ترجمات عبرية

يوحنان تسوريف – خيار الجماهير بين الانتفاضة الأولى ومسيرة العودة

مركز دراسات الأمن القومي – بقلم يوحنان تسوريف – 11/4/2018
أحداث “مسيرة العودة” تعتبر بارزة بنطاقها الضخم. منذ الانتفاضة الأولى، يبدو أن الساحة الفلسطينية لم تشهد حدثًا متعدد اللاعبين مثل هذه المسيرة على طول حدود قطاع غزة في يومها الأول (يوم الأرض 30 مارس)، وفي الأسبوع الذي تلاه.
من وجهة نظر المنظمين، فالمسيرة بداية لسلسلة خطوات يُفترض أن تصل ذروتها في الـ 15 من مايو. عدد الشهداء المرتفع في الأحداث الجماهيرية التي وقعت خلال السنوات الماضية، وعدد المصابين الكبير، يثير في صفوف الفلسطينيين رغبة بالانتقام من جانب، ومن جانب آخر يزيد من حافز الكثيرين للخروج والتظاهر. على النقيض، عدد الشهداء والمصابين قد يكون سببًا لردع الكثيرين غيرهم، ومنعهم من مواصلة النشاطات على طول الحدود.
يبدو أننا نشهد بذلك فصلًا جديدًا من نماذج الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، مطلوب فيه من الجمهور الفلسطيني حسم أي من كلا الخياريْن الذين يقودهما القيادتين في رام الله وغزة، تستحق أن يتم تبنيها كطريقة مفضلة للشعب الفلسطيني. في الخلفية يدوّي فشل كلا الخياريْن (خيار المفاوضات والتنسيق الأمني بقيادة السلطة الفلسطينية، وخيار المقاومة المسلحة التي تقودها حماس) والتي تزايدت ضعضعة شرعيتها بعد عملية “الجرف الصامد” في صيف 2014.
هذه هي ذروة العملية، التي بدأت في الانتفاضة الأولى التي اندلعت في نهاية عام 1987. لكن سرعان ما اتضح أن المبادرون لها يخططون – من خلال الدعم الدولي الواسع الذي حظيت به آنذاك – لتغيير طرق النضال والانتقال من العنف للتفاوض، من العيش بدلًا من إسرائيل للعيش معها جنبًا لجنب؛ هذه التطورات سرّعت من الإعلان عن تأسيس حركة حماس، التي رأت بالاتجاه الذي يقوده المبادرون للانتفاضة، رجال فتح والتيار الوطني الفلسطيني، كارثة ستؤدي لفقدان فرصة إعادة اللاجئين لبيوتهم وإنقاذ الشعب الفلسطيني من البؤس الذي فرضته عليهم النكبة.
بعد أيام معدودة من إعلان المجلس الوطني الاستقلال الفلسطيني (15 نوفمبر 1988) تم إرسال بيان من طرف القيادة الوطنية الموحدة لحماس، ودعاها لقبول الإعلان، التوقف عن تقسيم الشعب الفلسطيني، ودمج كل القوى الموالية في بوتقة تذويب الانتفاضة. كانت هذه بداية الخلاف الذي تزايد وأخذ طابع صراع قوي بين فصيليْن يمثل كل واحد منهما طريقة ومنظورًا، كل منهما لديه معتقدات وأسس راسخة. منذ ذلك الوقت تتمتع الحركة الوطنية الفلسطينية وفتح بحالة من التفرد، الفكرة الوطنية التي قادتها أعطت شعورًا بالراحة لكل من رأى نفسه فلسطينيًا، آمنت الحركة بالعروبة شريطة أن تترسخ الهوية الفلسطينية وتحصل على صيغتها السيادية.
حماس، من ناحية أخرى، تتحدث بمصطلحات دينية وطنية، لا ترى بالسيادة الفلسطينية أمرًا مقدس، وتحسم بأن لا تناقض بين هوية فلسطينية وهوية مسلمة، بل مكونين يكمل كل منهما الآخر ولا تمس بالهوية المستقلة الأولى. كان هذا تحديًا كبيرًا وضعته حماس أمام الحركة الوطنية الفلسطينية، قوض نزاهتها وكان بمثابة أساس لجذب للكثير لها ممن تبعوها. القلق من خسارة فلسطين الذي أثاره إعلان الاستقلال عام 1988 في صفوف المعسكر الديني والمحافظ، وجد ملاذًا في البيت السياسي الذي خلقته حماس آنذاك.
اليوم، ومع مرور 30 عامًا على الأمر، تقف كلا الحركتين أمام بعضهما البعض منهكتيْن ومضطربتيْن، وجمهور كبير يشعر بخيبة أمل من فقدان الطريق وغياب قيادة قادرة على الوصول لحل بالتوافق بينهما، بشكل يضع حدًا للمعاناة المستمرة.
فتح بقيادة أبي مازن تتمتع بأفضلية، كونها الجهة التمثيلية التي حظيت باعتراف دولي واسع، وتمتلك تقريبًا كل موارد الشعب الفلسطيني، وهي بمثابة عنوان لكل المساعدات والدعم الذي يأتي من الدول التي تلتزم باتفاقات دولية أو ترى في نفسها جزءًا من هذا المجتمع، لكن فتح تعاني من تآكل مستمر في مكانتها في صفوف الجمهور، الذي يرى فشلًا في استمرار حكمها، في فسادها، وعدم قدرتها على تحقيق مسارها السياسي. الجمهور يعبّر عن ذلك من خلال استطلاعات كثيرة تجرى في المناطق التي تحت حكمها.
في المقابل، حماس ركبت لسنوات عديدة على موجات “الرفض الراديكالي”. صلابتها، وعدم استعدادها للتحدث بمصطلحات التسوية، العمليات الكثيرة التي نفذتها في إسرائيل أو ضد إسرائيليين؛ كل هذا منحها وضعًا بطوليًا، لكن حماس تتراجع وتفقد شعبيتها منذ الانقلاب الذي نفذته في القطاع عام 2007، بكشفها عن فجوة بين القول والفعل، بين التمسك بمبدأ المقاومة المسلحة وبين تحمل مسؤولية الحكم، وأكثر من ذلك بعد ثلاثة عمليات عسكرية واسعة، واجهت بها قوات الجيش الإسرائيلي وخرجت بخسارة كبيرة. في المعركة الأخيرة “الجرف الصامد 2014” اضطرت حماس لمواجهة انتقادات من طرف الجمهور الذي انتقد “المقاومة المسلحة”، ومن ذلك الحين، هناك علامة استفهام واضحة أمام هذا الخيار وتلزمها بالحذر.
دخول الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض، تبنيه للموقف الإسرائيلي، اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل (6 ديسمبر 2017) ونيته نقل السفارة الأمريكية إلى هناك؛ كل هذا أخرج الولايات المتحدة من بؤرة “الوسيط العادل”، الذي كانت تتمتع به، وأزالت من جدول الأعمال الفلسطيني أي محاولة لتعزيز مفاوضات بقيادة أمريكية. هذا هو المأزق الأعمق الذي وقعت به القضية الفلسطينية منذ بدء المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين بوساطة أمريكية، لكن على النقيض، الحديث هنا عن غراء متماسك لمن يريد الربط بين شقي الشعب الفلسطيني.
لذلك، أحداث السياج لها بعد وحدوي، إلى جانب التنافس الواضح بين كلا المعسكرين. أبو مازن قد يتوجه قريبًا لمجلس الأمن من أجل مناقشة التصعيد الذي أدى لاستشهاد 29 فلسطينيًا، حتى لو لم تكن حماس متورطة بهذه الأحداث. كان هو من قرر تأجيل (حتى الآن) فرض العقوبات على غزة، التي تعهد بها حين انتقد حماس بشدة وخلال حديثه عن محاولة اغتيال رئيس الحكومة رامي الحمد الله ورئيس الاستخبارات ماجد فرج. إعادة القضية الفلسطينية لمركز الأجندة الدولية يخدم أيضًا سياساته.
فعليًا، أثبت قطاع غزة خلال أحداث “مسيرة العودة” ما كان معروفًا في الانتفاضة الأولى، حينها كان القطاع هو من خلق الثورة، بإخراجه للشيوخ، النساء والأطفال للشوارع وأعطى تعبيرًا حقيقيًا لقوة البعد الجماهيري. الأزمة المتفاقمة، والشعور بالدونية والظلم الواقع على غزة، هي مواد حارقة تخلق رواسب وتنفجر حين ينضج الوقت يصبح السبب المباشر قائم.
الواقع اليوم أصعب ممّا كان عليه في السابق، الانقسام بين الطرفين أدى لتفاقم الضعف الفلسطيني حتى الشلل. لكن، إعلان القدس عاصمة لإسرائيل وتصريح نقل السفارة الأمريكية خلق عاملًا مشتركًا، يربط بين عناصر القوة الفلسطينيين، داعمي حماس، أبو مازن، ومعارضيهم على حد سواء.
مع ذلك، هناك شك فيما إذا كانت كل هذه العناصر ستستخلص من البعد الجماهيري للاحتجاج الإنجازات التي استنتجوها في الانتفاضة الأولى، وذلك بسبب شك الجمهور في نوايا كلا القيادتين، غياب دعم دولي وعربي حتى الآن، علاوة على الردع الذي خلقته إسرائيل ردًا على التظاهرات.
من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى ان الجمعتيْن الماضيتين منذ بدء الأحداث أظهرتا أن البعد الجماهيري لم يفقد قوته. بالإضافة لحقيقة استمرار نطاق العمليات والاحتكاك مع إسرائيل منذ “إعلان القدس” لترامب لمدة أطول من العادة منذ صيف 2014؛ تشير إلى أن هناك طاقة قادرة على تغذية مزيد من النشاطات من هذا النوع.
أساس الاختبار هو لحماس كونها المسيطر على القطاع، هل ستنجح من خلال “مسيرة العودة” بتوسيع القاسم المشترك بين المعسكرات الفلسطينية المتنافسة، زيادة دوافع المشاركين والحفاظ على التوتر والتصعيد قرب السياج، حتى 15 مايو؟ أم أنها ستكتفي بمحاولة إلقاء مسؤولية فشل المصالحة الداخلية الفلسطينية والواقع الداخلي الضعيف على قيادة السلطة الفلسطينية التي تجلس في رام الله؟ الأيام ستُظهر ذلك.
إسرائيل من ناحيتها، في الوقت الذي تسعى فيه لاحتواء أحداث السياج ومنع الانزلاق لتصعيد شامل، وفي ظل دعمها لمطلب أبي مازن “سلاح واحد وقانون واحد” في الساحة الفلسطينية؛ اضطرت للتعامل مع نتائج تفاقم المشاكل الإنسانية في قطاع غزة، التي أساسها – من بين جملة أمور – العقوبات التي تفرضها السلطة الفلسطينية على حماس، وبالتالي سيكون مفروضًا عليها المساهمة بتقديم مساعدات هدفها التخفيف من الأزمة المتفاقمة في القطاع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى