أنطوان شلحت: أصوات من الهامش آخذة بالاتساع

أنطوان شلحت 8-10-2025: أصوات من الهامش آخذة بالاتساع
شهدت إسرائيل على مدار عامين من الحرب على قطاع غزّة اجتهادات ملفتة، ويمكن توصيفها بأنها جريئة تتعلق بصقل الأسباب التي أدّت بالأمور إلى أن تؤول إلى ما هي عليه، إلى جانب طرح الخيار الذي يمكن التعويل عليه للخروج من الحال السائدة. وهي اجتهاداتٌ تنطوي على عدة دلالاتٍ من الصعب تناولها هنا بما يكفي من التفصيل والإبانة. وفي اعتقادي، أنه في ما يختصُّ بسياسات إسرائيل على وجه التحديد، فإن تحفّظ بعضهم حيال تلك السياسات المتأصل في التشكيك بالصهيونية فكراً وممارسة منذ تأسيسها هو الأكثر إثارة للانتباه.
ما زالت هذه الأصوات في الهامش، ولكنها آخذة بالاتساع. ولا تزال الأغلبية ترى أن أي نقد جوهري للصهيونية يُعدّ مساساً بـ”جوهر الدولة”. ومع ذلك، فإن تكرار المذابح في غزّة، وتدهور صورة إسرائيل دولياً إلى حضيض غير مسبوق، بالإضافة إلى الانقسام الداخلي، جعلا كتّاباً وصحافيين إسرائيليين يعيدون التفكير في سؤال: هل كانت الصهيونية صالحة أصلاً “أساساً أخلاقياً” لدولة؟ وهو سؤال ترتب بالأساس على رسوخ رؤية فحواها أن التدمير الشامل في قطاع غزّة، وتحويل الفلسطينيين إلى لاجئين، وتجويعهم، هي أمور تشكّل أنماط إبادة جماعية. وثمّة من ربط بين ما يحدُث في غزّة منذ عامين ونكبة عام 1948، في إشارة إلى أنّ هناك استمراراً للسياسات الصهيونية التي تسبّبت بالنكبة.
داخل هذه الأصوات هناك من يحاول ادّعاء أن ما يحدُث هو تلطيخ “الحلم الصهيوني”، وتقف من وراء هذا الادّعاء دعوة إلى العودة إلى الالتزام بذلك الحلم. غير أن داخلها في الوقت عينه أصوات تعتبر أن من يتبنّى هذه الدعوة يعيش خداعاً ذاتياً عميقاً، فالصهيونية وصلت إلى ما هي عليه حالياً بسبب أصولها، ولا يوجد بديل من داخلها، ولن يكون. وهي، مثلما أكد أخيراً المؤرّخ آفي شلايم والكاتب كوبي نيف، نظام قمعي وعنيف، وكل من يصف نفسه صهيونيّاً يعلن انتماءه إلى هذا الواقع. وسبق لكاتب هذه السطور أن أشار إلى أن نيف وصف ما يجري في غزّة بأنه استمرار للنكبة، معتبراً أن إسرائيل تسير في طريق فقدان إنسانيتها، وأن الصهيونية، التي وعدت اليهود بالخلاص، تحوّلت إلى أداة تبرير للقتل والهيمنة.
وما تأدّى عن هذا المسلك طرح سؤال كان شبه محرّم: “هل يمكن أن نتحرّر من الصهيونية؟”، وذلك عبر مساءلة الفكرة المؤسسة ذاتها: الصهيونية كعقيدة، لا كحركة سياسية فقط. وهذا الأمر، وإنْ لا يزال محدوداً، يعكس أزمة في بنية الهوية الإسرائيلية.
وينبغي أن نشير إلى استنتاجين توصل إليهما معظم الذين طرحوا هذا السؤال: الأول، أن العقيدة الصهيونية باتت في جوهرها واستناداً إلى أصولها ذريعة دائمة للعنف تجاه الفلسطيني. وهذا ما يجب أن يعني في عرف اليهود فقدانها معناها التحرّري الذي جرى ترويجه منذ تأسيسها، ناهيك عن تحوّلها إلى عبء على أصحابها. الثاني، أن الدعوة إلى التحرّر من الصهيونية ليست بالضرورة دعوة إلى هدم إسرائيل كما يتهمها خصومها، بل إلى الانعتاق من التورّط في مشروع استعماري طويل الأمد. وفي هذا السياق، يكتب كتّابٌ ومؤرّخون إسرائيليون عن الحاجة إلى ما يصفونها “إسرائيل جديدة” لا تقوم على العداء حيال الفلسطيني، ولا على إنكار تاريخه، بل على شراكة إنسانية وسياسية بعد الاعتراف بالظلم التاريخي المستمرّ منذ 1948.
ربما لا يشكل أصحاب هذه الدعوة اليوم تياراً سياسياً منظّماً، لكن مقاربتهم تمثل شرارة فكرية من شأنها أن تتطوّر مع مرور الوقت، خصوصاً إذا ما تصاعد الوعي الأخلاقي لدى مزيد من الفئات الإسرائيلية. ولعل أكثر ما أثبتته الوقائع المتراكمة عامين من الحرب على غزّة أن القوة العسكرية لا توفّر الأمن مثلما أنها لم توفّر الخلاص، وأن الطريق نحو توفيرهما يبدأ من تحرير الذات من العقيدة التي برّرت ولا تزال تبرّر العنف ضد الفلسطيني.