ترجمات أجنبية

يوشكا فيشر : أوروبا تراوح مكانها أمام عالم يندثر وآخر يولد

العلاقات ما بين ضفتي الأطلسي التي عهدناها طويت، واندثرت في مجالي الأمن والدفاع. وصار أمننا رهن مزاج الرئيس الأميركي. فأميركا تستدير الى الهادئ. وخير دليل على ما أسوقه هو احتفاء ترامب بكيم جونغ – أون، وازدراء نظرائه الأوروبيين والكنديين في قمة مجموعة السبع، ومعاملتهم معاملة الخدم المزعجين. والرئيس الأميركي يطعن في العلاقات الاقتصادية مع أوروبا. ويبدو أن القارة الأوروبية متروكة لمصيرها. وإلى التراجع الأميركي الذي يقوض العلاقات الأوروبية بأميركا، تجبه أوروبا فصول البريكزيت (انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، وهو صفعة قاصمة للقارة القديمة، والاضطراب في إيطاليا والأزمة الحكومية في ألمانيا. فالظروف السياسية والاقتصادية اليوم مدمرة.

وحال أوروبا من حال شخص يقف على شفير الهاوية ويخطو خطوة نحو الفراغ. والأوروبيون متروكون لمصيرهم ما لم يتحرك الفرنسيون والألمان لنجدة القارة. وتمس الحاجة الى التكيف مع الأحوال الجديدة وإلا فاتنا القطار. فالنظام العالمي السابق لم يعد (موجوداً)، ولن يعود إلى سابق عهده. وحري بنا اللحاق بركب القرن الحادي والعشرين. ولا مناص من دفاع أوروبا عن مصالحها والاستقلال عن غيرها في سبيل الانتصاب قوة راجحة. فأوروبا بين سندان أميركا ترامب، ومطرقة الصين وروسيا. وهذه القوى قد تحملنا على الرد. ولكن السؤال الفعلي مداره على إرادة التغيير السياسية. وأحتارُ في جواب السؤال هذا حين تقع عيناي على ما يجري في إيطاليا وبريطانيا. ووجود الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مطمئن. ويبدو أن الألمان ينسون أن فرنسا باشرت إصلاحات اقتصادية، ولا يحتسبون أن دور ألمانيا في الشؤون الدفاعية ثانوي. وهذه المكانة (الثانوية في الدفاع) مريحة، ولكن الاستكانة إليها متعذرة اليوم. ويرتاب الألمان في مساعي ماكرون ويرون أنه يسعى وراء أموالهم، عوض الاحتفاء به. فهو أمل أوروبا، وهو يحمل على أكتافه أعباء ثقيلة- تحديث فرنسا، وتجديد أوروبا.

ولا شك في أن نتيجة الانتخابات في ألمانيا لا تساهم في تيسير ما ينتظر أنغيلا مركل من خطوات سياسية. ولكن الألمان أنفسهم يشلون يدهم، فهم على قناعة بأن العالم كله يسعى إلى أموالهم، عوض إدراك أن في المتناول استثمار الأموال هذه في سبيل تقدم أوروبا. وتعيد الحال الألمانية اليوم الى الأذهان حال الحصان المتعثر والواقف في مكانه قبل القفز فوق العوائق مهدداً بإطاحة فارسه. فهم لم يدركوا بعد أن الأوقات خطيرة. وقمة مجموعة الدول السبع كانت في مثابة ناقوس قُرع وفتح عيونهم على ما هم في غفلة منه. فألمانيا تحسب أن الأمور على حالها، على رغم أن النظام العالمي تغير. وليس الوقوف موقف المنتظر وغير المبادر خياراً ترتجى منه فائدة أمام المخاطر. وإذا لم تتحول أوروبا الى قوة قوية ومستقلة، غامرت بتبدد دورها في الساحة الدولية. ومسرح التقدم التكنولوجي هو شنزين الصينية ووادي السيليكون الأميركي. فنواة الاقتصاد العالمي صارت تميل الى جنوب شرق آسيا وليس إلى أوروبا. والقوى الاقتصادية الكبرى مثل فرنسا وألمانيا صغيرة أمام العمالقة الجدد. وإذا لم نتحد، ونرص الصفوف، لن يعتد بوزن أوروبا. والأزمة الأوروبية الحالية دليل على دور ألمانيا وفرنسا الحيوي في القارة. فمن دونهما لا تقوم قائمة للاتحاد الأوروبي.

وليست أنغيلا مركل خبيرة في الاستراتيجية السياسية. وهي عملانية، ولا تتخفف من الحذر. ولكن طريقتها هذه لا تدور عجلتها منذ انتخاب ترامب. وأدت مركل دوراً بارزاً في ألمانيا. فالبلاد كان من حظها انتخاب مثل هذه المستشارة. فهي رسخت الاستقرار. وإذا خسرت منصبها، لم يسع ماكرون المبادرة إلى شيء. فسقوط المستشارة الألمانية قد يخلف آثاراً كارثية في أوروبا. والوضع الحالي في ألمانيا مقلق، فنحن نتجه إلى أزمة سياسية بالغة. ولا غنى لماكرون عن ألمانيا، وحاجته ماسة إليها. ولطالما كانت العلاقات الفرنسية- الألمانية معقدة، على رغم التاريخ المشترك. فالنظام السياسي الألماني مختلف عن نظيره الفرنسي، شأن التباين بين نظام هذين البلدين الاقتصادي. ولست متشائماً. فمع الوقت، يرجح أن يقع الفرنسيون والألمان على بدائل قابلة للحياة. ولكن شاغلي اليوم هو الائتلاف الحاكم في برلين، والنزاع المشرع في المعسكر المحافظ بين «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» والاتحاد الديموقراطي الاشتراكي حول مسألة اللاجئين. وإذا أخفقت مركل في جسر الشرخ في الائتلاف الحاكم، صارت القطيعة بائنة مثلما هي الحال في فرنسا أو إيطاليا. ولذا، يتعذر اليوم على مركل الأخذ بيد ماكرون الممدودة إليها في وقت الأوضاع في الداخل الألماني غير مستقرة.

وأرى أن بروز اتحاد أوروبي مناطقه مقسمة إلى سرعات أو وتائر مختلفة، هو الحل. فالوقت ينفد. ومن يرغب في التقدم إلى الأمام، هو مطلق اليدين. ولا يسع دول الاتحاد السبع والعشرين التزام خطوات واحدة، ولا داعي الى انتظار أوربان (رئيس وزراء بولندا) أو كازينسكي. وفي أصقاع أوروبا كلها، ترجح كفة الأحزاب المتطرفة اليمينية واليسارية على حد سواء. وليس الأوروبيون مخيرين بين إطار الاتحاد الأوروبي الجامع وبين العودة الى الدول – الأمم، بل هم أمام مفترق طرق: إما خروج أوروبا من الساحة الدولية وإما التجديد وصوغ قارتنا القديمة صياغة جديدة. ونحن في مرحلة انتقالية، بين عالم يندثر وآخر يولد. ونحن عشنا في أوروبا سنوات طويلة من السعادة. ولكن السعادة غير دائمة، ولا يشترك فيها الإنسان مدى الحياة. واليوم، القومية انبعثت، ولم يحل دون انبعاثها تجربة الحربين العالميتين التي أودت بملايين القتلى. والقومية هي صنو الحرب، قال فرانسوا ميتيران. وشياطين أوروبا استيقظت من سباتها.

* وزير الخارجية الألماني الأسبق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى