاة الفلسطينيين أشكالاً عدة، من العنف اللفظي إلى العنف الجسدي، ناهيك عن التخريب وإحراق البيوت.

“ترحيلهم من دون إطلاق رصاصة”

أسّس الحاخام أريك أشيرمان منظمة إسرائيلية تدعى “حاخامات من أجل حقوق الإنسان”، ويتضامن هو وناشطون آخرون كل أسبوع مع الأهالي الذين يهددهم المستوطنون في غور الأردن. ويشرح أشيرمان الوضع قائلا: “يظن المستوطنون أنهم إذا ضايقوا الفلسطينيين بما فيه الكفاية ومنعوهم من مواصلة العيش لأسباب مادية، فسيرحل هؤلاء من دون إطلاق أي رصاصة”. وتُمارس أعمال عنف المستوطنين في غياب شبه تام لأي عقاب. وحسب المنظمة غير الحكومية “ياش دين”، تغلق 91 % من الملفات المتعلقة بأعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون من دون توجيه اتهام. ويشرح أشيرمان: “عندما يقف راع فلسطيني ومستوطن إسرائيلي وجهاً لوجه، يمكن للأخير أن يقتل الفلسطيني ويدعي أنه لم يكن له أي خيار لأن الفلسطيني هاجمه. ولن يصدق أحد ما يقوله الفلسطيني”.

تعرض الحاخام أشيرمان بدوره إلى الركل والضرب بالعصي والطعن من قبل مستوطنين، بعد أن تجرأ على مرافقة فلسطينيين ليرعوا ماشيتهم. كما قام الجيش الإسرائيلي بتوقيفه وتلقى رسائل تهديد: “وصفني أحدهم بالخائن بينما كنت أمام حائط المبكى. لم أكن أعرفه لكنه كان يعرفني”.
صحيح أن مطالبة إسرائيل بغور الأردن تعود بالأساس إلى الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، لكنها حرصت على عدم تضييع الإمكانيات الاقتصادية الهائلة للأراضي الصالحة للزراعة. فمنذ عقود، قامت الدولة بنقل إسرائيليين إلى المستوطنات الموجودة في المنطقة حتى تمنع الفلسطينيين من استعمال الموارد الطبيعية المتوفرة. وقد أسهم ذلك في ازدهار صناعة زراعية إسرائيلية وتسبب في الوقت نفسه في خراب تام للزراعة الفلسطينية.

تفقد للآبار تحت حراسة عسكرية

تقع قرية العوجا الفلسطينية شمال أريحا. وكانت العين التي تجري فيها إحدى أهم موارد المياه بالنسبة لفلسطينيي غور الأردن قبل الاحتلال. أما اليوم، فلا تكاد مياه هذه العين تكفي لاستهلاك سكان القرية، من دون الحديث عن الري. ويقول صالح فريجات، رئيس بلدية العوجا: “بعد 1967، شرع الإسرائيليون في حفر الآبار لمد المستوطنات بالماء”. ويتسبب نقص ماء العوجا اليوم في خراب الزراعة؛ حيث تمنع إسرائيل الفلسطينيين من حفر آبار جديدة وتضع حدوداً صارمة بالنسبة للعمق المسموح به عند الحفر بحثاً عن مياه. “لا يُسمح لنا بالحفر بما يكفي كي نجد ماء عذباً؛ الماء القريب من سطح الأرض مالح ولا يمكننا استعماله للزراعة أو الشرب”. كما تراقب إسرائيل القرية عن كثب كي تتأكد من مدى استعمالها للماء: “يأتي عاملون من الشركة الوطنية للمياه ‘ميكوروت’ كل شهر لتفقد آبارنا والتأكد من عمقها. وغالباً ما يتم ذلك تحت حراسة عسكرية”.

والتداعيات على الزراعة، حدث ولا حرج. يقول جاسر عطيات، وهو مزارع للخضر والغلال يجمع قوت يومه من خلال زراعة القثاء والباذنجان والبطيخ: “الوضع غير واضح بالمرة. في السنة الماضية، خسرت كل زراعتي من البطيخ والقمح. صحيح أن المنطقة غنية بالمياه الجوفية النقية، لكن الإسرائيليين لا يسمحون للعرب بالوصول إليها. جميعها تذهب إلى المستوطنات”. كما يؤكد جاسر أن العديد من أولئك الذين زرعوا الأرض طوال أجيال باعوا حقولهم ورحلوا: “عندما يموت الزرع، فهذا رهيب بالنسبة للمزارعين. نحن نخسر أموالاً، أموال الحبوب أو أجور العاملين أو النباتات أو جميع الوسائل والموارد الضرورية للزراعة. ناهيك أرباحنا لو بعنا منتوجاتنا”. وفي الأثناء، تواصل أراضي المستوطنين الإسرائيليين ازدهارها: “لهم الأمن والماء، لكنهم يرفضون تقاسمه”.

أسفرت أزمة الماء في العوجا والحد من استعمال الأراضي والتحرك والوصول إلى السوق، عن بطالة واسعة. لكن المستوطنين الإسرائيليين يرون في هذا الوضع فرصة جيدة. وهم يعلمون أن بإمكانهم الحصول على أيد عاملة مؤهلة بأجر أقل بكثير مما يطلبه عامل إسرائيلي. وهذه إحدى فوائد الزراعة في الأراضي المحتلة التي تترجمها الأرقام بطريقة مدهشة، إذ إن أكثر من نصف سكان العوجا يعتمدون على العمل في مزارع المستوطنات لتحصيل قوت يومهم. وبما أن القانون المدني الإسرائيلي لا يطبق على الفلسطينيين الذين يعملون في المستوطنات، فإن حقوق العمال في مستوطنات غور الأردن تسقط بكونهم عرباً.

كثيراً ما يُطلب من الفلسطينيين عدم اللجوء إلى العنف. وعندما يهدم الجنود الإسرائيليون منزلاً فلسطينياً في غور الأردن، لا ترد العائلة بعنف، وإنما تجمع أغراضها وتحضن أطفالها وتشاهد الجرافات الإسرائيلية وهي تهدم منزلها. وعندما يرحل الجيش، تبحث العائلة في أنقاض المنزل وتشرع في إعادة بناء حياتها. ولا يشتكي الفلسطينيون على جرائم حرب المحتل أمام محاكم دولية، وإنما أمام محكمة بلد المحتل. لكن الجواب الوحيد الذي يأتيهم لقاء لجوئهم إلى القانون واللاعنف هو ضم هذه الأرض التي يعتمدون عليها -غور الأردن.

منذ الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، بدا ناتنياهو وحليفه -منافسه سابقاً- بيني غانتس راغبين في تحقيق وعود الحملة الانتخابية بضم غور الأردن. وأعلن رئيس الوزراء: “أنا متأكد من أننا سنفي بالوعد وأنه سيكون بوسعنا الاحتفال بحدث تاريخي آخر في تاريخ الصهيونية”. أما وزارة الخارجية الأميركية، فترى في هذا الضم “فرصة مفيدة للفلسطينيين”. وعلى الصعيد الدولي، عبّر المجتمع الدولي عن قلقه بشأن التداعيات السلبية لهذا الضم على صورة إسرائيل في العالم، لكن عدداً قليلاً جداً من رؤساء الدول عبّر عن قلقه بشأن وضع الفلسطينيين.

يسير عُمر بين الأنقاض التي تراكمت على مر سنين من الهدم، ويعلّق مردّداً ما يقوله عديد سكان غور الأردن: “لا يهمنا من يكون مسلماً أو يهودياً أو مسيحياً. كل ما نريده هو العيش بحرية على هذه الأرض”.

*مصور صحفي فرنسي.

*نشر بالفرنسية تحت عنوان :

Vallée du Jourdain. Nettoyage ethnique et harcèlement des paysans palestiniens

5

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى