يديعوت – مقال – 29/10/2012 حرب ددو
بقلم: رونين بيرغمان
وثائق جديدة عن حرب اكتوبر تبين مرة أخرى مدى الصدمة التي عاشتها الساحة السياسية والعسكرية في اسرائيل إثر الحرب.
“هل استطيع ان أطلب ان يكون رئيس مكتبي حاضرا؟ لأن عنده مادة ما”، هكذا فيما يشبه طأطأة الرأس أو ربما الخوف، طلب رئيس هيئة الاركان دافيد اليعيزر من اعضاء لجنة التحقيق للفحص عن أحداث حرب يوم الغفران، ان يُمكّنوا رئيس مكتبه نير شيلو من ان يكون حاضرا في الغرفة.
شهد اليعيزر أمام اللجنة في ما يقرب من 100 ساعة ونحو من 700 صفحة محضر جلسة، اللجنة التي لم تترك ذرة تتصل برئيس هيئة الاركان لم تقلبها. وقد جاء اليعيزر معه بآلاف الصفحات من محاضر الجلسات والوثائق الاستخبارية، والبرقيات والكتابات المسجلة وغير ذلك ليُبين موقفه المتعلق بالحرب. وصعب عليه احيانا ان يرتب كل ذلك وطلب حضور مساعده. أما فيما سوى ذلك فقد كان يقوم أمام اللجنة وحده تماما. فأين هو وأين بطارية المحامين المعروفة التي تصاحب ضباطا وساسة الى لجان التحقيق.
كلما قلّبنا الصفحات التي سُمح أمس بنشرها متأخرة سنين كثيرة، أمكن ان نرى الاتجاه الذي اتجهت اليه اللجنة وهو ان ددو قد قام على عمود المشنقة ساعات، تحت تحقيق مستقسي وتلقى ملاحظات وخازة، ولوحظ ان اعضاء اللجنة غير راضين عن شهادته. وبدا كأنه أُعلم مسبقا. ويتبين من هذه الشهادات لماذا كان الجندي الاول في الجيش الاسرائيلي هو اول من مضى بعد تقرير اغرينات الذي قضى بأنه يتحمل مسؤولية شخصية ولهذا يجب عليه ان يُنهي عمله.
التصور
يتبين من شهادة ددو ان كل شيء يبدأ بسلسلة النجاحات الظاهرية للاستخبارات الاسرائيلية في خلال 1973 والتي كان في مركزها التغلغل العميق الى قلب الدول العربية. وعززت عملية “ربيع الشباب” في نيسان 1973 التي شارك اليعيزر في تخطيط أصغر تفصيلاتها، ايمان القيادة العسكرية بأن المجموعة الاستخبارية تعرف كل شيء وان الجيش الاسرائيلي قادر على كل شيء. لم يعتقد ددو انه لا احتمال للحرب لكنه شعر بالاعتماد على النجاحات بأنه سيحصل على إنذار كاف بفضل ذلك التغلغل. “اعتقدت انه ليس لهم أية احتمالات اذا بدأوا حربا”، قال، “لأنني صدرت دائما عن افتراض انه سيكون عندنا انذار أساسي”.
وقد قام في مركز الانجازات الاستخبارية، الى جانب تركيب اجهزة تنصت على خطوط الاتصالات المصرية الأشد حساسية، تجنيد العميل المسمى في الموساد “المَلَك” وفي الجيش الاسرائيلي “حوتال” ألا وهو اشرف مروان، صهر رئيس مصر عبد الناصر ورئيس مكتب السادات العظيم القوة والدهاء، في 1970. بعد ذلك أصبحت قضية تجنيده واستعماله موضوعا مختلفا فيه جدا في تاريخ الموساد. “ارتبت مدة شهور طويلة في أنه عميل مزدوج”، زعم اليعيزر. “وكان عندي في كثير من المرات شعور بأن تقريره يشبه رسالة”.
يُبين البحث الجديد للدكتور يغئال كبنيس عن الحرب ان غرائز ددو الأولية غير سيئة ألبتة. فقد تبين انه في كل مرة شعر فيها رئيس مصر بأن الولايات المتحدة واسرائيل لا تنظران اليه بجدية، نقل مروان الى اسرائيل انذارا بالحرب وهو شيء يثير الشك في انه عمل في تنسيق مع السادات. لكن ددو اعترف في شهادته أمام اللجنة بأنه على أثر سلسلة أنباء دقيقة بدأ يُصدق مروان أكثر فأكثر.
في نيسان 1973 نقل مروان انذارا عاجلا بالحرب، ونشأت في الجيش الاسرائيلي عاصفة كبيرة. فقد قدرت شعبة الاستخبارات العسكرية ان الحديث عن نبأ كاذب لكن اليعيزر برغم تقديره الشخصي لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، ايلي زعيره (الذي كان يبدو آنذاك مرشحا طبيعيا لوراثته) لم يقبل التقدير. “كنت أقل ثقة بالاحتمال المنخفض”، قال للجنة. “لكن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أدلى بملاحظته عن الاحتمال المنخفض جدا في عدد من الفرص… في وقت كان توجهي فيه هو ان هذه هي المرة الاولى منذ 1967 التي يرتفع فيها احتمال الحرب. ولست أُعرفه ايضا آنذاك بأنه مرتفع لكنني خالفت شيئا ما رأي رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في جميع المنتديات، في الحكومة وفي لجنة الخارجية والامن وفي حضور رئيسة الوزراء ايضا. وخلصت من ذلك الى استنتاج انه يجب علينا ان نزيد الاستعداد لحرب محتملة في صيف 1973. وفي تلك الفترة حددنا عملية سميناها “ازرق ابيض” – كلفتنا نحوا من ستين مليون جنيه”.
وكُشف في الشهادة عن ان ما نُشر عن استعداد “ازرق ابيض” الى اليوم وكأن تلك الستين مليون جنيه قد تم انفاقها لتجنيد قوات الاحتياط – وهو زعم كان يرمي الى خدمة رئيسة الوزراء غولدا مئير ووزير الدفاع ديان – لم يكن صحيحا ألبتة. لأن المال أُنفق على شراء المعدات وتعميق التحصينات في هضبة الجولان. وهنا يُنبه في تهكم عضو اللجنة، مراقب الدولة الدكتور اسحق نيفان تسيئيل: “لا نستطيع ان نتهمك باهدار ستين مليونا بحذرك في نيسان – أيار وما كان يجب ان يصدك ذلك عن فعل ما يجب عليك في تشرين الاول”.
وفي النهاية تبين ان تقدير شعبة الاستخبارات العسكرية خاصة كان دقيقا. وعلى أثر ذلك حينما جاءت مرة اخرى تحذيرات في نهاية ايلول ومطلع تشرين الاول، لم يشأ ددو ان يخالف رأي زعيره ورجاله: “قال لي رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية: عندي رائدون يعرفون السادات أفضل من المستشارين الروس”.
ان شهادة اليعيزر محزنة بصورة مميزة، لأنه عرض طائفة من الوثائق تُبين انه قرأ جيدا صورة تفكير رئيس مصر أنور السادات وفهم في مرحلة مبكرة انه متجه الى الحرب، لكن لا الى حرب يحاول فيها احتلال سيناء كلها. “قلت يوجد شيء واحد فقط ربما يريد السادات احرازه”، اعترف ددو أمام اللجنة. “ان يبقى عنده موقع ما. دونم هنا ودونم هناك”. وكانت مشكلة ددو قناعته الداخلية بأن “السادات لن يحرز أبدا مباغتة على نحو ما حدث في الخامس من حزيران 1967. وأنا اقول هذا عن ثقة كاملة بالوسائل الاستخبارية”.
الضابط الذي أنذر ووُبخ
حقق اعضاء اللجنة مع اليعيزر كل لحظة من الايام التي سبقت نشوب الحرب. وتحدث اليعيزر كيف فسرت شعبة الاستخبارات العسكرية جميع تحركات القوات الكثيفة بأنها حيلة مصرية وخوف من هجوم اسرائيلي. “كانت عندي ثقة بتقدير “أمان” للتدريب”، يقول، “وقبلت تفسيرهم بأنه ستكون انذارات اخرى اذا بلغنا الى تحقق التهديد حقا”.
حققت اللجنة التي حصلت على شهادات في ذلك الشأن من قبل، مع اليعيزر في حرية التعبير عن الرأي في مقابل قيادة ايلي زعيره العالمة والصارمة. وقرأ عليه رئيس الاركان السابق وعضو اللجنة يغئال يادين نبأ في الاول من تشرين الاول يُنذر بحرب وصعّب عليه بقوله: “أتذكر هذا الإخبار؟” فقال ددو: “في ذات صباح جاءني رئيس “أمان” وقال لي: وفرت عليك ليلة. فقد حصلنا على إخبار خطير جدا جدا وجمعت هنا جميع الضباط وتحيرت هل أوقظك أم لا. وعملنا طول الليل واستقر رأينا في الصباح على ان ذلك ليس جديا”.
قال اغرينات: “اذا لم تشغل نفسك بذلك”، فقال اليعيزر: “لا”. فقال يادين: “أتعلم انه بعقب هذا الإخبار تم وقف رئيس القسم السوري من ضباط البحث الجديين لاستيضاح شديد جدا في شعبة الاستخبارات العسكرية وتم توبيخه بناءا على أنه هاتف بهذا الإخبار ضابط الاستخبارات من قيادة الشمال في الليل وسبب انذارا هناك؟”.
اعترف ددو في حرج بأنه لم يعلم بشيء، واعترف بأنه أدرك وعلم بأن القوات الموضوعة على الحدود في الجانبين السوري والمصري كانت قادرة على الانتقال الى اجراءات المعركة واطلاق النار في غضون زمن قصير في حين ان القوات الاسرائيلية “ليست قوات كافية لصد كامل”.
وسأل القاضي لندوي كيف رأى الجيش الاسرائيلي ان رجال الاحتياط الذين هم أقل أهلية للحرب هم الذين كانوا يشغلون المواقع على طول القناة وهم الذين كانوا أول من سيصابون في حال الهجوم، ولخص أمام اليعيزر المشكلة التي عانت منها القيادة كلها: “كان تقدير الاستخبارات ان المصريين يملكون القدرة على عبور القناة على طولها كله بيد أنهم لا ينوون ذلك”.
وقال اليعيزر مدافعا عن نفسه: “علمنا ان تسفيكا (زمير، رئيس الموساد) سافر للقاء حوتال (اشرف مروان). وأعطاني ذلك شعورا أفضل في يوم الجمعة لأنه لما كان تسفيكا سيرى حوتال فمن شبه المؤكد ان يوجد انذار آخر. لو أن إخبار حوتال جاءني لا قبل الحرب بعشر ساعات بل بـ 24 ساعة لما أخضعت هذا التصور لامتحان”.
كشفت الشهادة لأول مرة بصورة رسمية عن ان اسرائيل تنصتت على خطوط الهاتف للمستشارين السوفييت الذين خدموا في سوريا وعرفت اسرائيل من التنصت بالاجلاء العاجل جدا للمستشارين بواسطة قطار جوي. “حاول رئيس “أمان” ان يُبين ما الذي يحدث مع اجلاء العائلات الروسية”، قال ددو. “كان ذلك في صباح يوم الخميس بعد ان بدأ يقلقنا في الليل اجلاء العائلات”.
قال يادين: “في المشاورات عندك في الصباح هل تذكر ان رئيس “أمان” أبلغ ايضا عن مصدر الخبر عنده عن الاجلاء الروسي؟”، فقال ددو: “علمت ان ذلك من التنصت. وكنا نتفلسف جدا جدا في مبلغ تعجل ذلك ولماذا هو مُتعجل ولماذا قالوا لهم ثلاثون كيلوغراما (كمية الحمولة التي سُمح لكل عائلة سوفييتية بأن تأخذها معها)”.
الجدل مع ديان
يجب ان نقول في حق اليعيزر انه كما فشل في تخمين نوايا المصريين في تشرين الاول 1973 وتبنى تقديرات شعبة الاستخبارات العسكرية، وكما لم يُعد الجيش الاسرائيلي اعدادا كافيا للحرب التي قدّر هو نفسه أنها ستنشب بيقين، فانه منذ اللحظة التي نبهته فيها المكالمة الهاتفية في الرابعة والنصف صباحا انقلب ودبر امور الجيش الاسرائيلي وكأن الحرب على الأبواب. “تلقيت إخبارا هاتفيا بأن حوتال يقول ان هجوما سيقع هذا اليوم في الساعة 18:00″، قال ددو للجنة. “فكرت بضع دقائق وهاتفت قائد سلاح الجو وأبلغته عن الإخبار وقلت له: متى تكون قادرا على ان تهاجم هجوما وقائيا؟”.
رفض ديان امكان ضربة وقائية وبدأ تفاوض بينه وبين ددو يتعلق بموضوع تجنيد قوات الاحتياط، فقد طلب ددو تجنيد كل قوات الاحتياط تقريبا وعارض ديان ولوحظ انه غير متأثر بهجوم سوري مصري مشترك. “ما الفرق بين تجنيد هذه الفرق في المساء اذا بدأت الحرب حقا وبين تجنيدها الآن؟”، سأل، مع استخفاف عميق بالقوة العسكرية للدول العربية. ددو: “كنت سأُجري تجنيدا عاما ليعلم العالم كله بأننا مستعدون للحرب”، فأجاب ديان: “سيُصدقنا العالم أننا مستعدون وإن لم نُجند أحدا ايضا”.
وبذلك أضاع ديان زمنا ثمينا آخر. وكان الشعور الذي يوحي به بأنه لا يعتقد في نشوب حرب اليوم وحتى لو وقعت فانها لن تضر باسرائيل بل ربما بالعكس. بل انه أمر مساعديه بأن يبدأوا باعداد قوائم المعدات العسكرية التي تريد اسرائيل الحصول عليها من الولايات المتحدة مقابل أنها لم تبدأ بهجوم مضاد.
ان ما لم يظهر في شهادة اليعيزر، لأنه لم يعلم ذلك، هو انه في اثناء 1973 رفضت غولدا مئير سلسلة محاولات لوزير الخارجية الامريكي للوساطة بينها وبين السادات الذي وافق على التوقيع على اتفاق سلام مع اسرائيل بشروط لم يسبق لها مثيل لكنه حذر من انه سيضطر الى الخروج الى حرب اذا لم يوجد تقدم سياسي. “لن نمضي في ذلك”، أبلغت مئير كيسنجر كما بيّن بحث كبنيس. وأضاف ديان: “شرم الشيخ من غير سلام أفضل من السلام من غير شرم الشيخ”.
في السادس من تشرين الاول فاجأت سوريا ومصر اسرائيل بهجوم منسق بعد سلسلة اجراءات تضليل وخداع. وغيرت حرب يوم الغفران التي نشبت عن شعور بالقوة منحته المجموعة الاستخبارية للمستوى العسكري ولقيادة الدولة، غيرت وجه اسرائيل. فقد لاشت، مؤقتا على الأقل، الثقة بالنفس وأفضت الى التوقيع على اتفاق سلام اشتمل على اخلاء سيناء، وهو اتفاق اسوأ بالنسبة لاسرائيل من ذاك الذي رفضته غولدا مئير قبل تشرين الاول 1973. وفيما بين ذلك قُتل نحو من 2600 من جنود الجيش الاسرائيلي في حرب كان يمكن منعها.