أكرم عطا الله: من أجل حسام أبو صفية
أكرم عطا الله 12-12-2025: من أجل حسام أبو صفية
تأخر مقالي كثيراً لأن الطبيب الذي أعرف عن قرب كان قد ابتعد مبكراً عن السياسة، مهتماً فقط بتخصصه ليكون لدينا واحد من أفضل أطباء الأطفال في القطاع، ظننت أن اسرائيل التي بلغت من الوحشية في هذه الحرب ما لم تبلغه أي قوة سابقة لن تطيل اعتقال طبيب لا علاقة له سوى بمهنته، دون أن تقنعني جريمة قتل الدكتور إياد الرنتيسي رئيس قسم الولادة في مستشفى كمال عدوان، وكذلك رئيس قسم العظام بمستشفى الشفاء عدنان البرش أننا أمام حملة إبادة طبية تجاوزت كل الحدود، وعندما انتهت آخر عمليات التبادل دون أن يطلق سراح طبيبنا صار الأمر محزناً، ليس لأن الدكتور حسام يختلف عن كل أسرانا من غزة الذين ملؤوا سجون اسرائيل بعد السابع من أكتوبر، لكن لمن يعرف حسام يدرك أن الأمر يستحق.
كانت عيادته البسيطة أسفل منزل عائلته في مخيم جباليا تبعد عن بيتي آنذاك عشرين متراً، ودوماً كانت العيادة تشهد طابوراً يومياً هو الأطول بين عيادات الأطفال، ليس فقط بسبب الكفاءة العالية التي تمتع بها، ولكن السبب الأكبر هو انساني لطبيب لامع يقيم عيادة في مخيم، ويضع كشفية عشرين شيكلا ولا يزيدها، في حين وصلت تلك الكشفية في عيادات غزة بين 50 ومائة.
ظل الطبيب حسام صديقاً للفقراء وابنهم الذي لم يخذلهم، كما في الحرب عندما ظل للحظة الأخيرة أميناً لقَسَمه دون أن يتخيل كما الكثيرين أن الجنون الإسرائيلي هذه المرة يفتح كل أبوابه.
حتى التاسعة مساء كان ينتهي الطابور الطويل أجده ساهراً في عيادته، أعرّج عليه يومياً في طريق عودتي، أرى سعادته في خدمة الناس وهو يتحدث عن الحالات الصعبة التي مرت عليه ودعاء الأمهات. وحين نتحدث في السياسة لم يكن يبدي رأياً باعتبار أن هذا خارج اهتماماته. وهذا ما جعلني أبقى متعلقاً بأمل عودته ولا زلت، لكن الأخبار التي تتوارد والصورة التي صدرتها اسرائيل متعمدة وهو يسير بانحناءة، وما قالته محاميته الأسبوع الماضي أن «قلبه منهك وجسده محطم من التعذيب المستمر ودرجات الحرارة القاسية في زنزانته تزيد من معاناته» تثير القلق.
أتصوره مبتسماً هادئاً كعادته بصورته الحاضرة وملامحه المتقدة دوماً. فقد كان حالة مميزة في أسرة أبناء جده الحاج عامر أبو صفية التي لم تتجه للتعليم بل للصناعات الحرفية والمقاولات، لذا أقسم إدريس الابن الأكبر للحاج عامر أن يعلّم ابنه البكر حسام ليصبح طبيباً مهما كلف الثمن، ليرسله إلى روسيا مطلع تسعينات القرن، واضعاً كل الإمكانيات. وهناك أيضاً تزوج حسام من سيدة من كازاخستان « أم الياس « التي تمكنت بسرعة شديدة من الاندماج بالمخيم وتعلم اللغة العربية والتواصل مع الجميع تحت رعاية والدته الحاجة سميحة التي ماتت قهراً بعد اعتقال حسام بعشرة أيام فقط، أهناك قهر أكثر من هذا؟
لا يتبع الدكتور حسام أيا من القوى الفلسطينية، ومن السخرية أن يتم اتهامه بشيء له علاقة باتهامات توجّه لمنتسبي الفصائل وخصوصاً حركة حماس، فأذكر عندما سيطرت حماس عام 2007 على القطاع وطردت السلطة التي كان حسام أحد كوادرها التي أرسلته لدورة استمرت لأشهر، عاد ليجد السلطة قد تم طردها. وفي اليوم الثاني لعودته قمنا بزيارة المستشفى العسكري الذي كان يعمل به ليجد كل الزملاء يواصلون العمل، فقرر الالتحاق بهم دون أي اعتبارات سياسية، كان يدرك أنها يمكن أن تؤدي لتصنيفه وسط حالة فلسطينية مريضة بالانتماءات، وقد كان، لكنه بقي بعيداً عن حماس …أعرف ذلك.
باعتقالها وضربها له وعرض صوره أرادت اسرائيل التي تعرف أكثر عن عدم تبعية الرجل لأي فصيل سر رمزية فلسطينية تتجسد في شخصية أبو إلياس، الذي نحّى حياده جانباً حين استدعته اللحظة التاريخية. فكان على قدر المسؤولية التي كلفته أن يخسر حبيب قلبه «ابراهيم» الابن الثاني الذي أذكره طفلاً بملامحه الروسية الوسيمة ويدفنه بيده في ساحة المستشفى، ثم يصاب هو نفسه ويستمر سائراً بين الرصاص في ردهات المشفى الذي يحترق وغرفه التي تتم مطاردتها.
كما فهمت تصنف اسرائيل الطبيب حسام كمقاتل غير شرعي، وربما تتهمه بعلاج أسرى اسرائيليين. فمن الصعب تمرير فرية اتهامه بعمل مسلح أو انتماء لقوى مقاتلة، وإذا كان قد عالج أسرى اسرائيليين فهذا واجبه وفقاً لما أقسم عليه دون تمييز، فلا يهم الطبيب من هو المريض بقدر ما يهمه أن يقوم بواجبه، بل يجب على اسرائيل أن تشكره وتحتقر نفسها لأنها تعتقله.
اسرائيل قتلت الأطباء وفي سجونها أعدمت مائة وأحد عشر أسيراً، هذا يرفع مستوى الخوف والقلق على الدكتور حسام كما تقول محاميته، الأمر الذي يتطلب حملة عالمية للإفراج عنه، فمن غير المنطقي أن يضحي حسام بحياته وابنه من أجل الشعب الفلسطيني، وحين يتم اعتقاله لا يتحرك الشعب وخصوصاً فلسطينيي الضفة والخارج بحملة تليق بهذه التضحية، وتعكس وفاء الشعب الفلسطيني لأبنائه ورموزه، صحيح أن الهَمّ كبير والجرح كبير والمأساة هائلة والسجون تمتلئ بأبناء غزة، فقد ذهبنا بفعل لتفريغ السجون، وإذ بنا نملأها، هذا قدر الشعوب حين يقودها البسطاء ومحدودو الكفاءة من ابنائها، لكن حين يتعلق الأمر بقضايا شديدة الوضوح وضرورية من أجل أخلاقنا ونزيد فضح اسرائيل مثل قضية أبو صفية التي تحظى بالتعاطف، علينا أن نسجل أننا لم نقصر ولم نخذل أنفسنا أيضاً…!



