يديعوت – مقال – 2/11/2012 حرب ناحوم ليف السرية
بقلم: رونين بيرغمان
لأول مرة تُجيز الرقابة العسكرية الكشف عن أسرار عملية اغتيال أبو جهاد في تونس والاعتراف بأن اسرائيل هي التي نفذتها وذكر القائد الاسرائيلي الذي تولى قيادة العملية.
في ساعات مساء… في العاشر من آب 2000 هتف الهاتف في شقتي الجامعية المزدحمة في الحرم الجامعي لجامعة كامبردج. وكان في الجانب الآخر من الخط صمت لكن سُمع في الخلف من بعيد ضجيج أخذ يزداد. وبعد بضع ثوان أدركت أنه بكاء امرأة مختنق يختلط بين الفينة والاخرى بالكلمات. كان الصوت مولولا “مات. لا أصدق ان هذا حدث. انه الشخص الأكثر حياة”. وبعد موجة اخرى من البكاء سمعت ان “ناحوم قُتل”.
قبل ذلك بيوم في شارع العربة التف سائق سيارة خاصة على شاحنة مع تجاوز خط فاصل ابيض قبل منحنى من غير حقل رؤية وأصاب دراجة نارية كانت تسير في المسار المقابل. ولشدة الاصابة قُتل في المكان الراكبة في الخلف ياعيل ميلر وسائق الدراجة النارية ناحوم ليف. وكان ليف راكبا خبيرا متخصصا بل كان يوشك ان ينهي كتابة مرشد خاص للسفر الآمن لسائقي مركبات ذات اطارين لكن لم يكن لهما أمل في تلك الحادثة.
بدأت في جنازة ناحوم ليف تُنسج الاسطورة، وليف واحد من المحاربين الجريئين من دورية هيئة القيادة العامة لكنه ايضا شخص مركب ومختلف. وهو قد فاز بوسام شجاعة لكنه لم يكن يرى نفسه عسكريا تقليديا ولم يمنع نفسه عن ملذات الحياة؛ وهو رجل صاعقة حقيقي قاد الدورية الى نجاحات كبيرة ومع ذلك أنهى حياته المهنية في خيبة أمل لأنه لم يحصل على قيادتها.
كانت معرفتي بناحوم ليف لمدة سنة في ظروف اجتماعية وقد عرف ما الذي اشتغل به ولهذا لم اسأله قط عن خدمته في الدورية. ومع ذلك فاجأني في عدد من أحاديثنا حينما بادر الى الحديث في ذلك الموضوع وقص عليّ عددا من تجاربه ولا سيما تاج خدمته، أعني عملية “عرض هدف” وهي اغتيال أبو جهاد. وشعرت بأنه الى جانب الفخر غير الخفي بالخدمة وبالعملية، يوجد في قلبه ايضا شعور خيبة أمل عميق وبأنه يبحث عن طريقة لرواية القصة ونشرها.
أخذت الأحاديث بيننا تزداد عمقا. وفي مرة من المرات سألته عن الجانب الاخلاقي لعملية الاغتيال، وهل كان عنده تردد قبل ان يضغط على الزناد ويقتل أبو جهاد. فأجابني ليف: “قرأت كل صفحة في ملف المعلومات عنه. كان أبو جهاد ذا صلة بأعمال فظيعة موجهة على مدنيين. وكان يستحق الموت. وأطلقت النار عليه بلا تردد”.
قبل نحو من نصف سنة نشرنا في هذا الملحق تقريرا صحفيا شاملا عن عملية اغتيال أبو جهاد. وقبل نشره أُرسل التقرير كما هو مطلوب الى الرقابة العسكرية. وبرغم ان العملية مر عليها ما يقرب من ربع قرن فانهم في الرقابة ما يزالون مستمرين في سياسة رفض كل تناول اسرائيلي لعملية الاغتيال. فالذي سُمح بنشره كان بحسب مصادر اجنبية. ومُنع نشر حقيقة ان ناحوم ليف كان قائد العملية. وماذا عن مقابلة صحفية معه؟ إياك وان تذكر ذلك.
منذ نشر التقرير الصحفي تم بين هذا الملحق والرقابة العسكرية حوار متواصل طلبنا فيه ان توزن هذه السياسة من جديد. وعرضنا مقتبسات من اريئيل شارون إذ كان رئيس وزراء وهو يتحمل مسؤولية رسمية عن العملية بل يفعل ذلك بفخر كبير. وقلنا إننا لا نرى داعيا الى استمرار رفض هذا الامر. وفي الاسبوع الماضي قبلت الرقابة العسكرية موقفنا فأصبح من الممكن لأول مرة ان نقول على الملأ ان اسرائيل هي التي اغتالت أبو جهاد وان ناحوم ليف كان قائد تلك العملية الجريئة.
بعد موافقة الرقابة وافق أبناء عائلته وعدد من اصدقاء ليف المقربين على الحديث لأول مرة وتحدثوا عن ناحوم ليف الذي عرفوه. وتحدثوا ايضا عن الجوانب الأكثر هوجا وكان فيه اشياء منها. وتصور هذه الأحاديث وسلسلة الأحاديث التي أجريتها مع ليف – والتي تنشر هنا لاول مرة وتشتمل على وصف لحظة الاغتيال – صورة شخصية مركبة ومفكرة ومعذبة ومتلذذة. انه بطل ليس بطلا.
ان ناحوم ليف ابن لعائلة جاءت من المانيا قُتلت كلها تقريبا في المحرقة.
تعلم الأب زئيف في الولايات المتحدة وأنهى شهادة الدكتوراة في مختبر ذي شأن ودرس الفيزياء في جامعة كولومبيا تلميذا للفائز بجائزة نوبل، ازيدور رابي، وآنئذ عرف ديبورة وهي جامعية يهودية ولدت في الولايات المتحدة واستقر رأي الاثنين على الزواج.
وكان البروفيسور ليف من أوائل من عملوا في الفيزياء التجريبية في البلاد وأصبح بعد ذلك عالما ذا صيت عالمي وفاز بجائزة اسرائيل عن سلسلة أبحاث اختراقية. وبدأت ديبورة تعمل في المعهد البيولوجي في نيس تسيونا.
كان البروفيسور ليف طلائعيا في التأليف بين العلم والدين وانشأ “معهد ليف” وهو المدرسة العليا للتكنولوجيا في القدس.
سكنت عائلة ليف بيتا في رحافيا في القدس، وكان الوالدان وكلاهما عالم يهمهما الدرجات في المدرسة لكنهما تفهما ان نفس ابنهما البكر ناحوم تتجول في اماكن اخرى ومنحاه حرية كبيرة. وأخذ ناحوم هذا الامتياز الى اماكن متطرفة جدا. كان يستيقظ في كل صباح مفكرا ويستقل مع أخيه وعدد من الاولاد الذين قادهم الحافلة الاولى الى المدرسة لا من اجل التبكير للدراسة بل من اجل ان يستولوا قبل الجميع على ملعبي كرة السلة وكرة القدم. ويقول أخوه شمعون: “كان واضحا ان ناحوم هو قائدنا وانه هو الذي يحدد المعايير. كان قائدا من الولادة، قائدا بطريقته الهادئة”.
حينما كان ناحوم في السادسة عشرة تزوج والده مرة ثانية من أرملة لها اربع بنات. واتسعت العائلة دفعة واحدة لكن ذلك كان بعيدا عن ان يؤثر في ناحوم. ويقول: “لم يؤثر فيّ ذلك لأنني كنت غير قابل للاختراق. بدين لي على ما يرام لكنني لم أكن أنوي بدء علاقات بعائلة جديدة”.
بحث آنذاك ووجد ملاذا وهو الرحلات، التي كانت طويلة وخطيرة احيانا وبخاصة الى الصحراء. ويقول ناحوم: “كانت النزهات آنذاك شيئا شاذا في المجتمع المتدين”.
في المعهد الديني الذي تعلم فيه ناحوم وهو “نتيف مئير” اعتُبر تلميذا ذكيا ورُفع صفا بيد انه بدأ عنده في تلك السنين مسار ابتعاد عن الدين. ويقول أخوه شمعون وهو ينظر الى صورة ناحوم ممسكا بقنبلة يدوية وجدها في واحدة من نزهاته الهوجاء: “نرى ان القبعة الدينية لا تلائمه بصورة جيدة. ونرى انه لا تلائمه هذه الحياة حقا. ان النزهات وقيادة المجموعة والحياة البدنية – كل ذلك أعده لما جاء بعد ذلك”.
حينما كان في السابعة عشرة نشبت حرب يوم الغفران وطلب ناحوم تعجيل تجنيده لكنه رُفض. وقال ناحوم لأخيه في الاحاديث المسجلة: “جذبني الجيش بلا شك”.
في اثناء ذلك حاول الدراسة في المعهد التمهيدي الديني في يفنه لكن كان واضحا ان تفكيره في عوالم اخرى، فحصل على ملابس جندي وارتداها وسافر الى مناطق عسكرية مغلقة وقعت فيها معارك في سيناء. وهناك في عمق الصحراء بعد سنين من النزهات في النقب شعر بأنه في البيت وقاد الى هناك عددا من اصدقائه في المعهد الديني. وقد اعتاد ان يجمع بقايا الذخيرة والسلاح التي بقيت في ذلك المكان وان يأتي بها الى بيته. وتبين لحاخام المعهد الهواية الجديدة فنبذه من المؤسسة كليا. وفي البيت فتحت زوجة أبيه ذات يوم خزانة وأدهشها ان صُب عليها منها قدر كبير من الذخيرة وعرفت الشرطة ذلك ونجا ناحوم من التحقيق بأعجوبة فقط.
حينما اقترب موعد تجنيد ناحوم تقدم الى امتحانات التشكيل في الوحدة البحرية 13 واجتازها بامتياز. لكن شخصا ما همس له في تلك الايام بأنه لن ينجح في الصاعقة البحرية بأن يحيا حياة دينية. وفي ذلك الوقت ايضا سمع لاول مرة في حياته عن وحدة سرية لم يكونوا يتحدثون عنها في وسائل الاعلام لكن الاساطير عن عملياتها انتقلت من فم الى أذن وهي: دورية هيئة القيادة العامة، فانقض ناحوم عليها.
تبين في الدورية انه جندي ممتاز وأصيل “يشتهي المغامرة مع قدرة نادرة على التوجيه وقدرة بدنية عظيمة”، كما قال أحد رفاقه. وحرص على الاستمرار في اعتمار قبعة دينية الى ان أُرسل الى دورة ضباط.
كانت إزالته للقبعة الدينية ازمة كبيرة للأب الذي لم يحافظ ثلاثة من أبنائه الخمسة على نهج حياة ديني.
حينما عاد ليف من دورة الضباط حصل على قيادة فريق واعتُبر قائدا صارما وشديد الطلبات. وبعد سنتين مشحونتين بالآكشن سُرح من الخدمة وسافر للتنزه في امريكا اللاتينية. وجرب ليف هناك بعيدا عن البيت بغير قبعة دينية ومتحررا من كل عبء، جرب تدخين الحشيش والمارغوانا وتناول فطر الهذيان. وحينما سألته عن ذلك رفع يده في استخفاف وقال: “كلهم هناك يجربون ذلك. هل اعتقد أحد أنني لأنني ولدت في بيت متدين أو كنت ضابطا في دورية هيئة القيادة العامة فيفترض ان أترهب أو أُجنب نفسي هذه التجربة؟ لا في الحقيقة”.
لم يعلم آنذاك ان هذه التجربة ستعود لمطاردته بعد ذلك.
وفي اثناء الرحلة جاءه اقتراح يقول عُد الى البيت فانه ينتظرك دور عملياتي سري جدا في الدورية. واستقل ناحوم طائرة نقل عسكرية الى اسرائيل. وطُلب ان يجري عليه مرة اخرى اختبار أمني وفحص بجهاز الكشف عن الكذب هذه المرة، وفي التحقيق تحدث ليف عن تجاربه الهوجاء في رحلة حاملي الحقائب. وقد كان الفطر والحشيش في تلك الايام أمرين محظورين. وانتظر ليف بضعة اشهر الى ان تلقى اشعارا بأنه رُفض للخدمة في الوحدة. وقال لي: “كانت تلك ضربة قاسية. لم أُصدق ولم أفهم من أين جاءني ذلك. كنت شديد الصدق في التحقيق. سألوني وقلت الحقيقة. ان الواضح ان ما حدث في جنوب امريكا بقي هناك وأنه لا نية عندي ألبتة ان أشغل نفسي بهذه الامور في الوقت الذي أخدم فيه، ولم يساعد ذلك في شيء”.
في خلال ذلك نشبت حرب لبنان الاولى وجُند ليف ليكون قائد قوة في الوحدة. ووجدوا أنفسهم سريعا جدا تحت النيران. “كان الخوف غريبا عليه”، يقول أحد المحاربين الذين كانوا معه. “في وسط واحدة من المعارك وقف مع خرائط ووجه القوة غارقا كله في الصور الجوية والخرائط والقذائف تسقط حوله الى ان انتبه فجأة الى ان الجميع هربوا الى مكان آمن وأنه بقي وحده. فابتسم ومضى مستريحا ليفحص عن حال الرفاق”.
ان أخاه شمعون الذي كان في بدء طريق محارب في دورية هيئة القيادة العامة، كان جزءا من قوة أجرت معركة مع قوة صاعقة سورية ودُفع الى نيران قناصة وصواريخ ثقيلة. واستُدعيت قوة ناحوم للمساعدة. “أخذنا ملاذا وراء صخور كبيرة في منطقة جبل الشيخ السوري”، يتذكر شمعون، “وفجأة سمعت صوت ناحوم. فصرخت به آنذاك كي لا يطلقوا النار علينا: يا ناحوم نحن هنا تعالوا”. واجتمعت القوتان وأنهتا المعركة تحت قيادة ناحوم تاركتين وراءهما أكثر جنود الصاعقة السوريين قتلى.
لكن “الوصمة” الغريبة التي لازمت ليف ظلت تطارده في لبنان ايضا. فقد عرف رئيس “أمان” يهوشع ساغي الذي جاء الى واحد من توجيهات الوحدة في داخل بيروت، عرف وجه ناحوم وهو ينظر اليه من خلال شعره الطويل المنفوش. وغضب أمام ضباطه لأن “هذا الضابط المُخدر” مُنح امكانية العودة الى الوحدة.
حينما تم تعيينه عومر بار – ليف قائدا للدورية فقط كان يبدو انه نُسي “اعتراف الفطر” في نهاية الامر. ودُعي ليف للعودة الى الوحدة وعُين قائدا للسرية الممتازة. وعلى حسب أنباء اجنبية منشورة كانت تلك هي القوة التي تعمل في أكثر المهمات سرية والتي من اجلها أُنشئت الدورية ألا وهي بث اجهزة تنصت في قلب ارض العدو.
وقد عينه قائد الدورية التالي، موشيه يعلون، نائبا له. ونشأت بين الاثنين صداقة وتعاون عميقان. “قابلت ناحوم أول مرة حينما جئت لأخدم نائبا لقائد دورية هيئة القيادة العامة”، قال يعلون هذا الاسبوع متذكرا. “كان يتولى آنذاك قيادة واحدة من العمليات وأثرت قدراته فيّ، كان متفوقا ببساطة. كان ناحوم خلاقا جدا وأصيلا جدا وواحدا فكر من خارج الصندوق. وقد جاء دائما بأفكار خلاقة جدا وأصيلة جدا. وكان ناحوم فصيحا جدا، وذكيا بصورة غير عادية وشجاعا بصورة بارزة”.
آنذاك ايضا كان من حاولوا تثبيط تعيينه نائبا لقائد الدورية. “أتذكر أنه وجدت آنذاك معارضة بيروقراطية مبدئية لاعادته الى الجيش بسبب تقرير له وبسبب الصدق، قال انه في اثناء رحلة في امريكا الجنوبية جرب الغراس”، يقول يعلون. “عرفت أنني لا استطيع التخلي عن ضابط كناحوم، وبعد استيضاح شخصي مني له ضغطت لاعادته الى الدورية، وهذا ما كان. كان ناحوم قائدا وزعيما نزيها جدا. اعتمدت جدا على قدرته على تنفيذ العمليات”.
كان من الطبيعي انه في العملية الحساسة والمعقدة التالية التي ستواجه الدورية سيُعين يعلون ليف “قائدا”. وحصلت العملية على الاسم الرمزي “عرض هدف” وكان هدفها الوصول سرا الى تونس ودخول الفيلا الخاصة للارهابي الكبير أبو جهاد والقضاء عليه.
كان أبو جهاد سنوات طويلة المخطط والمفكر لسلسلة عمليات ارهابية قاسية نفذتها م.ت.ف في اسرائيل منها تفجير الثلاجة الملغومة في ميدان صهيون والسيطرة على فندق سافوي وعملية الحافلة في الشارع الساحلي. وقد ترك أبو جهاد مع كل مسؤولي م.ت.ف الكبار بيروت في اثناء حرب لبنان الى تونس وسكن في فيلا في الحي الفخم سيدي بو سعيد، في ظاهر العاصمة تونس. وتابع من هناك مسار الدم. وحاولت اسرائيل طوال السنين أكثر من مرة اغتياله لكنها لم تنجح في ذلك.
في 1987 تم الحصول على اختراق استخباري مكّن من التخطيط لعملية اغتيال جديدة، وقد بادرت شعبة “قيسارية” وهي الوحدة العملياتية في الموساد الى هذه الجهود وقادتها وقامت في مركز التخطيط والتنفيذ للعملية. وحينما خلص ناسها الى استنتاج ان المنظمة محتاجة الى قوة نار لا تملكها توجهوا الى الجيش الاسرائيلي وطلبوا مساعدته، بموافقة من رئيس الوزراء شمير ووزير الدفاع رابين. واشتغل ناس الموساد في الجمع المعقد جدا للمواد من ساحة التنفيذ وفي الجواب عن أصعب سؤال وهو كيف نتحقق من ان أبو جهاد سيكون في بيته زمن العملية.
لم يكن من الممكن حتى الآن، وكما قلنا من قبل، ان نقول علنا ان الحديث عن عملية لاسرائيل ولم يكن من الممكن ان ننشر ان الذي كان يرأس العملية هو ناحوم ليف فضلا عن نشر مقابلة صحفية معه عن ذلك. وأصبح كل ذلك ممكنا هنا لأول مرة:
ناحوم ليف: “بيّنت المادة الاستخبارية التي تم جمعها من ناحية أولية ان المكان الذي يعود اليه كل ليلة (حينما يكون في تونس) معزول نسبيا ويخضع لحراسة قليلة ايضا. لم يكن أبو جهاد يؤمن ببساطة ان شخصا ما سيصل اليه هناك. عمل الموساد في بيروت أو في سوريا أو في اوروبا لكنه لم يعمل قط في تونس وشعر أبو جهاد بأنه آمن هناك نسبيا”. وبرغم ذلك كان بيت أبو جهاد يحرسه طول الوقت حارسان ملازمان وحظي بحراسة دورية من شرطة تونس.
كان نموذج العملية التي تقررت آخر الامر مشابها جدا لعملية “ربيع الشباب” قبل ذلك بـ 14 سنة بحيث تنقل قوة بحرية كبيرة جنود دورية هيئة القيادة العامة الى الساحل التونسي، وتنقل الوحدة البحرية 13 الجنود الى الشاطيء حيث يتلقاهم محاربو “قيسارية” – الذين سيأخذونهم الى الهدف. وتُتم الدورية عملية الاغتيال ويعود الجميع الى الشاطيء عائدين الى السفن. كان ذلك يبدو سهلا لكن الحديث عن عملية معقدة جدا واحتمال تعقدها عال جدا وكذلك المخاطرة بحياة المشاركين.
قضى ليف اسابيع طويلة في التخطيط لكل تفصيل للعملية والتدرب عليه. وكان في الليالي يعود الى بيته في القرية الزراعية “بيت – زيت” ويقضي وقته هناك مع الغراب “تسفيكا” الذي تبناه. وقد قسم ليف المجموعة المشاركة الى عدد من الخلايا كان لكل واحدة منها دور محدود في مداهمة البيت.
وكي يكون التنفيذ دقيقا حرص ليف على توجيه مصادر استخبارية كثيرة جدا، بشرية والكترونية الى الحصول على أكبر قدر من التفصيلات عن بنية البيت وما حوله. ومضى محاربو “قيسارية” الى تونس وجاءوا منها وجاءوا بمعطيات اخرى. وقُبيل عملية الاغتيال تم اعداد نموذج مصغر للفيلا والشوارع حولها يشتمل على بيت الجار أبو مازن.
على حسب نموذج البيت كان باب مدخل الفيلا يفضي الى دهليز ضيق الى غرفة استقبال واسعة مملوءة بالأرائك والمقاعد التي لُزت على طول الجدران. وعن يمين الدهليز غرفة استقبال. وعن اليسار مطبخ وركن طعام، ومن الصالون كان ينحدر الى القبو حيث كان ينام هناك بحسب المعلومات الاستخبارية أحد الحراس الشخصيين. ومن غرفة الضيوف أفضى درج الى دهليز في الطابق الثاني كانت غرفتا النوم عن جانبيه واحدة لأبو جهاد وزوجته، والثانية للابنة حنان، وفي المركز كانت غرفة عمل أبو جهاد.
يقول ناحوم ليف: “في عمليات من هذا القبيل يجري صراع كبير بين الجهات المختلفة على الجدول الزمني – أي الوحدات تحصل على أكبر قدر من الدقائق في الجدول الزمني المخطط له. ومن المفهوم ان الرغبة الأساسية هي في ان يُترك للقوة التي تقوم بالاغتيال نفسه أكبر قدر من الوقت للعناية بالهدف. ومع ذلك فان الواسطة البحرية التي يجري فيها أكثر العملية غير متوقعة وكل تغيير ضئيل فيها قد يفضي الى انحراف كبير في الجدول الزمني. ولهذا ينبغي تنفيذ تدريبات شديدة جدا استعدادا للعملية والالحاح على تأليف كامل بين الوحدتين – الدورية والوحدة البحرية”.
اذا كانت القوات المحاربة في الاعداد لـ “ربيع الشباب” قد تدربت على بيوت ذات طوابق عالية (بحسب ما كان رائجا في 1973)، كانت قد أخذت تُبنى في رمات أفيف، فقد كانت في هذه المرة حاجة الى التدرب على بيت ذي طابقين. وكان بيت كهذا في مراحل بناء متقدمة في عتليت غير بعيد عن قادة الوحدة البحرية 13. وكان الساحل مشابها كثيرا لمنطقة النزول في شاطيء الرواد على مبعدة نحو من 4 كم عن الحي الذي كان أبو جهاد يسكنه.
أجرى عددا من التدريبات ناس قوة المداهمة في القدس حيث تخيلوا سفرا ليليا عند ظاهر بيت أبو جهاد ومداهمة لبيت كان في طور البناء آنذاك عند ظاهر المدينة. قال ليف: “ذات مرة وقفنا عند اشارة مرور. ووقف واحد أعرفه من القدس بجانبي ورآني ألبس لباسا غريبا ومسلحا من أخمص قدمي حتى رأسي فلوح لي بالسلام لكنني تظاهرت بأنني لا أعرفه”.
في 13 نيسان 1987 قبل موعد الاغتيال المحدد، بدأت عملية “عرض هدف”. فقد وصل محاربو “قيسارية” الى تونس وتوزعوا في مجموعتين كان يجب ان تعمل الاولى قائدة لمقاتلي الدورية من الساحل الى البيت ثم العودة؛ وان تجري الثانية مراقبة للبيت من بعيد وتتحقق من ان الهدف موجود هناك حقا، وفي اثناء ذلك أبحر ناس دورية هيئة القيادة العامة في سفن من ميناء حيفا، وعرف ناحوم انه يستقبل غير قليل من الساعات الفارغة فأخذ معه كتاب “شوغون” لجينس كلافيل.
وحينما وصلوا بازاء الساحل التونسي ركب ليف وفريق المحاربين قوارب مطاطية وبدأ القسم الرئيس من العملية. وقادهم ناس الوحدة البحرية الى الساحل حيث انضموا الى ناس “قيسارية” الذين انتظروهم مع السيارات. وأُرسلت سيارة متقدمة لناس “قيسارية” أمامهم تتحسس الطريق: بحيث اذا لقيت حاجزا عرضيا يعرف ناس الموساد كيف يخرجون من المشكلة، لكن اذا تم وقف سيارات ناس الدورية فكيف ستُبين لشرطي تونسي ما الذي يفعله محاربون مسلحون في السيارة.
في اثناء ذلك كان المراقبون من الموساد الذين راقبوا البيت قد أبلغوا ان أبو جهاد قد عاد الى بيته. وكان ذلك قريبا من منتصف الليل، وعاد أحد حراسه الشخصيين الى السيارة ونام هناك ودخل الثاني الى البيت.
كان الـ 26 شخصا من الدورية في الطريق منقسمين في مجموعتين. وكان ليف في مقدمة مجموعة من 8 ستكون المخترقة الاولى. وكان الى جانبه محارب كان يحافظ على تقليد شبه ثابت في الدورية، فقد تنكر بلباس امرأة وكان المحاربون الـ 6 الآخرون يلبسون ملابس قاتمة، ودروعا واقية خفيفة ونعال فلديوم، وكان كل محارب مزودا بقناع للرأس اشتمل على ميكروفون وسماعة.
وقفت السيارات على بعد نصف كيلومتر عن البيت ونزل المقاتلون منها. وسار ليف والمحارب المتنكر بلباس امرأة أولين مثل زوجين في نزهة ليلية. وكان ليف يمسك بيده قطعة حلوى “سكرية” كبيرة وكانت يده الثانية في داخل المحفظة. لم تكن هناك شوكولاتة بل مسدس مع كاتم صوت. واقترب ليف من الحارس الشخصي الاول الذي كان ينام في السيارة وأطلق النار على رأسه فقتله. “شعرت بأنني متصل بالمهمة”، قال مستعيدا بعد ذلك، “لم أخف، أردت فقط ان ينجح كل شيء. أطلقت النار على الحارس وأشرت الى الباقين أنه يمكن الانطلاق”.
حينما تلقى سائر المحاربين الاشارة الى ان الحارس الخارجي قد قُتل، تقدم ناس المجموعة الثانية واستلوا معدات مخصصة لفتح باب الفيلا. وتوزع فريق منهم حول المبنى يؤمنونه.
دخل المحاربون الى الداخل والاقنعة على وجوههم. وتوجهت احدى الخلايا نحو القبو حيث استيقظ الحارس الشخصي الثاني ولم يستطع اعداد سلاحه للاطلاق فقُتل. وأُطلقت النار على جنائني تونسي كان يعتني بالحديقة واستقر رأيه على النوم في القبو في تلك الليلة. وقال ليف: “آسفني جدا قتل الجنائني لأنه لم يفعل شيئا في الحقيقة، لكن لا مناص وفي عملية كهذه يجب التحقق من ابطال كل مقاومة محتملة”.
انطلق أحد المحاربين اختاره ليف أولا صاعدا على الدرج وبعده ليف فورا. “كان أول من أطلق النار على أبو جهاد”، يتذكر ليف. “خُيل إلي انه (أبو جهاد) أمسك مسدسا بيده. بعد ذلك أطلقت النار عليه، مشطا كاملا، وكنت حذرا ألا أُصيب زوجته التي جاءت الى المكان. ومات. ونفذ فيه محاربون آخرون تأكيد قتل”.
كيف شعرت؟
“إسمع، من المؤكد ان ذلك لم يكن مشهدا لذيذا. فقد كانت الزوجة تقف هناك تريد ان تتقدم الى الأمام ولم تتحرك لأن أحد الجنود وجه اليها مسدسا فقط ونحن نطلق النار على زوجها أكثر فأكثر. لا يمكن ان أقول ان هذا لم يؤثر فيّ”.
حينما هدأت طلقات النار أخذ المحاربون معهم عددا من صناديق الوثائق والمذكرة الالكترونية آملين ان تكون تشتمل على معلومات استخبارية. وسحب محاربان صندوقا ثقيلا جدا من الأوراق. وفي السفينة حينما فتحوا الصندوق تبين ان ذلك لم يكن شيئا فقد كان الحديث عن اوراق للطباعة لم تستعمل بعد.
لكن باستثناء ذلك كانت العملية كاملة. وحدث على السفينة معانقة وابتسام وتربيت على الأكتاف. وبعد وقت قصير من رجوع ليف حصل على وسام خاص من رئيس الاركان دان شومرون، وصعب عليه ان يفهم لماذا فقد كان يرى ان وسام الشرف يُمنح عن اوضاع معقدة غير متوقعة. وقد مُنح وسام الشرف هنا ببساطة لأن كل شيء تم بحسب الخطة الدقيقة التي خططها بالضبط.
بعد سنة من العملية كان يعلون يوشك ان ينهي عمله قائدا للدورية وأوصى بأن يحل ليف محله. وقد كانت للاثنين ساعة لقاء ثابتة في ظهر ايام السبت، فقد كان ليف قد اشترى بيتا في ايلات قريبا من الصحراء التي أحبها جدا، وفي نهايات الاسابيع كان ينزل الى ايلات على الدراجة النارية وكان يخرج في صباح السبت لركوب الدراجة النارية متجها الى بيت يعلون في غروفيت.
ترك ليف الجيش الاسرائيلي مرة اخرى وعُين قائدا لقوة الاحتياط في الدورية. وفُرض عليه في عمله ذلك ان يخطط خططا شاملة لغزو قوات خاصة اسرائيلية لمناطق اطلاق الصواريخ العراقية في حرب الخليج الاولى، ورُفض الغزو في نهاية الامر بضغط امريكي لكن الافكار العملياتية الأصيلة التي أثارها ليف والتعاون الذي دبره بين دورية هيئة القيادة العامة ووحدات اخرى مثل 669 وشلداغ، جذبت انتباه مسؤولين كبار في سلاح الجو، واهود باراك رئيس الاركان الجديد. واستدعى باراك قادة الامن الميداني وأبلغهم انه “لم يعد داعٍ لتلك الحكاية من امريكا الجنوبية، فهو ضابط ممتاز من أفضل من كانوا عندنا قط. أنا أحتاج اليه وأنا أُغلق الملف”.
عُين ليف مؤسسا لقيادة القوات الجوية الخاصة التابعة لسلاح الجو ورُفع الى رتبة عقيد. وفي واحدة من رحلاته الجوية الاولى في عمله تحطمت المروحية التي كان يستقلها وتخلص هو ونائبه بمعجزة.
وضع ليف في سلاح الجو أسس عمليات خاصة سرية كثيرة تمت في فترته وفي السنين التالية.
وظل في عمله ذلك حتى 1995 حينما طلب الحصول على قيادة لواء مشاة نظامي، لكنه لم يُعط مطلوبه فقد شعر بأن “اعتراف الفطر” ظل يطارده واستقر رأيه على ترك الجيش. بعد ذلك أسس شركة هاي تيك اشتغلت بشؤون صور الفيديو الثلاثية الأبعاد واشتغل بمشروعات اجتماعية مختلفة يتصل بعضها بحزب العمل، وظل يدأب في السفر الى ان وافته المنية.