يديعوت / اسبوع داخل غزة في ظل المواجهات – ها نحن اليائسون

يديعوت – بقلم فرانشيسكا بوري – 22/6/2018
شمس الاصيل، ابنة 19، تعيش في مخيم الشاطيء للاجئين، على شاطيء غزة. 11 نفس في غرفة واحدة مع حيطان متفككة. وهي تقول “لكن الامر الاصعب بالنسبة لي ليست الثلاجة، التي هي ليست فارغة فقط بل في الواقع غير موجودة لانه لا توجد لنا كهرباء – الامر الاصعب حقا هو ان أرى رفيقاتي يذهبن في الصباح الى الجامعة، وهو شيء لا يمكنني أن اسمح به لنفسي”.
من اصل 1.9 مليون من سكان قطاع غزة ، 1.5 مليون معرفون كلاجئين. أنسال اللاجئين، للدقة، شمس هي واحدة منهم. تروي أمها فتقول: “انا في الاصل من بئر السبع، 40 كيلو متر فقط عن هنا”. وماذا ستفعلين اذا ما رفعوا امس الاغلاق وفتحوا معبر ايرز على مصراعيه، اسألها. “الامر الاول الذي افعله هو السفر الى القدس”، تقول الام، “ولكن بعد هذا اعود الىهنا، الى غزة”.
وماذا عن حلم العودة؟
“اذا اضطررنا الى مواصلة العيش هنا لسبعين سنة اخرى فقط كي اعود الى بئر السبع، فاني افضل البقاء هنا. وفضلا عن ذلك فان غزة يوجد لها بحر”.
عصام حامد، من مبادري ومنظمي “مسيرة العودة” لا يشك للحظة في حق اللاجئين بالعودة الى الاماكن التي طرد منها او هرب اجدادهم وجداتهم في 1948. ويعلن حامد “هدفنا هو العودة الى وطننا. العودة وهذا هو”. ولكن هذه هي تصريحات بالاساس. اما في الواقع القائم في قطاع غزة، الذي تجولت في طوله وعرضه على مدى اسبوع، فان الكثير من الناس كانوا سيكتفون بتصريح عمل في اسرائيل. آخرون يعترفون بانه مع كل الاحترام لحق العودة، في اللحظة التي تفتح فيها الابواب فانهم سيهاجرون الى اوروبا، الى تركيا او الى دول الخليج.
هذا الاسبوع، في ضوء خبو المظاهرات قرب الجدار، عادت طقوس نار الصواريخ من جانب حماس واعمال القصف الاسرائيلية. اما للشبان الذين رأيتهم يسيرون نحو قناصة الجيش الاسرائيلي، فان شيئا من هذا لا يؤثر فيهم حقا. فهم لا يرون أملا ولا مخرجا من الوضع. فبعد التاسعة مساء تمتلىء شوارع غزة بالمسلحين الذين يسيرون في دوريات من كتائب عز الدين القسام، ولكنني لم التقيهم قرب الجدار. ولا زعماء حماس ايضا. فقط الفقراء واليائسون، الذين ليس لهم ما يخسرونه. المسافة بين حكومة حماس التي تلوح باعلام حق العودة وتحرير القدس وبين الناس الذين التقيتهم في الشارع، واسعة. في أزقة غزة لا يتحدثون عن السياسة بل عما نأمل في المساء، اذا ما اكلنا على الاطلاق.
هذه فلسطين
في كل يوم جمعة، منذ 30 اذار، يحتشد عشرات الالاف على طول ما لا يسميها احد هنا حدود بل سور، إذ من على جانبي الجدار، هكذا يقولون، هذه في واقع الامر هي ذات البلاد. فلسطين. 8 حزيران كان يفترض أن يكون الذروة. يوم الجمعة الاخير من شهر رمضان، فور “يوم النكسة” الذي يمثل الهزيمة العربية في حرب الايام الستة. ولكن على الحدود ووقف عدد قليل نسبيا من الناس. نحو 10 الاف متظاهر بالاجمال، موزعين في خمس نقاط. كلهم تقريبا اخوة، آباء، اطفال، ابناء اعمام واصدقاء الـ 123 متظاهرا الذين قتلوا حتى الان في المواجهات على الجدار. “أنا ابن 12 فقط وشهدت حتى الان ثلاثة حروب”، يقول لي احد المتظاهرين. على مسافة نحو 700 متر من الجدار، في الجانب الفلسطيني، توجد تلة رملية اقامها الغزيون، مثل التلة التي بناها الجيش الاسرائيلي في الطرف الاسرائيلي. خلف التلة تقع مناسبة فرحة حقيقية: الشبان يلعبون كرة الطائرة، المهرجون والممثلون يتخفون في صورة شخصيات مسلية للاطفال. هناك، في المنطقة المحمية نسبيا، يعدون ايضا الطائرات الورقية الحارقة، وهناك أيضا تجرى المقابلات مع وسائل الاعلام.
في الجانب الاخر من التلة، امام الجدار، تكون هذه قصة مختلفة تماما. منطقة حرب. اقف انا هناك وأنظر الى المتظاهرين الذين يسيرون بتصميم نحو القناة الاسرائيليين الذين يستلقون على التلة الترابية امامهم تماما، على مسافة 500 متر بالاجمال. المتظاهرون مكشوفون تماما. وسيلة الدفاع الوحيدة لديهم هي الدخان الكثيف، الذي يتصاعد من اطارات السيارات المشتعلة.
مسلحون بالمقاليع وبالطائرات الورقية التي اعدها الاطفال من خلف التلة، والان يربطون بها خرقا مبللة بالوقود، يشعلونا بقداحة او سيجارة ويطلقونها نحو حقول بلدات غلاف غزة. بشكل عام تسقط الطائرات الورقية في الحقول وتحرقها، ولكن مطلقيها يحسبون بشكل غير صحيح اتجاه الريح احيانا فتعود اليهم كالسهم المرتد. ويقول احدهم “هذا يمثل وضعنا”. من هنا، الجدال الاسرائيلي اذا كان ينبغي اطلاق النار ام لا على “مطلقي الطائرات الورقية”، واذا كان الحديث يدور عن خلايا منظمة من حماس، يبدو واضحا من تلقاء ذاته.
مهما يكن من أمر، فقد أصبحت الطائرات الورقية في غزة رمز قوة. قوة الضعف. فهي تكلف بضع عشرات الاغورات، مصنوعة من النايلون او من اوراق الصحف، ولكن من ناحية الفلسطينيين تنجح هذه في الانتصار على القبة الحديدية الاسرائيلية التي يكلف كل صاروخ اعتراض فيها بين 50 و 100 الف دولار. ويقول لي شاب آخر ان “الطائرات الورقية ليست سلاحا، هي رسالة. نحن لا يمكننا ان ننتصر، ولكن اسرائيل ايضا لا يمكنها ان تنتصر”.
فجأة تنقسم الجموع الى قسمين. إذ يتبين أن أحد اطارات السيارات كان ثقيلا جدا وهو يتدحرج الان عائدا نحو المتظاهرين ويدهس احدهم، شاب نحيف ومسكين كاد يحترق. فيضحك الجميع من حوله. ويقول احدهم متهكما “هذه فلسطين”.
وفي هذه الاثناء باتوا يخلون الجرحى الاوائل. النار نحو المتظاهرين، من خلف ستار الدخان الاسود، تكاد لا تسمع. هذه مسيرة مقلوب على مقلوب: بدلا من التقدم، يتراجع الفلسطينيون، وهم على حمالات الجرحى. الواحد إثر الاخر. ينقلون بسيارات الاسعاف بصافراتها الى المستشفيات في القطاع. الى الجبهة الثانية، تلك التي يقاتلون فيها في سبيل حياة الجرحى ولانقاذ اطرافهم، بلا مضادات حيوية تقريبا.
أرى المتظاهر الشاب الذي تحدثت معه، وهو يحمل شيئا يتكون من شبكة صيادين وحبل طويل ينجح في اسقاط حوامة اسرائيلية. في تلك اللحظة، يغادر الجميع بلا استثناء منطقة الجدار، ويتجهون نحو الحوامة التي اسقطت ليلتقطون لانفسهم صور السلفي معها. وفي المساء سيروون هنا عن أربعة قتلى، ولكن مسيرة يوم الجمعة تنتهي عمليا في هذه المرحلة، مع الحوامة التي حملت بهتافات الفرح في أزقة غزة للاستعراض بها وكأنها رمزا لشيء ما مقدس. هذا هو الانجاز الوحيد تقريبا لتلك المظاهرة، التي كان يفترض بها ان تكون الاكبر منذ بدأت مسيرات العودة.
قميص، حقيبة، كتاب
في اليوم التالي للمواجهة على الجدار، تعود منطقة الحدود مرة اخرى الى الهدوء. بعض من الشبان يستلقون على الرمال وكأنهم على شاطيء البحر. بعضهم مقطوعو الارجل، بعض منهم اكاديميون. كلهم عاطلون عن العمل. تأتي امرأة تلبس الاسود. ابنها قتل. كان هو الذي يعيل كل العائلة اقتصاديا. “احد حتى لم يأت ليسألني عن حالي”، تبكي وهي منهكة ويائسة. تلقي المرأة البائسة بنفسها على احد الشبان الذين يستقلون هناك فيعطيها بضعة شواكل، وهي تنهار على الارض. وتصرخ بيأس “انقذونا، انقذونا!” فيما يأتي رجل ويأخذها من هناك.
قبل اسبوع من ذلك، في 1 حزيران، قتلت على الجدار رزان النجار، مسعفة متطوعة من منظمة الاغاثة الطبية. ابنة 21. ترتدي سترة بيضاء لقوات النجدة. ويدعي الفلسطينيون بانه اطلقت النار عليها وهي رافعة ايديها فيما كانت تحاول الوصول الى احد الجرحى كي تعالجه. اما الجيش الاسرائيلي فيدعي بانها اصيبت بشظية طائشة من احدى الصخور وليس بنار مباشرة.
الحقائق لا تهم حقا، فالنجار اصبحت على الفور رمز الكفاح، وانتشرت صورها في كل العالم.
ولكن في غزة، مثلما هو الحال في غزة، الوقع هو اكثر تعقيدا بكثير. وفي اثناء جنازة المسعفة الشابة اقتحم رجال حماس بيتها وزرعوا فيه الخراب. لماذا؟ لانها هي وعائلتها كانتا متماثلتين مع فتح، وحماس لا تريد ان تحل المنظمة الخصم على حظوة رمز كفاحي لهذا القدر .
“الكل جاء لزيارتنا ومواساتنا”، يقول لي ابوها. “ممثلون عن فتح وعن حماس ايضا، ولكن احدا لم يعط شيكل”. البيت يبث شحا رهيبا، المطبخ فارغ تماما. الام تأخذني دامعة الى غرفة الابنة، تخرج اغراضها من الخزانة، تشير اليها وتقول الكلمات القليلة التي تعرفها بالانجليزية، “قميص، حقيبة، كتاب”. تريني صور ابنتها في هاتفها، شابة مبتسمة، لا تظهر حولها علائم نشاط متطرف لاي تنظيم.
اقتحام منزل العائلة هو جزء من الصراع الخالد بين الحركتين، الذي لم يتوقف حتى في ذروة المظاهرات على الجدار. “العالم بدأ يتحدث مرة اخرى عن فلسطين”، يقول الكاتب د. عاطف ابو سيف، من جباليا للاجئين، الذي يصف كتابه “حياة معلقة” الشرخ بين حماس وفتح، “ولكن مثلما هو الحال دوما، عندما تنجح فكرة، كل واحد من الفصائل يحاول ادعاء ملكيتها، وفي النهاية يفوتون كل شيء. فهم غير قادرون على أن يترجموا الانجازات الاعلامية، كل هذه القوة، الى نفوذ سياسي حقيقي. هذا مثل صاروخ يضرب احدى المدن في اسرائيل. للحظة واحدة تكون هنا حماسة كبرى، ولكن ماذا يحصل بعد ذلك؟ هل يتغير اي شيء؟ لا شيء!”.
ولا حتى قطعة خبز
واذا كان تغير شيء، فللاسوأ فقط. بعد أكثر من عشر سنوات من القطيعة، الوضع الاقتصادي والانساني في قطاع غزة يبعث على الغثيان. فالشبكات تنهار والحكم المدني يكاد لا يؤدي مهامه، ولا يهم من المذنب في هذا – اسرائيل، حماس، مصر، السلطة الفلسطينية او كلهم معا. وحتى الشيء الاكثر اساسية، ماء الشرب، لم يعد أمرا مسلما به. فقد أصبحت مخزونات المياه الجوفية مالحة والسكان متعلقون باستيراد المياه من اسرائيل. وحسب معطيات وكالة الغوث، فان 80 في المئة من سكان القطاع متعلقون بالمساعدات الانسانية و 50 في المئة يعانون من الجوع أو نقص الامن الغذائي. ولا يوجد الى اين يذهبون: في العام 2017 تلقى 9.600 شخص فقط تصاريح خروج من القطاع الى اسرائيل أو الى مصر. والمعنى هو أن المقيم في غزة يمكنه ان يخرج من القطاع مرة في نحو مئتي سنة بالمتوسط.
تعبير واحد يجسد الوضع أكثر من كل الارقام والاحصاءات: ترمدول. هذا نوع من مخفف الالام اصبح المخدر الاكثر انتشارا في غزة. في اماكن كثيرة حيث يتجمع شبان رأيته يعرض ويباع علنا. يسمح لمن يبتلع القرص ببضع ساعات من النوم المخدر. وبينما يستهلك الكثير من الشبان في العالم اقراص الاكستزي، الكوكايين وايمفتمنيم كي يحتفل حتى الصباح، هنا، في سنواتك العشرين، لا تريد الا ان تنام وتنسى. في كل ثلاثة أو اربعة ايام يبلغ في غزة عن محاولة انتحار.
في بيوت عديدة لا يوجد شيء في المطبخ. سكان غزة الذين كانوا ذات مرة جزء من الطبقة الوسطى، استخدموا توفيراتهم وبقوا معوزين لكل شيء. اما القلائل الذين لا يزالون في وظائف ثابتة فيضطرون لان يعيلوا 10 او 12 نفسا براتب واحد – الاهل، الاخوة، الابناء، ابناء الاعمام، الراتب المتوسط في القطاع اليوم هو 300 دولار، وحتى من يعمل يمكن أن يجد نفسه غدا عاطلا عن العمل. مرافقي مثلا، يعمل ايضا في جامعة في غزة ويعيل عشرة من ابناء العائلة، بينهم ابويه العاطلين عن العمل. وفي الاسبوع الذي تجولت معه في غزة تلقى رسالة الكترونية تبشره بانه بعد بضعة اسابيع سينهي عمله، وبعد نحو بضع ساعات تلقى تذكيرا من البنك بان عليه أن يدفع القرض السكني الشهري بمبلغ 350 دولار وهو لا يزال محظوظا، إذ بصفته سائقا ومرافقا للصحافيين يتلقى 350 يورو في اليوم اكثر من الراتب الشهري المتوسط في غزة.
في مركز المدينة في غزة على هامش الطريق يجلس اولئك الذين لم يكن قدرهم ناجحا. وهم يجتمعون في نوع من ملجأ، خيمة مصنوعة من بطانيات قديمة. ليس لهم شيء، ولا حتى قطعة خبز. هناك التقيت عائلة حمام، أب لخمسة اطفال، عاطل عن العمل. حتى الان كانت العائلة تتلقى مخصصا بمقدار 750 شيكل مرة كل ثلاثة اشهر ما أتاح لها ابقاء الرأس قليلا فوق الماء. ولكن قبل عشرة ايام توقف المخصص، لانه نفد المال لدى وزارة الشؤون الاجتماعية الفلسطينية.
في مثل هذا الواقع لا معنى لانتزاع ابتسامة من الاطفال. فهم يحدقون بك، متجمعين كلهم في زاوية واحدة. ويقول حمام “يخاف الاسرائيليون من أنه اذا فتحت الحدود فاننا سنهاجمهم. اما أنا فليس عند حتى ولا شيكل وهكذا لا يمكنني حتى أن اصل الى الحدود مع اسرائيل.
صحيح أن الطعام في غزة زهيد الثمن نسبيا – وجبة الفلافل تكلف هنا شيكلين، مقابل 5 شيكل في رام الله – ولكن بضائع اخرى، مثل الكهرباء، الماء والوقود، غالية جدا. وبشكل مفاجيء نجد أن الدكاكين في غزة ليست فارغة، بل انه يوجد هنا حتى مجمع تجاري مخصص للاغنياء، مع محلات للملابس تعرض علامات تجارية تركية يحبها سكان القطاع. قميص من تركيا يبلغ سعره هناك 30 شيكل. ومن اجل عائلة من 10 نفوس، مع دخل شهري من 300 دولار، فان هذا يعد مالا كثيرا. هكذا بحيث انه لا يوجد في غزة ما ينقصهم. ببساطة ليس لدى معظم الناس المال ليشتروا أي شيء.
ولكن يوجد أيضا آخرون. الفنادق على خط الشاطيء فارغة من السياح. ولكن في الامسيات التي بت فيها هناك كان مطعم فندقي مليء تماما. في المقاهي يجلس غزيون اياديهم تنال، رجال أعمال يبقون على غموض سياسي، لا يتماثلون مع هذا التنظيم او ذاك، ويعرفون كيف ينتزعون المرابح رغم الاغلاق. “الاعمال كالمعتاد”، يقول لي تاجر سيارات غزي في نادي سباق الجياد “فيصل”. ويضيف: “انا لا يمكنني ابدا أن اعيش في لندن مثلا. فهناك أنا مجرد واحد. اما هنا فأنا مليونير”.
احمد العاصي، صياد ابن 29، التقيته قرب قاربه. يوجد 3 الاف صياد في غزة ومسموح لهم الابحار حتى 6 ميل بحري عن الشاطيء (10 في المئة). من يجتاز هذا الخط، يصطدم بسفن سلاح البحرية الاسرائيلية. الكثير من الصيادين، ولكن القليل جدا من السمك والقليل جدا من المشترين. لدى احمد 12 عامل يتوجب عليه أن يدفع لهم الرواتب. وهو ينفق 1.000 شيكل في اليوم على الوقود. في كل صباح يعود احمد من البحر مع نحو 200 كيلو من السمك الذي معظمه من الاسماك الصغيرة التي يبيعها بشيكل واحد للكيلو، وبضع عشرات الكيلوات من السمك الجيد الذي ينجح بها في تغطية النفقات. وليس اكثر من هذا. حسب اتفاقات اوسلو حين لم تكن جدران وأسوار، كان الاسرائيليون يأتون الى هنا لشراء السمك. ويقول العاصي: “قبل السلام كان سلام اكثر”.
في قلب غزة اقام شابان مقهى اسمياه موفينبك باستثمار أول من خمس شواكل بدأوا يبيعون فيه الشاي في الشارع، وبعد ذلك جاءوا بالكراسي والطاولات. اما اليوم فتوجد لهما عربة يعدان فيها القهوة والشاي والعصائر. وقد تحول هذا الى موقع للقاء سكان الحي حيث يجلسون على ضوء الشموع التي توضع في زجاجات مع رمل ومصابيح الصيادين – هكذا عندما لا يكون هناك كهرباء الا لاربع ساعات في اليوم. وعلى العربة تعلق صورة الثوري تشي جيفارة، ولكن على ما يبدو في هذا المكان المحبب لن تبدأ اي ثورة.
السجين أم السجان؟
الجهاز الصحي في غزة ايضا يوجد على شفا الانهيار. فالكثيرون من بين الـ 13 الف جريحا في أحداث الاسابيع الاخيرة فقدوا يدا أو قدما. في قسم كبير من الحالات لم تكن حاجة حقيقية لقطع الطرف المصاب، ولكن بسبب النقص في المضادات الحيوية كان يمكن لهم أن يموتوا بالتلوث ولهذا اضطر الاطباء الى تنفيذ عمليات البتر.
مستشفى الرنتيسي في غزة يبدو مثل كل مستشفى آخر، ولكن عندما زرته كان مليئا بالجرحى من المواجهات على الجدار. لا تنقص المضادات الحيوية فقط بل وحتى الاطباء المختصون. من يحتاج الى الادوية يتوجب عليه ان يشتريها في السوق السوداء. في المستشفى يمكن تلقي العلاج الكيميائي ولكن من أجل بعض العلاجات هناك حاجة للوصول الى القدس. فليس لدى المستشفيات في غزة المال لشراء اجهزة التصوير الاشعاعي، وحتى الادوية من الخارج لا تصل دوما الى مقصدها.
حين يكون هذا هو الوضع، فان الكثيرين من سكان القطاع يفهمون بانه لا مفر من فتح مفاوضات مع اسرائيل. ويقول احدهم: “هذا لا يعني ان لدينا ثقة باسرائيل. العكس هو الصحيح. ولكن بالذات لانه ليس لنا ثقة، لا معنى لان ننتظر التغيير. يجب أن نخلقه”.
اما تراشق الصواريخ والقصف فيستقبل هنا كنوع من الحوار: حماس تطلق صواريخها في وقت متأخر في المساء او مبكر في الصباح، كما يشرحون لي، على اعتبار ان هكذا يكون هناك احتمال طفيف لاصابات في الطرف الاسرائيلي، اما الجيش الاسرائيلي فيقصف بالاساس مبان فارغة. في نهاية المطاف، حماس ايضا ستجد صعوبة كبيرة في أن تسمح لنفسها بحرب اخرى كالجرف الصامد. فالحركة معزولة على نحو شبه تام وبالاساس توجد في حالة افلاس.
انبوب الحياة لحماس هو انفاق التهريب في رفح، من تحت محور فيلادلفيا. ولكن مصر السيسي اغرقت الانفاق الاخيرة التي لا تزال تعمل، وبالتوازي قلصت دول الخليج جدا تبرعاتها للحركة. عندما اسأل رجال حماس عن استراتجيتهم وما هي نيتهم عمله لانقاذ سكان غزة من الازمة فانهم يوبخونني تقريبا فيقولون: “لماذا لا تذهبين لتسألي اسرائيل؟ من المذنب في الوضع، السجين أم السجان؟”.
أجلس مع بعض الاصدقاء في مقهى لطيف على شاطيء غزة، ورائحة البحر تختلط برائحة القهوة والنرجيلة. “اليوم التقيت مع باسم نعيم”، اروي لهم. نعيم، الناطق بلسان حماس للشؤون الدولية، يحظى بتقدير كبير في غزة، وليس فقط هناك. ويسألونني كالجوقة تقريبا “ماذا، حقا؟ وماذا قلت لكِ؟” فأقول: “قال انهم يطلبون رفع الاغلاق بشكل فوري بلا اي شروط”. فينظرون الي خائبي الامل وكأن بهم ينتظرون بشرى كبيرة “هذا هو؟ لم يقل اي شيء آخر؟” ويضيفون “فهذا مفهوم من تلقاء نفسه. واضح اننا نريد انهاء الحصار. ما كانت حاجة لكل هؤلاء القتلى كي نقول ما قلناه حتى الان الف مرة”.
النقد على حماس لا يفاجيء البروفيسور مخيمر ابو سعده، خبير في الشؤون السياسية من جامعة الازهر. 25 في المئة فقط من 1.3 مليار دولار تجبى كضرائب في غزة تبذر عمليا في المدينة. عندا اسأله من يحكم هنا في واقع الامر يجيب على الفور: “لا احد. للحقيقة اكثر مما ينبغي أن نسأل انفسنا من يحظى بتأييد اكبر في الشارع الغزي، من المنطقي ان نسأل من يواجه معارضة أقل. فالفلسطينيون، مثلما في كثير من الاماكن الاخرى، نقديون جدا تجاه حكومتهم ولهذا فان حماس تنال اليوم تأييدا اكبر في الضفة الغربية، حيث تحكم فتح، مما في غزة، حيث تحكم هي نفسها”. وفي الوقت الذي يتحدث فيه، على شاشة التلفزيون في الخلفية، القناة المحلية تبث استجداءات العائلات الفقيرة. وفي اسفل الشاشة يظهر رقم الهاتف والكلمات: “من يمكنه، فليساعد”.
وعلى حد قوله فان التغيير الذي مرت به حماس في السنوات الاخيرة، هو بالاساس في المجال الديني. “في البداية حرصت جدا على تنفيذ وفرض قوانين الشريعة”، يشرح ابو سعده. “شرطة حماس كانوا يمسكون النساء في الشارع، ليتأكدوا من أن الرجل الذي يمشي الى جانبهن هو الزوج، الاب، الابن او الاخ. كانوا يفتحون زجاجات الماء للمواطنين كي يتأكوا من أنها ليست فوتكا. كان هذا هو الفرق المركزي بين حماس الدينية وفتح العلمانية. اما اليوم فلم يعد احد يفرض هنا أي شيء.
“ما لا يزال يميز حماس عن فتح هو انعدام المرونة تجاه اسرائيل. ففتح تعتمد على الاسرة الدولية، على المحكمة الدولية في لاهاي، على الامم المتحدة، على المقاطعة الدولية. اما حماس فتعتمد على صواريخها. ولكن الصواريخ هي كل ما تبقى لها. والنتيجة الوحيدة لاطلاق الصواريخ هي طائرات اف 16 الاسرائيلية التي تقصف في غزة”.
ان التغيير الذي يتحدث عنه البروفيسور الغزي يمكن أن نلمسه في الشارع. بخلاف الماضي، نكاد لا نرى نساء يعتمرن الحجاب. وانا ايضا يمكنني أن اتجول دون أن اغطي شعري. هذا لا يعني أن غزة اصبحت ديمقراطية. فالسكان لا يزالون يخافون الحديث بشكل حر وانتقاد الحكم – ولكني كصحافية لم اشعر بان حماس تضيق على خطاي او تمنعني من لقاء الناس. وهم يعرفون انني اكتب لصحيفة اسرائيلية.
الحركتان، حماس وفتح، تنالان العطف في الشارع، ولكنهما تتعرضان ايضا لنقد شديد. بطبيعة الاحوال، فان النقد على حماس لا يزال حذرا ومبطنا، ولكنه موجود. وفي نهاية المطاف، فان السلطة الفلسطينية، بقيادة فتح، مسؤولة بقدر غير قليل عن الوضع الذي علق فيه سكان القطاع. فالسلطة هي التي اقتطعت رواتب الموظفين في القطاع، ولاحقا جمدت دفع الرواتب. كما أنها هي التي اوقفت الدفع لقاء الكهرباء التي تزودها اسرائيل لغزة. بضائع كثيرة مخصصة لغزة عالقة حاليا في مخازن في الضفة الغربية في مناطق السلطة.
ويشرحون لي في غزة بان ما فعله رئيس السلطة ابو مازن هو المحاولة الاكثر تطرفا لان يفرض على حماس التخلي عن الحكم واقامة حكومة وحدة فلسطينية، عمليا، وليس فقط على الورق. فنظريا اقيمت مثل حكومة الوحدة هذه، ولكن طالما لا يمكن للوزراء أن يتحركوا من رام الله الى غزة، وطالما كان يوجد لهم هنا قائم بالاعمال من جانب حماس. وحتى رئيس الوزراء الحمدالله تعرض في 13 اذار عند زيارة القطاع لعبوة ناسفة قرب قافلته بعد بضع دقائق من عبوره معبر ايرز. في المرة الاخيرة التي اجريت فيها انتخابات في القطاع كانت في 2006، عندما صعدت حماس الى الحكم. ويعتقد عصام حامد من منظمي مسيرة العودة بان لا معنى لانتخابات جديدة. ويقول: “افضل حكومة حكماء، مثلما في ايران. ذات مرة كنا الاكثر تعليما في الشرق الاوسط. اما الان فابناء العشرين يتجولون طوال النهار بلا عمل، ولا يقرأون شيئا. فلماذا يحتسب رأيهم كرأي بروفيسور في الجامعة؟”.
“عندنا حماس، التي لا تتحدث مع اسرائيل. وعندنا فتح، التي تنتظر ان تتحدث معها الاسرة الدولية. ولكن في غزة توجد حدودان، لا واحدة. مصر يمكنها أن تفتح لنا معبر رفح بشكل دائم وتحل كل شيء في غضون دقيقية. ولكن العالم العربي لا يهمه شيء بالنسبة لنا”. أما رأيه في السلطة الفلسطينية فيجمله بجملة واحدة: “كل واحد هناك يحاول أن يكون اغنى من الاخر”.
وفي الخلفية تحوم كل الوقت صورة محمد دحلان، احد المرشحين للحلول محل ابو مازن في اليوم التالي. دحلان هو من هناك، من مواليد مخيم خانيونس للاجئين، كان في الماضي رئيس الامن الوقائي للسلطة الفلسطينية ويعيش اليوم في اتحاد الامارات حيث يعمل ويجند التبرعات بالملايين وينتظر. “الكل هنا يكرهونه”، يقول لي احد سكان غزة. “الكل، باستثناء من يحول لهم المال لتمويل العلاجات الطبية، الغذاء والتعليم”.
لا الحرية، بل البقاء
باسم درويش، يكافح تقريبا كل حياته. كان أحد المخربين الذين اختطفوا سفينة اكيلا لاورا في 1985. قتلوا المسافر اليهودي الامريكي كلينغ هوفر والقوه في البحر. ويقول درويش “ولكن الان لم يعد للمقاومة المسلحة معنى”.
وعندما يتحدث عن المقاومة المسلحة فانه يقصد ايضا من يقصون السياج من المتظاهرين الفلسطينيين كي يجتازوا الحدود لاسرائيل. ويقول “كان علينا أن نصل الى الجدار، الى الحدود، وان نتوقف، تماما أن نتوقف ونبقى هناك. دون أن نتحرك. وان ننظر الى اسرائيل. فما المعنى من قطع السياج اذا كانوا سيطلقون النار عليك بعد ذلك؟ فهذا ما تريده اسرائيل، تصفيتنا. على المقاومة ان تلحق ضررا بالعدو. ولكننا بدلا من ذلك نلحق ضررا لانفسنا”.
برأي ابو سعده، ليس لحماس استراتيجية. ويقول: “في نهاية المطاف، لا توجد اي استراتيجية ممكنة. فبالنسبة لاسرائيل، وهذه الحقيقة، غزة عديمة كل قيمة، لا دينية، لا تاريخية، لا استراتيجية، ومع مليونين من سكانها العرب بلا قيمة اقتصادية ايضا. اسرائيل هدفها التخلص منا.
“الاستراتيجية الوحيدة هي الوحدة. لان الضفة الغربية هامة لاسرائيل حقا. مع الضفة اسرائيل ملزمة بالتفاوض”، يقول. وفي هذه الاثناء ينشر التلفزيون صورا لمسيرة تضامن تجري في رام الله. صور عادية هنا: عصي، غاز مسيل للدموع، دم. ولكن هذه ليست اسرائيل التي تستخدمها، بل شرطة السلطة الفلسطينية. وفي غزة ينظرون الى الصور ولا يجدون اي مواساة. “هذه هي المرحلة الاصعب”، يقول لي هنا الكثيرون. “ذات مرة كان الهدف هو الحرية. اما اليوم، فالبقاء فقط”.