أقلام وأراء

أكرم عطا الله: دعوا بايدن يكمل غفوته

أكرم عطا الله 2022-07-15

للسياسة سخرياتُها وتجلياتها العابثة، فهذا الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين يصلح إلى حد كبير لرؤية حقائق أكثر سطوعاً وكدليل على انتصار المصالح على المبادئ وانتصار القوة على القوانين، وكيف أن الأعراف والمثُل يمكن أن تبقى للأبد حبيسة الكتب والأوراق إذا ما جرى استدعاؤها فقط في مواجهة خصوم أقوياء. فالقانون الذي وجد لتحقيق العدالة وحماية الضعفاء لا يحمي المغفلين والمساكين، فتجربة البشر تقول إنه يحمي القوة أو يُستخدم كورقة توت لمغامراتها التي كانت دامية عبر التاريخ.

أن يجيء بايدن ليردد ببغائياً ما اعتاد الرؤساء الأميركيون عليه بحماية إسرائيل ولا يرى أي شيء آخر يستحق التوقف عنده كدولة عظمى أخذت على عاتقها تأسيس أهم منظمات العدالة الدولية، فتلك واحدة من السخريات «الأمن لمن يحتل شعباً آخر». تصوروا في خمسينات القرن الماضي أن يزور أحدهم باريس ويطالب بحماية القوات الفرنسية في الجزائر، وتتجلى السخرية أكثر عندما تُطلب تلك الحماية من الشعب الجزائري أو حماية الجيش الأميركي في فيتنام أو على اليمنيين أن يوفروا أمناً للقوات البريطانية التي احتلتهم يوماً.

الولايات المتحدة لا تعرف من قتل شيرين أبو عاقلة ولا من أطلق الرصاصة، تصوروا …؟ الدولة التي تعرف دبيب النملة على الأرض وأن محققيها هم الأكفأ على مستوى العالم فشلوا في تحديد جريمة بهذا الوضوح…!  هذا طبيعي عندما يأخذ الضمير غفوةً مزمنة مسحوراً بالقوة ولعبة المصالح. وقد سبق الموقف الأميركي الرسمي أحكام صدرت من أهم وسائل الإعلام الأميركية مثل «سي إن إن» و»الأسوشيتدبرس» قالت إن شيرين قُتلت بنيران إسرائيلية، وهذه مؤسسات لا تغامر بسمعتها لتُصدر هذا الحكم والذي بالقطع جاء بعد تحقيقات خاصة أجراها محققوها وهم ليسوا بعيدين عن الدولة الأميركية، وتمكنت قناة مثل الجزيرة أن تحقق وتصل الى نتيجة ولكن الولايات المتحدة التي تعرف كل شيء لا تعرف أي شيء. تصوروا.
لم تختلف سياسات الولايات المتحدة منذ ستينيات القرن الماضي حتى زيارة بايدن حول ضمان الأمن للدولة المسلحة بالقنابل النووية خوفاً عليها من راشقي الحجارة، هكذا تصبح المعادلة عندما يقف العالم مقلوباً على رأسه وفقاً لهيجلية مبكرة وجهت لها وقائعُ الحياة ضربةً وأزاحتها عن جدول الفلسفة السياسية، قبل أن تستدعيها الدولة الأميركية وتمارس تلك الفهلوة والمنافية لأبسط قواعد الحياة، ولكن في علم السياسة الذي تَشَكل كحارس للمصالح أولاً وأخيراً ليس هناك متسع لقيم الأنبياء، وللسخرية فإنها وعلى امتداد التاريخ لم تتوقف عن الحديث عن وصاياهم.
دعوا كل هذا الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع في عالم الصراعات ومكوناتها، وإلا لكانت تعاليم المصلحين كفيلة بتصويب البشرية، ولَنجح الفلاسفة مبكراً في منع إراقة الدماء ووقف الظلم. ولكن من يقرأ التاريخ يعرف أن القوة وحدها في لعبة الموازين كانت تحدد مبكراً من يسيطر ويحقق ما يريد، أما كلام المبادئ فقد ظل فقيراً على رصيف التاريخ يشكو من العزلة والاغتراب.
لكن غير المشتغلين بالسياسة تختلف معاييرهم وهم أكثر نقاءً، هم متحررون من حسابات المصالح ومجردون من القوة التي تتسبب حرارتها في الإصابة بالعمى السياسي، هناك في الولايات المتحدة نفسها في عقر دار إسرائيل يجري تحول هادئ في غير صالح إسرائيل وعلى نقيض من السياسات الأميركية الموالية لها حد الخجل. فهل يمكن أن يصل العمى لهذا المستوى؟ هذا يحدث لدى امبراطوريات هوجاء لم تُجِد قراءة التاريخ لا في صعودها ولا هبوطها الحتمي ارتباطاً بحركته البيانية.
الاستطلاعات في الولايات المتحدة ربما تحمل بشرى للفلسطينيين ومعاكسةً لإسرائيل التي اعتبرتها حديقتها الخلفية ومخزن القوة الوحيد الذي تملكه سياسياً وعسكرياً ودولياً عندما يتم توفير بوليصة تأمين بهذا القدر في المؤسسات الدولية. ونموذج مقتل صحافية مثل شيرين أبو عاقلة كان صارخاً، لكن الرأي العام يقول شيئاً آخر، حيث ينقسم الرأي العام الأميركي حسب العمر لاتجاهات مختلفة تعكس تأييداً لاسرائيل في صفوف الأكبر سناً، لكن المستقبل الذي تعكسه الاستطلاعات لدى الجيل الأصغر بات يعكس تزايد التأييد في صالح الفلسطينيين، وهذا ما يعكسه بعض الحضور المتنامي حتى في المؤسسة الرسمية والكونجرس الذي بات يشهد بعض الأصوات المزاحمة لإسرائيل ويشهد تنامي المعارضة لها.
الاستطلاع الذي نُشر يوم الثلاثاء الماضي في الولايات المتحدة أظهر أن معظم البالغين الأميركيين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً لديهم وجهات نظر سلبية تجاه إسرائيل وفقاً لتقرير «بيو» الذي صدر قبل زيارة بايدن للمنطقة، حيث كشف هذا الاستطلاع أن 60% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و 29 عاماً ينظرون للشعب الفلسطيني بشكل أفضل، 69% ينظرون إيجابياً لإسرائيل من هم أكبر من 65 عاماً ….وتقل النسبة باطّراد كلما قل العمر، حيث تهبط إلى 60% لدى فئات العمر بين 45 و 64 عاماً، أما الفئات العمرية ممن هم أقل من 30 عاماً يتحول المنحنى بشكل مدهش، حيث يظهر أن 56% لديهم وجهة نظر سلبية عن إسرائيل.
هذا ملمح لافت تعززه تحولات كبيرة في الرأي العام الأميركي كما يقول الناشط سنان شقديح وهو أحد أبرز الفاعلين على الساحة الأميركية، حيث بات تأييد الحقوق الفلسطينية أعلى من تأييد إسرائيل في الجامعات وفي النقابات مع مواصلة العمل مع الكنائس، وهذا ما سيحقق التغيير، معتقداً أنه في غضون عشر سنوات سيكون الوضع في صالح الفلسطينيين تماماً، مشيراً الى أن تأييد الفلسطينيين في الساحة الأميركية صعد من16% عام 2016 الى 26% حالياً بواقع نقطتين كل عام، تؤخذ من مؤيدي إسرائيل ومن المحايدين.
مؤتمر الكنيسة المشيخية الأميركية الذي عُقد في ولاية كنتاكي نهاية الأسبوع الماضي صوّت على أن إسرائيل دولة فصل عنصري ويعترف بالنكبة. ودعا المؤتمر الكنيسة ومؤيديها إلى العمل على وقف هذا التمييز والفصل، ودعا حكومة الولايات المتحدة إلى وقفه بالإضافة إلى قرارات أخرى.
وبالنظر إلى الساحة الأميركية ونقاباتها وبضمنها المعلمون وتأثيرات ذلك على السياسيين الذين بدؤوا يستمدون قوة من تلك التحولات التي تتخذ صعوداً هادئاً كما قال شقديح، ومع غياب الفئات العمرية الأكبر بحكم البيولوجيا الطبيعية واحتلال الساحة السياسية لفئات أصغر عمراً، بات واضحاً أن الاهتمام بهذه الساحة أكثر جدوى من التركيز على بايدن وزيارته ويفتح على أفق سياسي حقيقي يمكن على الأقل أن يصنع سياسة أكثر انسجاماً مع ما وضعته الولايات المتحدة على الورق، وهي تشكل المؤسسات الدولية على أرضها بعد الحرب العالمية. ترامب وصف سلفه بايدن بـجو النعسان، لذا دعوه يُكمل غفوته وانتظروا سنوات في هذا الصراع.
        والمفارقة العجيبة أن التحولات تجري في كل العالم في غير صالح إسرائيل، حيث تنكشف أكثر وينفض عنها العالم خجلاً، لكنها في الإقليم بدءاً من الرباط وصولاً لأنقرة وما بينهما تجري في صالح إسرائيل. هل يمكن لأحد أن يقدم تفسيراً؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى