أحمد دخيل: انتفاضة الأقصى… حين اشتعل الملح في الجرح

أحمد دخيل 29-9-2025: انتفاضة الأقصى… حين اشتعل الملح في الجرح
ذاكرة لاجئ
منذ طفولتي حملت هوية المخيم على كتفيّ، وورثت ذاكرة بلاد التي لم أعشها لكنها تسري في دمي: بيوت صودرت و أخرى دمّرت، بيّارات احترقت، وقرى ما زلت أحفظ أسماءها كأنني نشأت فيها.
في الزواريب الضيّقة، تعلّمت أن الوطن يستحيل اختصاره بخريطة، إنما هو دمعة ثكلى وصوت مؤذن وزيتونة تتحدى الجفاف.
شرارة الانتفاضة
في الثامن والعشرين من أيلول عام 2000، حين اقتحم شارون المسجد الأقصى محاطًا بجنوده المدججين بالسلاح، شعرت أن جدران غرفتي في المخيم ارتجفـت. لم أكن في القدس، لكن روحي كانت هناك. الحجارة التي رفعها الفتية في وجه الجنود كانت كأنها سقطت من حجارة دمشق، تُنادي: انهضوا، فالأقصى يستصرخكم.
برأيي، لم تكن تلك اللحظة حادثة عابرة، بل كانت شرارة فجّرت بركان الغضب الفلسطيني. لم يواجه الناس دبابة بدبابة، بل واجهوها بصدور عارية وإرادة لا تلين. و من رحم تلك المواجهة خرجت انتفاضة الأقصى، لتؤكد أن النضال الفلسطيني أطول عمرًا من الاحتلال نفسه.
صورة لا تُنسى
حين رأيت الطفل محمد الدرة يحتمي بذراع أبيه، بكيت كما بكى الملايين، لكن بكائي كان مختلفًا: كان بكاء لاجئ يعرف أن الصورة ما كانت مشهدًا إعلاميًا، إنها امتداد لجراح عمرها عقود. منذ ذلك اليوم ترسّخت قناعتي أن دماء الشهداء ليست أرقامًا في نشرات الأخبار، هي وجوه أحببناها ورسمناها في وجداننا.
بين القدس و غزة
وحين دخلت القدس عام 2016، شعرت أنني لا أدخل مدينة، بل أعود إلى بيت أعرفه منذ ولادتي. لمست حجارة أسوارها، شممت رائحة الكعك والخرّوب، وقفت أمام قبة الصخرة كما أقف أمام وجه أمي. القدس لم تمنحني مشهدًا سياحيًا لقد منحتني حياة جديدة. أيقنت أن من يعشقها لا يشيخ، ومن يخونها يموت واقفًا.
واليوم، وأنا أكتب عن انتفاضة الأقصى بعد ربع قرن تقريبًا، لا أستطيع أن أفصلها عن المقتلة الجارية في غزة. المشهد يتكرر بوحشية أكبر: قصف للأحياء، تهجير، حصار وتجويع،
وأطفال يُنتشلون من تحت الركام. ومع ذلك يخرج الإعلام ليصف المقتلة بأنها معركة. لكن الحقيقة أن ما يحدث ليس معركة، لأن المعارك تكون بين الجيوش، أما هناك فهو عدوان صريح على مدنيين عزّل، ومحاولة متعمدة لسحق قطاع كامل. الإعلام – بقصد أو دون قصد – يمنح الاحتلال غطاءً أخلاقيًا حين يزيف اللغة.
البقاء كملح الأرض
في تقديري، الاحتلال أخطأ حين راهن على نسياننا. نحن اللاجئين نحفظ أسماء قُرانا أكثر مما نحفظ أسماء شوارع المدن التي لجأنا إليها. نحفظ أسماء الشهداء كما يحفظ الشعراء قوافيهم.
هذا الملح الذي زرعناه في الذاكرة لا يذوب، ولا ينحسر، حتى لو غمر البحر تلاله.
إنني أكتب هذه السطور لا بصفتي شاعرًا يسكب مشاعره، أنا لاجئ يعرف أن كل بيت في المخيم شاهد حي على أن الحق لا يموت بالتقادم. إذا كان الاحتلال يشيخ عامًا بعد عام، فإن وصايا الشهداء تجدد شباب القضية كل يوم.
نحن باقون. باقون في الأرض وفي المخيم وفي اللغة وفي القصيدة. نحن الملح الذي لا يذوب، والجرح الذي لا يلتئم إلا بالعودة. وأجزم أن كل إطار اشتعل في انتفاضة الأقصى سيبقى نارًا تحت الرماد، حتى يأتي يوم تعصف فيه الريح وتشتعل الأرض بمقاومتنا الشعبية من جديد، زال شارون وسيزول نتنياهو والشعب الفلسطيني باقٍ لايزول.