القدس

أنفاق القدس : تهويد عبر جهات رسمية ومال من الخارج

 نضال محمد وتد 28/7/2019

لا تختلف عملية تهويد البلدة القديمة، داخل الأسوار، في القدس المحتلة، عن باقي عمليات التهويد الأخرى لفلسطين التاريخية، وأساليب الاستيطان المختلفة، سواء الرسمية العلنية التي تستند إلى “قوانين رسمية” أم عمليات استيلاء على البيوت والعقارات الفلسطينية من خلال صفقات “بيع” وتزوير مختلفة. وتكون هذه الصفقات وما يتبعها مصحوبة بتهديدات واعتداءات وإجراءات احتلالية مختلفة.

وتشكل عمليات الاستيطان المنفلتة ومحاولات نهب البيوت في قرية سلوان، جنوبي المسجد الأقصى، منذ أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات رأس حربة لإتمام عمليات التهويد فوق الأرض، وتحت الأرض، وبناء أسطورة القدس التحتا (السفلى) اليهودية، سعيا لحفر نفق يبدأ في عين ماء سلوان ليمتد بعد تعرج في وديان وشوارع القرية، وحي بطن الهوى، وصولا عبر ما يسمى بطريق هورودوس، فساحة البراق، ثم تحت الأرض تحت شارع الواد ليخرج النفق عند مطلع طريق “درب الآلام”. لكن الأنفاق لا تنتهي عند هذا النفق، بل هناك أنفاق أخرى فرعية تمتد من هذا النفق الذي “يشق البلدة القديمة من أقصى نقطة في الجنوب (عند سلوان)، وحتى درب الآلام، مع أحلام بمد النفق ليخرج من شرقي باب العامود عند مغارة “الكتان” أو مغارة القطن التي يسميها الإسرائيليون “مغارة حزيقياهو”.

وكما في عمليات السطو والتزوير (للتاريخ) في باقي فلسطين، يتم لي وتجاوز حتى أسس القانون الإسرائيلي الرسمي، إذا وقف عثرة أمام المساعي والمرامي الاستيطانية في القدس القديمة، لتصبح أساطير التوراة وحكاياتها أقوى وأشد دليل علمي تستند إليه “المحكمة العليا” وقاضية علمانية ليبرالية، لرد التماسات الفلسطينيين ضد عمليات الحفر التي تجري تحت بيوتهم وتهدد بانهيارها.

وقبل الاسترسال لا بد من الإشارة إلى قانونين أساسيين في هذا المجال يتصلان بالحفريات الأثرية، وبالملكية على الأرض وما يشتق من حقوق عليها، يجري بطبيعة الحال عند الحاجة تجاهلهما والالتفاف على نصوصهما إذا كان ذلك يخدم الهدف الاستيطاني، وهدف بناء رواية صهيونية.

القانون الأول هو قانون الأراضي الإسرائيلي الذي ينص على أن من يملك الأرض هو من يملك ما فوقها وما تحتها، وبالتالي فإنه وفقا لهذا القانون، يفترض أن يكون ما تحت الأرض الفلسطينية في سلوان والبلدة القديمة من القدس المحتلة، داخل الأسوار ملكا للفلسطينيين، لكن هذا القانون لا يطبق في حالة الفلسطينيين، خلافا مثلا لما تم عند حفر وشق نفق الكرمل في حيفا الذي يقطع حيفا من الغرب إلى الشرق، حيث خاضت الحكومة الإسرائيلية وشركة شق وحفر النفق نضالا قضائيا مقابل أصحاب الأراضي التي يمر النفق تحتها على عمق يراوح بين 30 و200 متر تحت هذه البيوت، واضطرت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات مصادرة رسمية وطويلة ودفع تعويضات لأصحاب هذه الأراضي، ما سمح في نهاية المطاف بافتتاح النفق وتدشينه في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2010.

في المقابل مثلا، فقد رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا في حالة بيوت سلوان، في حي بطن الهوى وعين الحلوة، التي هددتها حفريات المستوطنين وأدت إلى تصدعات وشقوق خطيرة، التماسات السكان بوقف هذه الحفريات بادعاء أنهم لم يثبتوا وقوع ضرر لبيوتهم، وأن هناك مصلحة “عامة” للجمهور في إجراء عمليات الحفر، مع تكريس واعتماد القاضية عدنا أربيل، التي ينظر إليها إسرائيليا بأنها ليبرالية ومتنورة، لموقف جمعية “إلعاد الاستيطانية” بشأن وجود “أهمية وطنية ودولية” لعمليات الحفريات في سلوان، وسط اعتماد القاضية المذكورة على مقاطع من التوراة وأسفارها المختلفة بادعاء “أن تلة ديفيد (الحديقة التوراتية التي صودرت من أراضي سلوان) تحكي تاريخ مدينة القدس منذ آلاف السنين”.

هذا القرار من العام 2008 يأتي عمليا بالاستناد إلى إجراء إسرائيلي سابق اتخذته حكومة الاحتلال منذ العام 1967 بوقف عمليات تسجيل الأراضي والعقارات الفلسطينية في القدس في سجل الطابو، وبالتالي يصبح أصحاب هذه العقارات غير قادرين لاحقا، كما اتضح في التماس أهالي سلوان، على التوجه للقضاء في كل ما يتعلق بصفقات بيع أو شراء أو تزييف لأنهم لا يملكون وثائق طابو رسمية، أما من يملكون مثل هذه الوثائق فقد تعرضوا عند محاولة الاحتجاج إلى عمليات اعتقال ومداهمات وإجراءات احتلالية من دون سبب واضح للعيان باستثناء سعي إسرائيل لترهيبهم من اللجوء للقضاء الإسرائيلي نفسه لوقف عمليات الحفريات تحت بيوتهم، سواء في سلوان، أو في مواقع أخرى داخل أسوار البلدة القديمة، اتضح أنه جرت تحتها عمليات حفريات سرا، بعيدا عن الأضواء، ولكن بمعرفة السلطات الرسمية، لأن قوانين سلطة الآثار في إسرائيل تحظر البناء أو الترميم في مواقع أثرية وتاريخية، من دون مصادقة مسبقة من سلطة الآثار، وبشرط أن يقوم موظفو هذه السلطة بعمليات الحفريات ومراقبتها وبتمويل من مقدم الطلب.

يقود هذا إلى تثبيت حقيقة أن خمس جهات في دولة الاحتلال تتولى عمليات الحفريات المختلفة في القدس المحتلة، وكلها طبعا بتفويض وتكليف من حكومة الاحتلال: الجهات الرسمية في هذا الباب هي ثلاث جهات: سلطة الآثار الإسرائيلية القطرية، شركة تطوير القدس (شركة تابعة لبلدية القدس المحتلة) وصندوق تراث الكوتيل (التسمية الإسرائيلية لحائط البراق) وجمعيتان استيطانيتان، هما “إلعاد” و”عطيرت كوهنيم” والشركة الحكومية لتطوير “الحي اليهودي”.

وفي ها السياق تنبغي الإشارة إلى أن عمليات الحفريات والتنقيب حتى أواسط العام 1985 تقريبا كانت تتم من الجهات الرسمية وبالأساس في “المساحات” التي صادرها الاحتلال واعتبرها الاحتلال غير تابعة للفلسطينيين، على امتداد حائط البراق وفي منطقة القصور الأموية، جنوبي حائط البراق، وكان أكبر تجليات هذه الحفريات في العام 1996 افتتاح دولة الاحتلال للنفق الذي سمّته “نفق الكوتيل”، ويبدأ من أسفل النقطة الشمالية لساحة البراق ليخرج من مفترق درب الآلام (فيا دي لروزا)، بحضور كل من رئيس الحكومة حينها بنيامين نتنياهو، ورئيس بلدية الاحتلال في ذلك الوقت إيهود أولمرت، والثري اليهودي الأسترالي الأصول إيرفين ميسكوفيتش، ورئيس جمعية عطيرت كوهنيم متان دان. أدى افتتاحه مع التصريحات التي أدلى بها نتنياهو آنذاك وقوله إن حائط البراق هو صخرة الوجود اليهودي، إلى اندلاع هبة النفق. كان هذا أول ظهور لنشاط جمعية “عطيرت كوهنيم” في مجال الحفريات والأنفاق، مثلما تشكل الحفريات في سلوان درة تاج النشاط الاستيطاني لجمعية “إلعاد”.

عطيرت كوهنيم

تأسست هذه الجمعية الاستيطانية في أواسط الثمانينيات ونشطت إلى جانب “المدرسة الدينية الاستيطانية عطيرت يروشلايم” القائمة في قلب حي الخالدية، عند عقبة الخالدية داخل أسوار البلدة القديمة بالقرب من باب السلسلة. ونشطت في شراء بيوت من الفلسطينيين داخل البلدة القديمة، وبينها البيت المشهور لشارون، وما يعرف ببيت المصور المطل على طريق الآلام، وعلى قبة الصخرة. ونشطت الجمعية بتمويل يهودي خارجي، ويعتبر إيرفين ميسكوفيتش، آنف الذكر، الممول الأكبر للجمعية التي استطاعت شراء بيوت أيضا في حي رأس العامود وفي منطقة الشيخ جراح، في صفقات سرية اعترتها شبهات كثيرة حول نصب واحتيال وتزييف تواقيع أصحاب البيوت.

وتشكل الجمعية أحد الأذرع غير الحكومية للاحتلال في هذا السياق، وتستغل نفوذها في أوساط اليمين للضغط على الجهات الرسمية في تحصيل أذونات لعمليات الحفريات تحت البيوت التي اشترتها، وفقا لنص قانون الأراضي المذكور. وقد حاولت الجمعية التي كانت من الدافعين وممولي عملية حفر نفق “حائط البراق”، استصدار تصاريح لمواصلة حفر النفق من نقطة انتهائه في درب الآلام تحت طريق الواد وصولا إلى مغارة القطن في الجهة الشمالية من سور البلدة القديمة على يمين باب العامود، علما أن اللافتة المثبتة على باب المغارة كتب عليها مغارة سليمان.

وكان للجمعية أيضا نشاطها في حفر شبكة من الأنفاق والقاعات تحت الأرض في الحي الإسلامي، وفي منطقة الباب الجديد.

إيرفين ميسكوفيتش: يعتبر هذا الثري اليهودي الأسترالي، ليس فقط من ممولي عمليات شراء العقارات في البلدة المحتلة، بل أول من أطلق عمليا الحفريات داخل الأسوار، بعدما مول شراء كنيس يهودي مهجور يقع عند الزاوية الشمالية الشرقية لساحة البراق الملاصقة لحائط البراق، ويدعى كنيس “أهل يتسحاق”، وقد تمت عملية الشراء بتمويل ميسكوفيتش في العام 93، لتباشر الجمعية التي اشترته عمليات حفر تحت المبنى كانت البذرة لمشروع حفر نفق البراق. وبموازاة تمويل نشاط الجمعية من ميسكوفيتش، فإن وزارة الإسكان التابعة لحكومة الاحتلال، تمول تكاليف الحراسة لعائلات المستوطنين الذين يقطنون العقارات التي تستولي عليها هذه الجمعية.

كما تحظى الجمعية بتمويل مفتوح لعملية طرد عشرات العائلات الفلسطينية من بطن الهوى في سلوان بزعم أن هذه البيوت كانت تابعة في عشرينيات القرن الماضي ليهود من أصول يمنية، وهو ادعاء تستغله الجمعية أيضا في عمليات الاستيلاء على بيوت فلسطينية أخرى في حي الشيخ جراح. ومع استيلاء الجمعية في العام 2004 على بعض بيوت بطن الهوى عبر سلسلة من الإجراءات القضائية، فتحت عمليا الطريق لعمليات الحفر داخل البيوت، والتي أفضت إلى حفر الأنفاق التي تبدأ من سلوان، وهي أنفاق متقطعة في البداية لتنتهي في آخر نفق تم حفره بمشاركة السفير الأميركي ديفيد فريدمان في يونيو/ حزيران الماضي.

وتستفيد جمعية كوهنيم من تعاون الجهات الحكومية المختلفة، مثل دائرة تنفيذ الأحكام والحجز، لتشديد التضييق على سكان سلوان المدنيين بما يدفعهم للخضوع لبيع ممتلكاتهم بحسب ادعاءات الجمعية لتغطية ديونهم التي تتضاعف بشكل مهول بفعل قرارات قضائية تربط الديون بفائدة بنكية وبتغريم المدين بتكاليف المحاكم وعمليات الحجوزات، وحراسة أطقم دائرة تنفيذ الأحكام، بعد أن تكون الجمعية قد قدمت أوامر لإخلاء الفلسطينيين من بيوتهم بزعم أن هذه البيوت تعود لملكية الجمعية كوارثة “لحي أو بيوت اليهود اليمنيين في سلوان”.

جمعية إلعاد

تعتبر اليوم من أهم الجمعيات الاستيطانية الفاعلة في القدس المحتلة والتي ترتبط باتفاقيات رسمية مع الجهات الحكومية والسلطات المختلفة، مثل سلطة تطوير الحدائق الوطنية (والتي لها قانون آخر يساهم في تمكين السيطرة على الأراضي الفلسطينية بحجة حماية الحدائق الطبيعية والموروث التاريخي والأثري)، وتتولى هذه الجمعية مسؤولية إدارة وتطوير حديقة “قلعة داود” القائمة على أراضي قرية سلوان، إلى الجنوب من المسجد الأقصى، وأساس النشاط الاستيطاني في سياق تهويد تاريخ المدينة، لكون نقطة بداية سلسلة الأنفاق تبدأ من سلان جنوبا لتصل إلى ما تحت القصور الأموية، فساحة البراق وصولا إلى نقطة خروج النفق في مفترق درب الآلام، المشار إليه سابقا.

تأسست الجمعية في العام 1986 على يد ديفيد باري، الذي خدم في الوحدة المختارة “سرية الأركان”، ثم أنهى خدمته العسكرية في العام 1979. انتقل ليعمل مدرسا في “يشيفات عطيرات كوهنيم”، قبل أن يعود بناء على طلب من إيهود باراك (آنذاك رئيس أركان جيش الاحتلال إبان سنوات الانتفاضة الأولى)، لتولي قيادة وحدة المستعربين “دوفدوفان”. ومنحه الصهيوني الحائز على جائزة نوبل، إيلي فيزل، شرف ترؤس مجلسها العام، ما مكن الجمعية من الوصول إلى تبرعات هائلة من أثرياء اليهود في العالم في بداية طريقها، حيث كانت تعد على لائحة الجمعيات اليهودية المتطرفة، إلى جانب المدير السابق لديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيلان كوهين، والمغني الإسرائيلي يورام غئون، والقاضي المتقاعد يعقوف بيزك، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” الجنرال عاموس يادلين، الذي يرأس اليوم معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب.

في العام 1997 تمكنت الجمعية من دخول عمق الإجماع الصهيوني السائد عندما تم توقيع اتفاق حصري بينها وبين سلطة أراضي إسرائيل يمنحها حقوق إدارة وصيانة ما تسميه دولة الاحتلال مدينة داوود في سلوان، الذي يمتد على مساحة تصل إلى 26.007 أمتار مربعة. ومنذ ذلك الوقت تدير الجمعية كل النشاطات التي تقع في نطاق سلوان المسماة أيضا حديقة مدينة داوود لصالح “سلطة الحدائق الوطنية”، في استثناء يجعل من الجمعية الاستيطانية “إلعاد” واحدة من جهات خاصة قليلة في إسرائيل تدير مثل هذه المشاريع. ويشكل هذا الأمر الواجهة المعلنة لنشاط الجمعية بأنها جمعية تنشط في مجال السياحة والإرشاد السياحي، بل حتى أنها تصدر كراسات مترجمة للعربية.

ويشكل الاتفاق المذكور بطبيعة الحال، إذنا للجمعية لتوسيع نشاط الحفريات التاريخية في الموقع. وفيما كانت ميزانية الجمعية بين عامي 2006-2013 تصل إلى 56 مليون شيقل من التبرعات من الخارج، فإن تقريرا لهآرتس من العام 2016 بين أن ميزانية الجمعية وما تحصل عليه أيضا من دعم حكومي يصل إلى مئات ملايين الشواقل سنويا.

ويشير تقرير على موقع “سلام الآن” من العام 2017 إلى أن الجمعية التي واجهت امتعاضا وتذمرا من حكومات الليكود برئاسة إسحاق شامير في بدايتها عام 1991 تحولت اليوم إلى إحدى الجمعيات التي تحظى بتمويل حكومي رسمي، بل إنها تستغل ثراءها بفعل التبرعات لفرض أجندتها حتى على سلطة الآثار الرسمية وتحديد أجندة الحفريات وموقعها وطبيعتها.

وقد كرمت دولة الاحتلال مؤسس الجمعية باري عندما منحته أرفع جائزة تقديرية للدولة، هي جائزة إسرائيل في العام 2017 بفعل نشاطه في مشروع “مدينة داوود”.

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى