أحمد دخيل: بين ميلاد المسيح وألم فلسطين: قراءة في الزمان والمكان
أحمد دخيل 30-12-2025: بين ميلاد المسيح وألم فلسطين: قراءة في الزمان والمكان
في كل عام، يستقبل العالم ميلاد المسيح، لتتجدد الذكرى التي تحمل في طياتها معاني الحب والتضحية والسلام.
في مدينة جرمانا كنت اسير رفقة ولدي وزوجتي لمشاهدة كرنفال الميلاد، قفز إلى مخيلتي سؤال بعدما تذكرت بيت لحم، ماذا عن هذه الذكرى عندما تلتقي مع جرحٍ لا يمل النزيف، جرح لا يلئم في قلب فلسطين؟ كيف لنا أن نحتفل بعيد ميلاد المسيح في أرضٍ تتعرض لشتى أنواع القهر، حيث لا يزال الشعب الفلسطيني يُكابد ظلمًا تاريخيًا ما بعده ظلم؟ كيف يمكن أن يكون المسيح قدوة للسلام، بينما أتباعه اليوم يُذبحون تحت وطأة الاحتلال؟
لا يُنكر أحدٌ من المؤمنين، في كل الأديان، أن المسيح كان رمزًا للتضحية والسلام. لكن في الوقت نفسه، لا يمكننا أن نغض الطرف عن حقيقة أن أرضه، فلسطين، تُعاني اليوم كما عانت في الماضي. إذا كان المسيح قد تألم على الصليب، فإن الأرض نفسها، بكل مقدساتها، تحمل آلامًا لا حصر لها. فهل من الممكن أن نحتفل بعيد ميلاده، في الوقت الذي يرى فيه أطفال فلسطين موتهم يوميًا تحت القصف والاستيطان؟
لقد آلم المسيح، ونحن نعلم ذلك جميعًا. تاريخ البشرية شهد تلك اللحظة الحزينة عندما تم صلبه ظلمًا، في وقت كانت فيه فئة ضالة تظن أنها تحارب فكراً يهدد سلطتها وامتيازاتها. واليوم، نرى تلك الفئة الضالة نفسها، أو ربما أكثر منها، ترتكب ذات الجريمة بحق الشعب الفلسطيني، الذي يعاني على أرضه من التهجير والقتل والمجازر.
المسيح كان ضحية، لكنه كان في ذات الوقت حاملًا لرسالة الخلاص، وكانت أرضه مهدًا للسلام. أما اليوم، فتلك الأرض هي مهد للقهر، حيث تكتظ القدس بالصمت الذي يغلف الآلام. ولكن إذا كان المسيح قد خرج من قبره ليُعلن الحياة، فإننا، في فلسطين، نرى أن هذا الشعب سيظل حيًا في مقاومته، في عزيمته، في ذاكرته.
حينما نحتفل بميلاد المسيح، لا بد لنا أن نعود إلى جوهر رسالته. المسيح الذي جاء ليعلمنا أن الظلم لا يُقهر بالظلم، وأن القوة الحقيقية تكمن في الرحمة، وأن الصبر هو السلاح الأقوى في مواجهة الطغاة. هل يمكن أن ننكر أن هذه الرسالة هي ذاتها التي تنادي بها حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية؟ فكما كانت فلسطين مهدًا للمسيح، فهي اليوم أيضًا مهد للسلام، ولن يتحقق هذا السلام إلا إذا كان حقيقيًا، يُبنى على العدالة، ويعتمد على العودة إلى الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
إذا كانت رسالة المسيح قد نشأت من رحم المعاناة، فإن رسالة فلسطين، اليوم، هي رسالة نضال دائم، من أجل كرامة الإنسان وحقه في العيش بحرية وعدالة.
في كل عام، تتجدد ذكرى ميلاد المسيح، وتعود لتذكرنا برسالة السلام والتضحية التي حملها هذا النبي العظيم. ولكن، في ذات اللحظة، تحتفل فلسطين في كانون الثاني بذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي بدأت عام 1965 على يد حركة فتح، لتكون بداية مرحلة جديدة في نضال الشعب الفلسطيني من أجل استعادة حقوقه وأرضه المغتصبة.
فكما كان ميلاد المسيح نقطة انطلاق لرسالة عظيمة تحمل في جوهرها التحدي للظلم والمطالبة بالعدالة، كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية هي نقطة انطلاق جديدة لشعب فلسطين، بعد عقود من التشتت والاحتلال، ليعبر عن صوته المطالب بالحرية والكرامة. فكل ذكرى ميلاد للمسيح، الذي ضحى بنفسه من أجل نشر قيم الحق والعدالة، تلتقي مع ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية التي تأسست على مبادئ العزة والكرامة، وتعتبر ملحمة مستمرة في الدفاع عن فلسطين.
وفي ذلك التلاقي بين الميلاد والانطلاقة، نرى أن فلسطين، كما أرض المسيح، لن تهدأ معاناتها حتى يتحقق الحق، وأن العطاء والتضحية هما الطريق لتحقيق العدالة الحقة. كما كان المسيح في رسالته مثالًا حيًا للثبات في مواجهة الظلم، فإن ثورة الشعب الفلسطيني تمثل اليوم إصرارًا على المضي قدمًا في تحقيق الأمل الذي طالما انتظرته الأجيال الفلسطينية.
الاحتفال بعيد ميلاد المسيح يتخلله مراسم وعادات وطقوس نُجلّها ونحترمها ، يجب مرافقتها بدعوة لنا جميعًا للقيام بالعمل الصالح، والعمل الذي يتماشى مع الرسالة التي حملها المسيح من أجل الإنسانية. لا يمكننا أن نحتفل في وقتٍ تُغتصب فيه حقوق شعب، وتُدمّر فيه منازل، ويُشرد فيه أطفال. الاحتفال هو العمل على تحقيق العدالة، على أن نُسهم في بناء عالمٍ يسوده السلام لا على حساب الآخرين.
وبهذه الروح، فإن حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي تقود النضال الفلسطيني منذ عقود، تؤكد أن العمل من أجل فلسطين هو في جوهره دفاع عن الحق، وأن المقاومة هي حق مشروع، كما كان المسيح هو من قاوم الظلم في عصره. من هنا، يُصبح الميلاد اكثر من ذكرى دينية، إنه دعوة لكل العالم من اجل التضامن مع فلسطين، لدعم حق شعبها في الحياة والحرية، ولإحياء رسالة المسيح في كل ما نفعل.
إذا كانت الأرض المقدسة قد شهدت ميلاد المسيح، فإنها اليوم تشهد نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقه في الحياة والحرية.
علينا ونحن نحتفل بميلاد المسيح في وقتٍ يعاني فيه الشعب الفلسطيني من الظلم ذاته الذي عانى منه المسيح في عصره، أن نستنكر هذا الظلم، لأن الرسالة الحقيقية لميلاد المسيح هي أن نحب بعضنا البعض، أن ندافع عن الحق، وأن نكون نورًا للسلام في عالم مليء بالصراعات.
الفلسطينيون كلهم يحتفلون بميلاد المسيح عليه السلام، لأنهم في كل يوم يولدون من جديد في نضالهم المستمر.
وهم يؤمنون أن الاحتفال الحقيقي ليس بالمراسم فقط على أهميتها، إنهم مؤمنون بتحقيق العدالة، وإعادة الحقوق المسلوبة، وبتحرير الأرض من الاحتلال. في هذه الذكرى، دعونا نحتفل بمسيحنا الذي سعى للعدالة، والحرية، نحتفل بنبي الجليل، لأن الميلاد الحقيقي يبدأ من تلك الأرض، ويعيش في قلوب كل من يسعى للحق .



