شؤون إسرائيلية

أليف صباغ يكتب – كيف نفهم المتغيرات الأخيرة للخارطة السياسية في “إسرائيل”؟

أليف صباغ *- 23/11/2020

السلوك المنظّم للمستوطنين يفسّر تصاعد حزب “يمينا” في استطلاعات الرأي، حيث يشكّلون قوّةً داخليةً في الليكود وضغطاً متزايداً على نتنياهو لصالح الاستيطان عبر التهديد بتأييد بينيت.

تشير استطلاعات الرأي العام في “إسرائيل” إلى متغيّرات سياسية لا بد من الوقوف عندها وتفسيرها. وفي حين تحصل تقلّبات في الخارطة السياسية أو الاصطفافات الحزبية، لا بد من ملاحظة الثابت والمتغيّر فيها. فهل نستطيع أن نقرأَ المستقبل وفقاً لاستطلاعات الرأي العام؟ وهل تستطيع هذه الاستطلاعات التأثير فيه؟ وعليه يتوجّب علينا أن نسأل، ما هي العوامل المؤثرة في تطوّر هذا الاتجاه أو عكسه؟

أهمية استطلاعات الرأي العام

في عصر الإنترنت، أصبحت استطلاعات الرأي العام أداةً هامةً جداً لصانعي القرار، ولا يقتصر هدفها على تصوير الواقع الجماهيري ومعرفة المزاج العام فحسب، وإنما تتحوّل إلى أداةٍ لتغيير هذا المزاج وحتى لتغيير الواقع. فالاستطلاعات المهنية، إذا ما اتُّخذت منهجاً ثابتاً ومثابراً، قد تُنبئ بتغيّرات سياسية قبل حصولها، يساعدها في ذلك وسائل الإعلام، شرط أن تكون على قدرٍ من المهنية العالية، لكي تقود هذا التغيير فيصلُ الى أهدافه.

تتأثّر الجماهير الواسعة باستطلاعات الرأي، منهم من يجد نفسه جزءاّ من القوى الصاعدة فيشتدّ أزره، ومنهم من يسير مع التيار الصاعد وهذا نهجه في الحياة، ومنهم من يستفزه تراجع تياره فيحفزّه للعمل خوفاً من الخسارة المتوقّعة، وهذا ما نلاحظه عشيّة كل انتخابات في أي دولةٍ تعمل فيها استطلاعات الرأي العام.

تُستخدم الاستطلاعات دائماً في الأبحاث الأكاديمية، والإجتماعية والسياسية، وكذلك في الاقتصاد وتوجيه الإنتاج شكلاً ومضموناً. وتشكّل بذلك أداةً هامةً في العصر الحاضر لتوجيه متّخذي القرار في التأقلم مع المزاج العام أو العمل على تغييره. كما تشكّل أداةً لقياس ردود الفعل الجماهيرية أزاء موقفٍ سياسيٍّ محدّدٍ أو عملٍ عسكريٍّ أو توجّهٍ اجتماعيٍّ اقتصاديٍّ، فيعزّز صاحب القرار موقفه أو يتراجع عنه، وغالباً ما تقوم الجهة المعنيّة بطلب قياس رد الفعل الجماهيري وفقاً لحاجاتٍ داخلية.

نتائج الاستطلاعات السياسية الأخيرة في “إسرائيل”

تشير نتائج استطلاعات الرأي العام الثلاثة الأخيرة في “إسرائيل”، من شهر 9/2020 و 11/2020 ، مقارنةً لما كانت عليه نتائج الانتخابات البرلمانية قبل أقلّ من سنةٍ، إلى صعودٍ كبيرٍ لحزب “يمينا” برئاسة نفتالي بينيت، (حزب البيت اليهودي سابقاً)، على حساب أحزابٍ أخرى وإلى غيابٍ متوقّعٍ لحزب العمل التاريخي وأحزابٍ صغيرةٍ حديثة العهد، فكيف نفسّر ذلك؟

إذا كان الليكود، برئاسة نتنياهو، قد حصل على 36 مقعداً في الانتخابات الأخيرة، تشير الاستطلاعات الثلاثة الأخيرة إلى تراجعه إلى 31 عضواً في شهر أيلول/سبتمبر ومن ثم إلى 29 و 28 عضواً، فيما لو جرت الانتخابات يوم 16 أو 17 من الشهر الحالي نوفمبر/تشرين الثاني.

أما حزب “يمينا” الذي ضمّ غالبية المستوطنين، والذي وقف إلى جانب يمين الليكود في الخارطة السياسية وحصل على 6 مقاعد فقط في الانتخابات الأخيرة، شهد وفق الاستطلاعات ارتفاع أعضائه إلى 21 وثم 22 وحتى 25 مقعداً في آخر استطلاعات الرأي العام. وهذا يتطلّب توقّفاً لمعرفة مصدر هذا التحوّل وأسبابه! أما قائمة “أزرق أبيض” فقد وصلت إلى 33 مقعداً في الانتخابات الأخيرة، ولكنها انقسمت إلى ثلاث كتلٍ بعد دخول رئيسها بيني غانتس في حكومةٍ واحدةٍ مع بنيامين نتانياهو، وهم كتلة “يش عتيد- تيلم” برئاسة يائير لبيد وبوغي يعلون، المكوّنة من 13 عضواً، وكتلة “أزرق أبيض” برئاسة غانتس التي تضمّ 18 عضواً، وكتلة “ديرخ آرتس” المكوّنة من يوعاز هندل وتسفي عاوزر.

وعليه، ووفق استطلاعات الرأي العام، تشهد فترة ما بعد الانتخابات الأخيرة تغيّرات في موازين القوى الداخلية فتختلف عن واقعها الحالي في الكنيست.

تشير التحليلات إلى أنّ قائمة “ديرخ آرتس” التي أجبرت بيني غانتس على الائتلاف مع نتنياهو، لا تعبّر عن نسبة الحسم في أي انتخابات قادمة، أما كتلة “يش عتيد” فترتفع من 13 عضواً إلى 18 ثم إلى 20 لتتراجع بعدها إلى 15، بينما يتراجع غانتس من 18 عضواً إلى 12 في الحد الأقصى.

أما “ميرتس” التي تحالفت مع حزب “العمل” و”غيشر” في الانتخابات الأخيرة وحصلت على 7 أعضاء، فتتأرجح في الاستطلاعات الأخيرة، ولو بقيت وحدها سيكون عددها بين 6-7 أعضاء ويغيب حزبي “العمل” و”غيشر” عن الخارطة السياسية. والأهم من كلّ ذلك، هو غياب حزب العمل التاريخي والمؤسّس لهذا الكيان. أما ليبرمان الذي حصل على 7 أعضاء وشكّل بيضة القبّان في أي ائتلاف حكومي، فهو يتأرجح بين 5-7 أعضاء، وهذا لا يعني تغيّراً يُذكر.

إذن فالتغيرات التي تلفت الانتباه هي صعود كتلة “يمينا” بشكل كبير، من 6 إلى 25 مقعداً، من أين لها هذه المقاعد؟ وغيابٌ متوقّعٌ لحزب العمل التاريخي، وغياب كتلٍ صغيرةٍ وحديثة، مثل “غيشر” و “ديرخ آرتس”، وتراجع الليكود بـ 8 أعضاء، لحساب من؟

إن إعادة توازنات المقاعد داخل كتلة “أزرق أبيض”، قبل وبعد انقسامها، تُظهر أن “يش عتيد” هي الكتلة الأكبر بين مركّبات الكتلة الأساس، وليست كتلة “بيني غانتس”، وفي المجموع الكليّ، تكون الكتلة الأصيلة قد تراجعت من 33 إلى ما يقارب 28 مقعداً وثبات كتلتيّ الحريديم المؤلّفتين مع نتنياهو.

كيف نفهم ذلك؟

يمكن أن نرى المتغيّرات بين الكتل المركّبة لـ”أزرق أبيض” الأصلية، على أنها إعادة توازنٍ للقوى داخل اليمين اللّيبرالي، ليُظهر كلّ حزبٍ قوته الذاتية، ولكنّ تراجع التأييد لمجموعة بيني غانتس بالرغم من أنه في موقع السلطة الفعلية، وهو على رأس غالبية الوزارات في الحكومة، هو تعبيرٌ عن عدم الرضى لوجوده في الحكومة، ولذلك نراه يحاول التهديد بحلّ الحكومة إرضاءً للأصوات المرتفعة باٌطراد داخل حزبه. وربما لم تكن قوة غانتس الانتخابية تضاهي ذلك منذ البداية، ولكنّ التحالفات تفرض تنازلاتٍ تقابلها المكاسب. أما الغياب المحتمل لكتلة “يوعاز هندل”، فتشير إلى ضعفٍ في العامود الفقري أو في غياب التميّز عن غيرها، وبالتالي فمصيرها الذوبان في غيرها من الكتل.

المتغيّر الآخر هو غياب حزبَي “العمل”، و”غيشر” عن الساحة السياسية لو جرت الانتخابات اليوم. لا غرابة في غياب “غيشر” لأن قوته الانتخابية في الأصل مبنيّةٌ على شخص زعيمته، أورلي ليفي أبوكسيس، ابنة الزعيم السابق دايفيد ليفي (لمن نسيَه، فهو وزيرٌ ليكودي من أصل مغربي)، لكنها على خلافٍ متوارثٍ مع نتنياهو. أما جمهورها، فهو يمين سياسي، ولو أنه من الطبقات الشرقية الفقيرة اجتماعياً.

إنّ غياب حزب العمل هو حدثٌ تاريخيٌّ بالتأكيد، لأنه يرمز إلى غياب الحزب المؤسس وزعاماته التاريخية، وعدم قدرته على القيادة. ويمكن أن نعزوَ ذلك إلى عدة عوامل، أوّلها غياب الزعماء التاريخيين للحزب، في عصر الكاريزماتية الشخصية، وثانياً اختلاف برنامجه الحالي عن برنامجه الأصلي، وعدم قدرته على طرح برنامج بديل منذ مقتل رابين ولغاية اليوم، وثالثاً قدرة نتنياهو على تبنّي نهج بن غوريون اليميني وبرنامجه الصهيوني الاستراتيجي. ورابعاً، التوجّه الإسرائيلي العام نحو اليمين لا بل نحو اليمين المتطرف بدون أقنعةٍ “سلامية”، كما فعل بن غوريون وليفي أشكول وشمعون بيريز ورابين من قبل.

أهم المتغيّرات في الخارطة الحزبية هو تصاعد قوة المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967، والذي يتمثّل بتصاعد قوة حزب “يمينا” برئاسة نفتالي بينيت، هذا الحزب الذي ارتفع عدد أعضائه بموجب استطلاعات الرأي العام الأخيرة من 6 أعضاء إلى 25 عضواً في أشهر قليلة. ما هو مصدر هذه الأصوات والمقاعد المحتملة؟ وما هي الأسباب؟ وكيف يحدث ذلك بهذه السرعة؟

صحيحٌ أنه يوجد تراجعٌ لكتلة الليكود وهي الأقرب إلى “يمينا” بمقدار 8 أعضاء، ولكنّ هذا لا يكفي لتفسير الفارق بـ 19 عضواً جديداً لصالح “يمينا”. ولذلك، لا بدّ من رؤية تغيّرات الصورة في الخارطة السياسية العامة في “إسرائيل”، وتوجّهها من المركز إلى اليمين الأكثر تطرّفاً.

لا شك أن “يمينا” يتصاعد على حساب الليكود، لأنه الأقرب إلى فكره الاستيطاني المتطرّف، ولكنه يجذب أصوات كتلة “ديرخ آرتس” اليمينية، فتغيب عن الخارطة الحزبية وفق استطلاعات الرأي العام، ولا غرابة أن تتحالف هذه الكتلة الصغيرة مع كتلة “يمينا” في المستقبل أو تغيبَ نهائياً.

أما نتنياهو الذي يحاول التأقلم مع المتغيّرات الحاصلة في الولايات المتحدة، فهو يبتعد عن نفتالي بينيت، بقصد أن يظهر وكأنه في المركز اليميني، وبذلك يجذب أصواتاً من مؤيدي ليبرمان وغانتس، وحتى من مؤيدي أورلي ليفي، فيعوّض بذلك تسرّب المؤيدين إلى نفتالي بينيت. وكان نتنياهو قد حقّق في السابق إنجازات تاريخيةً بدعمٍ من إدارة ترامب فاٌضطرت المعارضة البرلمانية إلى تأييده والثناء على إنجازاته.

كل هذا يثبت تضخّم المعسكر اليميني أو معسكر نتنياهو ليتحوّل من 58 عضواً حسب نتائج الانتخابات الأخيرة إلى 70 عضواً وفق الاستطلاع الذي أجرته فضائيةi24  أو إلى 65 عضواً حسب استطلاع كميل فوكس، مما يضمن له حكومةً مستقرّةً قادرةً على إجراء تغييرات جوهرية في نظام الحكم، كان يريدها عشيّة الجولات الانتخابية الأخيرة 2019/ 2020.

إذن، إذا كانت المتغيّرات الجارية لصالح هذا الحزب أو ذاك على حساب أحزابٍ أخرى، فالثّابت هو أن الخارطة السياسية في “إسرائيل” تنحو نحو التطرف اليميني أكثر فأكثر.

من يراجع تاريخ نفوذ المستوطنين في حزب الليكود في الماضي، وخاصةً بين 2012 -2015 وتأثيرهم في تركيبة الكتلة البرلمانية، ومن ثم إدارة الظهر للكتلة في الانتخابات البرلمانية، وتراجع “يمينا” حتى فشلها في عبور نسبة الحسم في انتخابات نيسان/ أبريل 2019، حمايةً لعرش نتنياهو من قبل المستوطنين، يمكنه تفسير التضخّم المتزايد لحزب المستوطنين، “يمينا”، في نتائج استطلاعات الرأي العام مؤخراً.

عام 2012 كان المستوطنون، بفعل قوّتهم التنظيمية، قد انضموا بقوّة إلى حزب الليكود لمنعه من تنفيذ أي خطوةٍ تطلبها إدارة أوباما لوقف الاستيطان أو تجميده، ولمنع إخلاء حيٍّ استيطانيٍّ (اولفناه) في مستوطنة بيت إيل، حتى وصلوا إلى 30% من المنتسبين لليكود، وبالتالي كان لهم التأثير الأكبر في وصول مرشحين يمينيين ومؤيدين للاستيطان المنفلت، في الانتخابات الداخلية للحزب عام 2012.

ولكن في الانتخابات التي جرت عام 2013، كان ليبرمان قد تحالف مع الليكود، فأدار المستوطنون ظهرهم للّيكود، بما في ذلك المنتسبين للحزب، وأظهرت نتائج الانتخابات أن عدد المصوّتين للّيكود في عددٍ كبيرٍ من المستوطنات كان أقلّ من عدد المنتسبين للحزب. وهكذا، كان تأثير المستوطنين مضاعفاً على الليكود، مرةً عندما ساهموا بشكلٍ حاسمٍ في تركيب القائمة ومرةً أخرى عندما صوّتوا في الانتخابات البرلمانية لصالح حزب المستوطنين برئاسة نفتالي بينيت، فحصل آنذاك على 12 عضواً.

هذا السلوك السياسي المنظّم للمستوطنين هو التفسير الأساس لتصاعد حزب “يمينا” في استطلاعات الرأي، لأنهم بذلك يشكّلون قوّةً داخليةً في الليكود وضغطاً متزايداً على بنيامين نتنياهو لصالح الاستيطان من خلال التهديد بتأييد نفتالي بينيت.

*أليف صباغ – محلل سياسي مختصّ بالشأن الإسرائيلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى