أقلام وأراء

أسعد غانم يكتب –  من يقود الاحتجاج الشعبي ؟ إنه جيل من الفاعلين والفاعلات

أسعد غانم *- 12/5/2021   

يبدو اننا في عز تصعيد جديد، وعلى عدة مستويات. طبعا الانظار في العالم تذهب الان الى غزة والمدن والمستعمرات الاسرائيلية حولها، كما حدث في كل جولات الحروب الاسرائيلية على غزة، قبل الانقسام وبعده. لكن الحدث الاهم يجري في اماكن اخرى، في النقب، في حيفا والجليل، في اللد ويافا، في القدس، وفي انين المقموعين في نابلس ورام الله، مقموعي السلطة الوطنية، لا اسرائيل.

استمع الى تحليلات جوهرها الادعاء ان ما يجري هو ردة فعل على تصعيد اسرائيلي جرى في اعقاب ازمة نتنياهو! تحليل جاهز لكل حراك وطني فلسطيني في مجابهة مشروع الابرتهايد الاسرائيلي، والذي افرزه الواقع الاستيطاني الكولنيالي في فلسطين. قد يكون تحليلا منطقيا ومقنعا للبعض، لكنه نفس التحليل قبل الانتفاضة الاولى والثانية وما بينهما وبعدهما من احتجاجات حصلت ضد الاحتلال وضد التمييز والتهويد… وكل مرة كان التفسير المركزي هو السياسة الاسرائيلية. الفلسطينيون مفعول بهم ولا يقومون الا بعد ان تفتك بهم آلة القتل والقمع والتهويد والابرتهايد، لكن ما هو الجديد؟ كيف نفسر حالة الاستنفار في فلسطين التاريخية.

قبل ان استرسل اود التذكير بان كل الاحتجاجات السابقة جرى ضربها اسرائيليا، وتطويقها فلسطينيا من قبل قياداتنا في الداخل وطبعا في سلطة رام الله التي تأتمر بتعليمات رئيس الشاباك  بما في ذلك في موضوع الغاء الانتخابات وابقاء ابو مازن وزمرته في الحكم، الى ما شاء الله وإسرائيل، لان ذلك يخدمها ويعمق سيطرتها وتحكمها في فلسطين والفلسطينيين. في يوم الارض الاول وبعد الخروج الاول للمتظاهرين وقيام الشرطة بإعدام خمسة شباب وشابة، خافت القيادة من ثمن المواجهات وتراجعت تدريجيا. في الانتفاضة الاولى كنت شاهدا، بل مشاركا كمثقف، في التنظير الى ان الانتفاضة هناك في الضفة وغزة والقدس ونحن “الفلسطينيون في إسرائيل” هنا، نعمل وننشط فقط كإسرائيليين وضمن التأثير البرلماني والادوات القانونية والمحاكم، وكأننا فعلا نؤثر في السياسة والمحاكم والبرلمان!.

اتذكر جيدا احداث الانتفاضة الثانية وما يسمى هبة القدس والاقصى، في الضفة وغزة والقدس كانت هنالك قيادة يقف في رأسها المرحوم ياسر عرفات ومروان البرغوثي فك الله اسره، واخوة لهم، من ناحية ثانية كلنا نذكر تخاذل قيادات الامن الوقائي وتعاونها مع اسرائيل وغضب القائد عرفات عليها وعلى دورها المتخاذل آنذاك، والمتعاون مع اسرائيل وامنها الى اليوم. في الداخل، في مدن وبلدات الـ 48، اعرف وعن كثب نقاشات غالبية القيادات عن ضرورة التهدئة واعادة مسك زمام الامور وخصوصاً بعد سقوط 13 شهيداً في المواجهات مع الجيش والشرطة. منذ ذلك الوقت كانت عدة احتجاجات جدية جرى قمعها تارة وامتصاصها تارة اخرى، وخصوصاً من قبل قيادات لم تعمل ولا تعمل ابداً لتحضير الناس وتنظيمهم لتحدي الابرتهايد الاسرائيلي، هنا في الجليل والمثلث والنقب… اجمالاً الموقف المعلن هو التنديد بالقمع الاسرائيلي وتمجيد النضال، لكن الاصرار على مظاهرة قطرية وصاخبة، بحيث تشكل اكورديون المفاتيح في متناغمة الاحتجاج.

اذاً ماذا يجري تحديداً؟ عموماً هنالك جيل فلسطيني جديد، وقد شاركت بالتواجد الى جانب ابنتي الصغيرة بالامس الاثنين، في مظاهرة بحيفا جرى قمعها بإطلاق اكثر من مائة قنبلة صوت وقنبلة غازية، قد تساوي بعددها عدد الشباب والصبايا الذين شاركوا في الاحتجاج، المهم ان غالبية المحتجين هم في حوالي العشرينيات من اعمارهم، لم اتعرف على احد ولم ارهم في حياتي، لكنهم يطاردون الشرطة المدججة وتطاردهم في شوارع حي الالمانية بحيفا. انتصروا عليها بإغلاق الشوارع والحركة ورفع العلم الفلسطيني، وانتصرت عليهم بقنابل الصوت واعتقال حوالي العشرين منهم ستة قاصرين وقاصرات.

هذا الجيل الجديد ولد وترعرع في ظل سلطة فلسطينية تعمل وكيلا لإسرائيل وتقمع بالقوة اي مظهر للاحتجاج الفعال على اسرائيل او على ممارسات السلطة نفسها، ابناء هذا الجيل يتابعون بمعرفة تامة ان اليهودي يستطيع “العودة” واقاربه في اليرموك يطردهم نظام القمع السوري الى تشريدة اخرى ولا يستطيعون العودة الى وطنهم، يعرف ابناء هذا الجيل ان الاسرائيلي يستطيع السكن في اي مكان، في الضفة والقدس والجليل والنقب، بينما هم واهلهم ممنوع عليهم ان يسكنوا في اكثر من 700 بلدة اسرائيلية مبنية على اراض فلسطينية صودرت، ممنوع عليهم ان يتحركوا باتجاه مدن الضفة اذا كانوا من الـ 48، وممنوع عليهم الوصول لحيفا ولعكا وليافا اذا كانوا من سكان مدن سلطة رام الله وغزة. جيل الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، يعرف اننا لا نقدره جيدا ويعتبره البعض غير مثقف سياسيا، بينما متوسط المعرفة لديهم في النكبة، والاحتلال وجرائمه وهدم البيوت في النقب والتهويد في القدس ويقرا تقرير هيومن رايتس ووتش وبتسيلم واوسكوا – او على الاقل يعرف عنهم الكثير. معرفته تفوق معرفتنا اضعافا عندما كنا في نفس جيلهم.

انه جيل ترعرع وهو منكشف على فساد السلطة وزمرة رام الله، على اهمالها المتعمد للقدس ولأهلها، على قيادات ونخب فلسطينية في الداخل تحصل على دعم مالي من سلطة الافساد في رام الله، ومن ممولين يهود امريكيين، ومن الامارات وقطر، الخ…. جيل يعرف ان مصالح جزء كبير من قياداته متعلق بالتمثيل البرلماني في الكنيست والعوائد التي تمول “متفرغي” الاحزاب، الذي لا يقوموا باي عمل حقيقي في الميدان لتنظيم الناس والدفاع عنهم. وطبعا تطلع عليهم مؤخرا بعض قياداتهم بخطاب التأثير المشوه. ايمن عودة ومنصور عباس يفهمون التأثير بانه ليس تقريب الاخر وغريمك لموقفك، بل التنازل والتسليم بدونيتك وبتفوق اليهودي السيد، وبالاكتفاء برئاسة لجنة برلمانية او ميزانية للسلطات المحلية!

التفسير الحقيقي لهذا الاستنفار التاريخي هو انه مقابل قوى وجهات وازنه ولها تأثير شعبي قوي، لكنها تحتمي بإسرائيل، او تجد ملاذا لها في مؤسساتها وترضى بتقسيم الشعب الفلسطيني الى شعوب، هنالك قوى مناهضة لهم، ايضا لها حضور شعبي وقوي لكنهم ليسوا في مواقع التأثير ولا في الكنيست ولا في اروقة السلطة الفلسطينية وكواليسها… لكنهم موجودون بقوة ومصرون على العيش بكرامة حقيقية، وليس فقط بالشعارات، في وطنهم الذي ليس لهم وطن سواه..

التفسير المركزي للاحتجاجات، وهي بالمناسبة اندلعت شعبيا وتم التحضير لها من قبل الشباب والصبايا قبل ان تعلن حماس تحذيرها وتبدأ بقصفها واستغلال الفرصة من قبل اسرائيل من اجل نقل المواجهة الى قصف جوي وصور بيوت اسرائيلية تحترق، بينما توضع الانتفاضة الشعبية، في القدس وكل اماكن الوجود الفلسطيني جانبا، او على الاقل هذا ما ترمي اليه اسرائيل، بمساعدة غير مقصودة من حماس. لكن بعد الهجوم على غزة وقبلها، هنالك جيل جديد، فلسطيني، لا يعرف الفرق السياسي تماما بين اريئيل وكرمئيل، ولا بين نابلس وحيفا، لا يعرف الكثير عن مؤامرة القوى الكولنيالية لتقسيم وطنه الى دولتين، انهم ولدوا وترعرعوا وهم يرون اسرائيل كنظام ابرتهايد توسعي واستيطاني، تملك الكثير من القوة العسكرية، لكنها تفتقد الى القوة الاخلاقية… هذا الجيل يتسلح بالموقف الاخلاقي، وبمعرفة متفاوتة بان مصير انظمة التفوق العرقي والابرتهايد الى زوال، وان ذلك لن يكون الا بفعل فاعل او فاعلين، اولهم الشعب وممارساته على الارض. هذا الحراك الشعبي هو بفضل هؤلاء، وهم من يقود التحرك على الارض، خلال الموجة الحالية وما سيليها من موجات احتجاج، حتى اعادة الاعتبار لشعبنا ولحقوقه… اصلا هذا الجيل لا يميز بين ما كان وما نعتبره تصعيدا اسرائيليا، الا انه عالمي التوجه وبإرادة وطنية فلسطينية، وانه مصمم على الحصول على ارضية الانطلاق وهي وطن يحفظ له كرامه ويصون حقوقه ويدافع عنه اذا احتاج في معمعان الحياة.

*محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى