منوعات

أحمد دخيل: المقاومة الشعبية… حين تصير الحياة فلسفة بقاء

أحمد دخيل 16-9-2025: المقاومة الشعبية… حين تصير الحياة فلسفة بقاء

في غزة، لا تُقاس الحياة بالزمن بل بالمعنى. بيتٌ يتهدّم قد يصبح كتابًا مفتوحًا على الحجارة، وقذيفةٌ تسقط قد توقظ فينا سؤالًا قديمًا: لماذا نصرّ على البقاء؟ حين تتكسر النوافذ، تُطلّ الحقيقة عارية: أن الإنسان ليس جسدًا فقط، بل إرادة ترفض أن تُمحى من الوجود.

المقاومة الشعبية ليست ردّ فعلٍ على الموت، بل فلسفة حياة. أن يخبز الجائع خبزه تحت الحصار هو إعلان أن الخبز أسمى من الجوع، وأن المعنى أسمى من الفقد. أن يكتب شاعر على جدارٍ مثقوب يعني أن الجدار نفسه صار ورقةً في كتاب الإنسانية. أن يتمسّك طفلٌ بكتابه وهو يعبر الركام هو درسٌ للعالم: المعرفة أقوى من الخراب.

قال أبو عمار يومًا: «لو كانت الثورة بندقية فقط لكانت قاطعة طريق.» أدركتُ أن جوهر المقاومة ليس في الأداة بل في الرؤية: أن تتحوّل الثورة إلى حياة، والحياة إلى فلسفة. حين تصبح الإبرة التي تخيط ثوب الفدائي، والمبضع الذي يداوي جريحًا، والقلم الذي يسجّل اسمًا على دفتر الغياب، أدواتٍ للمعنى، نفهم أن الثورة ليست نقيض الحياة، بل شرطها العميق.

التاريخ يعلّمنا أن القيد قد يصبح كتابًا، كما فعل مانديلا في زنزانته، وأن السير الصامت قد يهزم إمبراطورية، كما فعل غاندي، وأن الحلم قد يغيّر مصير أمة، كما فعل مارتن لوثر كينغ. غير أن التجربة الفلسطينية تتجاوز ذلك: نحن لا نحلم بالمستقبل فقط، بل نؤسّسه على حاضرٍ مدمّى، حيث الشهادة ليست موتًا، بل صيرورة أخرى للحياة، وحيث الركام ليس نهاية، بل بداية لمعنى جديد.

المقاومة الشعبية في فلسطين ليست خيارًا سياسيًا؛ إنها ميتافيزيقا البقاء. أن نُصرّ على الحب رغم الفقد، أن نحمي الضحكة في قلب طفلٍ محاصر، أن نزرع بذرة في أرضٍ يعرف صاحبها أن القصف قد يأتي غدًا. هذه الأفعال الصغيرة ليست يوميات عابرة، هي إجابة فلسفية على سؤال الوجود: هل يستحق الإنسان أن يعيش؟ وغزة تجيب: نعم، لأن الحياة ذاتها هي المقاومة.

من وجهة نظري، هي معركة بين حياةٍ بلا معنى وحياةٍ بالمعنى. ونحن نختار — بالخبز والقصيدة واليد الممدودة — أن نبني معنىً يردّ على العدم.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى