يديعوت – مقال – 19/10/2012 معركة تماس
بقلم: اليكس فيشمان
تُبين أنباء نشرت في المدة الاخيرة ان اتصالات تمت بين الامريكيين والاسد حتى بعد نشوب الاضطرابات في سوريا وكانت بمثابة حبل انقاذ للاسد لكنه رفضها.
يوجد لرواية المراودة الامريكية للرئيس السوري بشار الاسد – بعلم اسرائيل وموافقتها – فصل اضافي لم ينشر بعد. وقد وقع في شباط – آذار 2011، في ذروة المعارك في سوريا. وكان ذلك بعد نصف سنة من خفوت المبادرة التي قادها الدبلوماسي الامريكي فيرد هوفن، التي كشف عنها شمعون شيفر في “يديعوت احرونوت” في الاسبوع الماضي.
في الفصل الاول عمل هوف مع مكتب الاسد مُرسلا من وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون وبموافقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع اهود باراك. واستمرت الاتصالات ثلاثة اشهر على الأقل مع وقفات طويلة بين لقاء وآخر. وعيّن نتنياهو المحامي اسحق مولخو ممثلا له، وعين باراك العميد مايك هرتسوغ وعمل الاثنان مع هوف الذي تنقل بين واشنطن والقدس ودمشق، ومع دنيس روس الذي كان في واشنطن وعمل من وراء ستار. أما الباقون جميعا وفيهم قادة الجيش فلم يكونوا مطلعين على الامور.
خفتت المحادثات لأن الاسد فقط الاهتمام. ولم يكن المقابل الذي وُعد به اذا وافق على الانفصال عن حزب الله وايران شرطا مسبقا للتفاوض جذابا له بقدر كاف. فالانسحاب الاسرائيلي من هضبة الجولان الى جانب دعم اقتصادي سياسي امريكي لم يكونا يعادلان في نظره العلاقة الاستراتيجية بايران.
ليس من الصدفة ان ولدت مبادرة وساطة هوف في ربيع – صيف 2010 خصوصا، ففي ذلك الوقت زاد التوتر بين اسرائيل وسوريا وفي اسرائيل تابعوا بقلق المحاولات التي بذلها حزب الله لينقل الى لبنان وسائل قتالية وصواريخ ارض – ارض “سكاد دي”، وصواريخ مضادة للطائرات متقدمة من طراز “اس – آي 17”. وعلى حسب انباء منشورة اجنبية أُثير ايضا احتمال ان ينقل السوريون الى حزب الله سلاحا كيماويا. وكانت الرسالة الاسرائيلية الى دمشق وبيروت واضحة وهي ان كل محاولة لادخال هذا السلاح الى داخل لبنان ستلقى عملا هجوميا اسرائيليا.
حاول حزب الله ان يخدع الاستخبارات الاسرائيلية ويهرب منظومات السلاح. وخافوا في وزارة الخارجية الامريكية من اشتعال في المنطقة وكان من مصلحة اسرائيل ايضا التهدئة ولهذا سمح نتنياهو وباراك لفيرد هوف بالاستمرار حتى لو أفضى ذلك الى بدء تفاوض في التنازل عن هضبة الجولان. ولم يعتقد أحد من بين المشاركين في اسرائيل ان فيرد هوف سينجح. وكان الاسد من جهته صلفا وواثقا بنفسه بقدر كاف كي يرد على الوسيط الامريكي بالرفض.
في اثناء ذلك ضعف شيئا ما التوتر العسكري بين الدولتين. واشارت المعلومات الاستخبارية الى انخفاض الباعث على تهريب سلاح من سوريا الى لبنان. ولم يعد من الملح على اسرائيل الاستمرار في الحوار. لكن الوسيط الامريكي أصر. ويوجد بين خريجي وزارة الخارجية الامريكية ووزراء سابقين كمارتن اينديك وايد جرجيان غير قليل من أنصار الاستمرار في الحوار مع سوريا. وهنا نصل الى الفصل الثاني من الرواية الذي وقع في الاشهر الاولى من سنة 2011.
بدأ هذا الفصل بمحادثات تحسس بين ناس ادارة سوريين جاءوا الى واشنطن وبين اولئك الدبلوماسيين السابقين الذين عملوا برعاية ومباركة وزارة الخارجية الامريكية، وبعلم اسرائيل مرة اخرى. بعد ذلك جاء المبعوثون الامريكيون الى سوريا وعرضوا على الاسد تجديد الاتصالات باسرائيل بتفضل ما لبناء ثقة متبادلة كأن يساعد على الافراج عن جلعاد شليط أو اعادة عظام الجاسوس ايلي كوهين الى اسرائيل. لكن الامريكيين حاولوا قبل كل شيء اقناع الاسد بأن مبادرة سياسية دراماتيكية جديدة ستصيب الشارع السوري والعربي بصدمة وتوقف موجة الاضطرابات التي تزداد قوة في أنحاء سوريا.
كان ناس وزارة الخارجية الامريكية – الذين ضاقوا ذرعا بالرئيس المصري مبارك لأنه لم يكن نقي الكفين ولم يكن ديمقراطيا في نظرهم بقدر كاف – كانوا مهتمين خاصة ببقاء الديمقراطي البارز الاسد. وقد منح الامريكيون الاسد حبل نجاة في صورة مبادرة سياسية جديدة. بيد ان الرئيس سوري رفض هذه المبادرة باحتقار. وكان على يقين من انه يعرف أبناء شعبه أكثر من الجميع وانه غير محتاج الى أية مساعدة من الاجانب. وهكذا انتهى الفصل الثاني من الرواية ايضا من غير شيء.
استعداد للتسرب
التقى الاسد في الاشهر الاخيرة مسؤولين كبارا من الصليب الاحمر ومبعوثين آخرين من دول غربية ومن قبل أنفسهم. وأسمعوه أفكارا للتسوية مع الامريكيين واسرائيل لكنه ظل يرفض كل مبادرة وضعت أمامه. بيد انه سار أسدا آخر. فهو متعلق تماما بالايرانيين، ولم تعد اسرائيل والولايات المتحدة معنيتين للاستماع منه. وكانت الرسالة الاخيرة التي وصلته من اسرائيل تهديدا مباشرة بهجوم عسكري. حدث ذلك قبل بضعة اشهر، حينما لاحظت جهات استخبارية امريكية ان واحدة من المنشآت المتعلقة بالنشاط غير التقليدي للجيش السوري سقطت في أيدي المتمردين. وحذرت الادارة الامريكية السوريين من أنهم اذا لم يعيدوا الوضع الى ما كان عليه فسيواجهون هجوما عسكريا امريكيا – اسرائيليا ساحقا. وكان التهديد المباشر مصحوبا بتصريحات مسؤولين كبار من الادارة الامريكية وجهاز الامن الاسرائيلي، حذروا من احتمال تسرب سلاح كيماوي سوري الى جهات ارهابية. وفهم الاسد الرسالة فورا، وأعاد جيشه السيطرة على المنشأة. ونُقل بعض مواد القتال الكيماوية الى منشآت جديدة. وفصل خبراء سوريون المواد المختلفة بعضها عن بعض كي لا يمكن استعمال المركب الفتاك. وأُفرغت المستودعات في المناطق التي يخشى فيها فقدان السيطرة. وهذا ما يفعله الاسد في مناطق اخرى يفقد السيطرة فيها. تُنقل مستودعات السلاح الاستراتيجي والصواريخ الثقيلة، الى اماكن يستطيع الجيش السوري حمايتها.
ليست سوريا اليوم تهديدا عسكريا مباشرة لاسرائيل فما بقي منها هو احتمال تهديد في المستقبل ولهذا أصبحت المتابعة الاستخبارية لما يحدث هناك تختلف عما كانت عليه في الماضي. فأصبحت متابعة تسرب السلاح الاستراتيجي من سوريا اليوم أهم من عد الدبابات السورية في هضبة الجولان. وأصبح أهم ان يُعلم ما الذي تفعله تلك الوحدات من نشطاء الاسلام المتطرف التي أُنشئت في اطار جيش المتمردين وما الذي يحدث في مناطق التماس القريبة من حدود اسرائيل التي لم تعد تحت سيطرة الاسد.
اليوم، بعد عشرين شهرا من بدء الاضطرابات، أصبح الاسد يسيطر على أقل من 50 في المائة من مساحة سوريا. والمعابر الحدودية مخترقة تماما. وانشق نحو من 10 في المائة من الجيش السوري النظامي – بين 30 ألف شخص الى 40 ألف. وقُتل أكثر من 37 ألف سوري منهم نحو من 8 آلاف جندي وفرد من أفراد قوات الامن. وفي كل يوم يفقد الاسد بين 25 عسكريا الى 30 وبعضهم ضباط كبار. ومنذ نيسان من هذا العام لم يعد الجيش السوري يُجهد نفسه بنشر أعداد القتلى. فالجيش السوري لم يتحمل هذا العدد من المصابين في أية حرب. وخسرت قرى علوية في كل واحدة أقل من ألف ساكن ثلاثين – اربعين من أبنائها ويلفها حداد ثقيل. وفي هذا الواقع يضطر الجيش السوري الى تجنيد قوات الاحتياط وانشاء عصابات مسلحة محلية. وقد أرسل حزب الله مئات المحاربين ليحلوا محل جنود سوريين في حراسة منشآت استراتيجية وحماية المناطق العلوية من هجمات المتمردين.
وقد فهموا في الجهاز الاستخباري في اسرائيل ان سوريا التي عرفناها مدة ثلاثين سنة لم تعد موجودة. كانت الاستخبارات في اسرائيل في 2007 تستطيع ان تحلل صورة اتخاذ القرارات في الجانب السوري. ولم يعد واضحا اليوم من الذي يشاوره الاسد فقد تم القضاء على كثير من مستشاريه في خلال الاضطرابات وحل محلهم آخرون لكن وزنهم النوعي مختلف. ان مستشاريه الاستراتيجيين الحقيقيين هم مسؤولون ايرانيون كبار يصوغون معه الاجراءات العسكرية والسياسية – وبينهم رجل مركزي ايراني يمكث بصورة ثابتة في دمشق قريبا من أذن الاسد، وعدد من كبار مسؤولي حزب الله – منهم نصر الله. وقد انشأوا له الاستراتيجية التي تقول انه يجب للحفاظ على النظام قمع التمرد بالقوة، وفصل الضواحي عن المدن وبذل كل جهد كي لا تسقط أية مدينة كبيرة في أيدي المتمردين. فاذا سقطت حلب نشأ تواصل مناطقي للمتمردين مع تركيا ونشأت قاعدة صلبة للانطلاق نحو دمشق. وهذا التطور قد يكسر التعادل الموجود فيه الجانبان منذ شباط من هذا العام.
لكن تعلق الاسد بايران نفسي أكثر من ان يكون عسكريا واقتصاديا. ففي اللحظة التي يسقط الايرانيون فيها رعايتهم له لن يوجد بعد. وقد فهم الايرانيون ان الاسد حصان ميت، لكنهم يريدون الاستمرار في التمسك بسوريا بكل ثمن. وحينما يجدون وريثا يخدم مصالحهم، فسيضطر الاسد الى الانصراف.
بلد لا أحد
في الاثناء لا يدع الجيش السوري حجرا على حجر. فقد أصبحت مدن كثيرة مدن أشباح بعد ان نُفذ فيها تطهير عرقي. وخربت قرى سنية في المناطق العلوية وطُرد سكانها، وهذا ما فعله السنيين بالعلويين في الأحياء المختلطة في المدن ايضا، وفي سوريا اليوم أكثر من مليون مُهجر. ويمكث في الاردن نحو من 180 ألف لاجيء سوري، وفي لبنان 90 ألفا، وفي تركيا 120 ألفا. وقد أعلن الاتراك من قبل انهم لا ينوون الاستمرار على استيعاب لاجئين بلا تحديد وهم يطلبون الى الامريكيين ان يطبقوا على سلاح الجو السوري حظر طيران في مناطق ما في الدولة للتمكين من انشاء مخيمات لاجئين في داخل سوريا. ويهدد الاتراك بلا نهاية لكنهم يحاولون الامتناع عن مواجهة عسكرية مسلحة مع سوريا لأن السوريين ما يزالون يمسكون بورقة لعب رابعة، أعني الاكراد. وقد منحت سوريا الاكراد في المدة الاخيرة مناطق ذات حكم ذاتي في داخلها، على الحدود التركية. وفي كل مرة يهدد الاتراك سوريا يعمل الاكراد على مواجهتهم من داخل هذه المناطق. وفي الشهرين الاخيرين فقط خسر الاتراك 70 شخصا في معارك مع الاكراد، هذا هو سوط الاسد.
حينما زار رئيس شعبة الاستخبارات اللواء أفيف كوخافي هضبة الجولان قبل اسبوع ورفع المنظار نحو القنيطرة، رأى صورة استخبارية تختلف كليا عما عرفه إذ كان قائد لواء المظليين أو رئيس لواء العمليات. فلم يرَ هناك اللواء 90 السوري الذي عرفه، ولم يرَ التحركات السورية العادية التي اعتادتها اسرائيل عشرات السنين. وقد نظر الى المنطقة التي حظيت في الجيش الاسرائيلي بالنعت المصفى “منطقة حدودية”. وهي ارض لا أحد. ان هضبة الجولان في الحقيقة ركن ناءٍ في الصراع السوري الداخلي لكنها تحكي قصة سوريا كلها مع التهديد المحتمل الكامن فيها.
ان القنيطرة والقرى حولها يديرها اليوم “مجلس عسكري” مؤلف من ثلاثة أطر لوائية “مستقلة” للمتمردين. ويوجد في البلدة المركزية في محافظة القنيطرة، وهي جبتا الخشب، التي تقع على مبعدة كيلومترين عن الحدود لواء المتمردين “الفرقان”. وهي قوة اسلامية – سلفية عددها بضع مئات من الاشخاص احتلت القرية في تموز من هذا العام. وهناك لواء متمردين آخر هو “نسور الجولان”، مؤلف من سكان المكان ومنشقين، والى جانبه “لواء صحابة النبي”، وهو ذو توجه اسلامي واضح. وهذا المجلس العسكري وعدده بضعة آلاف من المسلحين، يواجه الجيش السوري الذي يحاصر محافظة القنيطرة ويستعمل المدافع موجهة على تجمعات المتمردين في البلدات والقرى وقرب الحدود مع اسرائيل. وبين آن وآخر تسقط قذيفة ضالة في داخل اسرائيل ايضا.
ان سوريا برج ينهار. وتسقط منه كسر في هذه الاثناء. وما بقي البرج يهتز فقط فان وضع اسرائيل الامني في مواجهة هذه الجبهة أفضل من أي وقت مضى، لكن البرج قد ينهار مع صوت مرتفع. وحينما ينهار – يتوقعون في شعبة الاستخبارات العسكرية ان يحدث هذا هذا العام – فقد نواجه اسئلة لا جواب عنها الآن وهي: ماذا ستفعل تلك الألوية السلفية الموجودة على مبعدة كيلومترين عن حدود اسرائيل بعد سقوط الاسد؟ وهي ستنزع سلاحها ويعود المقاتلون الى المساجد، أو تصبح سوريا ارض عصابات مسلحة كليبيا؟ وهل ستنشب حرب أهلية بين الطوائف المختلفة؟ وفي أيدي من ستقع مستودعات السلاح غير التقليدي والتقليدي للاسد؟ وهل سيكون من تحادثه اسرائيل والولايات المتحدة هناك؟ هذا واحد من التحديات الامنية الأكثر تعقيدا والحاحا والذي ستضطر الى مواجهته كل حكومة تنشأ في اسرائيل بعد الانتخابات.