يوشكا فيشر يكتب – نقطة الارتكاز الجديدة في الشرق الأوسط
يوشكا فيشر* – برلين – 10/1/2018
نعيش اليوم في زمن يتسم بالتحولات الجيوسياسية. صحيح أن الجهود التي تبذلها الصين للحلول محل الولايات المتحدة بوصفها القوة الرائدة في العالَم، أو التحول إلى شريك في القيادة العالمية على الأقل، تتلقى قدراً كبيراً مستحقاً من الاهتمام. لكن الديناميات الكلية، التي اتسم بها الشرق الأوسط لفترة طويلة، تشهد تحولاً ملموساً هي الأخرى. وهنا أيضاً، من المرجح أن يتضاءل نفوذ الولايات المتحدة.
قبل ما يزيد على قرن من الزمن، قَسَّم اتفاق سايكس-بيكو الشرق الأوسط بين فرنسا وبريطانيا العظمى، وأسس حدوداً وطنية ظلت قائمة إلى يومنا هذا. ولكن النظام الإقليمي يتغير الآن.
منذ تأسست دولة إسرائيل، ظل الصراع العربي الإسرائيلي مهيمناً إلى حد كبير على الساحة الجيوسياسية في المنطقة. وقد فازت إسرائيل بأول حرب عربية إسرائيلية في العام 1948، وكل الحروب التي تلتها. ولكن، هل يتمكن الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني من التوصل إلى تسوية مقبولة، فيحل السلام في الشرق الأوسط؟ تظل الإجابة عن هذا التساؤل من الشواغل الرئيسية في الشؤون الدولية.
كان الإسرائيليون والفلسطينيون أقرب إلى تحقيق السلام من أي وقت مضى خلال الفترة بين التوقيع على اتفاقية أوسلو الأولى في الثالث عشر من أيلول (سبتمبر) 1993 واغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين، إسحق رابين، في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1995. ولا ينبغي أن ننسى أن وضع القدس في اتفاقيتي أوسلو، الأولى في العام 1993 والثانية في العام 1995، تُرِك بلا حل. وكان من المتفق عليه بشكل عام أن مثل هذه القضايا الحساسة والمعقدة يجب أن تُعالَج في المرحلة النهائية من عملية السلام.
ثم فَقَد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أهميته المركزية في المنطقة بعد غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في العام 2003، ومع اندلاع ثورات الربيع العربي في أواخر العام 2010، فقد قدراً أكبر من أهميته. وبعد العام 2011، هيمنت الحرب الأهلية السورية وظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على السرد الإقليمي. والآن، بعد أن نجح تحالف دولي في تجريد “داعش” من “خلافته” في سورية والعراق، فقد تقدم الصراع بين إيران والسعودية لفرض الهيمنة الإقليمية إلى الصدارة.
حتى الآن، كانت المواجهات بين إيران والسعودية تعتمد في الأساس على حروب الوكالة في سورية واليمن. لكن الدعم الذي يقدمه كل من البلدين للفصائل المتنافسة في لبنان، جنباً إلى جنب مع النزاع الدبلوماسي الجاري بين قطر والسعودية، يشكل أيضاً جزءاً من الصراع الأكبر الدائر بين الطرفين.
على هذه الخلفية، بدا الأمر وكأن منزلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستعصي على الحل خُفِّضَت إلى مستوى النزاع الهامشي. وظل الوضع على هذا الحال إلى أن قررت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من جانب واحد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
يقع مقر الحكومة الإسرائيلية والكنيست (البرلمان) في القدس الغربية، وتقوم شخصيات أجنبية بارزة بزيارات رسمية إلى هناك بشكل روتيني. لكن ضم إسرائيل للقدس الشرقية من جانب واحد بعد حرب الأيام الستة في العام 1967 لم يحظَ بأي اعتراف دولي قَط، وأبقت الدول الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، سفاراتها في تل أبيب، لأن الجميع يعلمون أن وضع القدس هو قضية سياسية ودينية مشحونة ومحفوفة بالمخاطر.
وعلاوة على ذلك، تدرك كل الدول الأخرى أن ترجيح كفة على حساب الأخرى في ما يتصل بمسألة القدس من شأنه أن يلحق الضرر باحتمالات التوصل إلى حل الدولتين في نهاية المطاف -وهو الحل الذي ترجع نشأته إلى خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في العام 1947- لأن كلا من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني يطالب بالمدينة عاصمة له.
في العام 1947 لم يكن حل الدولتين قابلاً للتطبيق، لأن الدول العربية استجابت لتأسيس إسرائيل بشن حرب ضدها. وعندما اعترف الفلسطينيون أخيراً بوجود إسرائيل في العام 1993، اعتُبِر ذلك القرار في حد ذاته خطوة كبيرة إلى الأمام.
على الرغم من أن الدبلوماسيين ما يزالون يتحدثون عن عملية السلام في الشرق الأوسط، لم تشهد المنطقة لسنوات عديدة أي عملية لتحقيق السلام. ويظل حل الدولتين الخيار الوحيد الذي يمكن تصوره لإرضاء الجانبين، ولكنه يفقد قدراً متزايداً من المصداقية بمرور الوقت، في ظل التوسع المستمر في بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. والآن، ربما يعني اعتراف أميركا بالقدس عاصمة لإسرائيل نهاية حل الدولتين إلى الأبد.
بيد أن البديل، وهو الترتيب لدولة ثنائية القومية، سيفرض على إسرائيل معضلة أن تكون إما دولة ديمقراطية أو دولة يهودية، وإنما ليس كلتيهما. فمع سحب حل الدولتين من على الطاولة، يصبح الأمر مسألة وقت فقط قبل أن يطالب الفلسطينيون، بعد التخلي عن النضال من أجل إقامة دولة خاصة بهم، بحقوق مدنية متساوية.
ويظل لدينا، من الناحية النظرية على الأقل، خيار ثالث: فربما يمكن إنشاء دولة فلسطينية في غزة تمتد إلى شمال سيناء، على أن يتم وضعها تحت سيطرة مِصر فعلياً، في حين يمكن تقسيم الضفة الغربية بين إسرائيل والأردن. لكن الفلسطينيين لن يقبلوا أبداً بهذه النتيجة، التي لن تحل أيضاً مشكلة تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية.
لا يملك المرء إلا أن يتساءل عن السبب الذي جعل ترامب يقرر التحرك بشأن قضية القدس الآن. هل كان ذلك نتيجة افتقاره المعتاد إلى العقلانية، أو أن الأمر برمته يرجع إلى السياسة الداخلية؟ أم أنه يفكر في حل إقليمي جديد يتجاوز المعايير التقليدية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟
من الجدير بالملاحظة أن مسعى ترامب الأحادي لم يجلب إلا استجابة متواضعة من القوى العربية الكبرى. وهي تعتبر التصدي لإيران أولوية قصوى. ولأنها أضعف من أن تكسب هذه المعركة بمفردها -وخاصة في لبنان وسورية- فإنها ستواصل تعزيز علاقاتها مع غيرها من خصوم إيران، وخاصة القوة العسكرية العظمى في المنطقة: إسرائيل.
من المرجح أن يصبح التحالف الناشئ بين هذه القوى وإسرائيل، والذي لم يكن متصورا من قبل، إحدى القوى الدافعة للشرق الأوسط الجديد. والوقت فقط سيخبرنا بما سيكون عليه ثمن هذا التحالف المناهض لإيران.
*كان وزير خارجية ألمانيا، ومستشارها السابق من 1998-2005، وهي فترة اتسمت بدعم ألمانيا القوي لتدخل الناتو في كوسوفو 1999، تلتها معارضة ألمانيا للحرب في العراق. لعب فيشر دوراً مهماً في تأسيس حزب الخضر في ألمانيا، وقاده نحو سنتين.
*خاص بـ”الغد”، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”.