شؤون إسرائيلية

وليد حباس يكتب –  من تعاونية “تنوفا” إلى تصدير “زراعة عبرية” إلى الضفة الغربية.. النيو ليبرالية تطال قطاع الزراعة في إسرائيل !

وليد حباس *- 23/8/2021

 في يوم 29 تموز 2021، خرج آلاف المزارعين الإسرائيليين إلى الشوارع للاحتجاج، وأغلقوا ثمانية مفترقات رئيسية في البلد. وبالإضافة إلى رفع يافطات تنديد، وإطلاق شعارات غاضبة، قام المزارعون بإتلاف مئات الأطنان من الخضروات والبيض.[1] ويقوم المزارعون بالاحتجاج ضد الإصلاح الزراعي الذي تدفع به الحكومة الإسرائيلية الجديدة بكل إصرار، والذي قد يشكل ضربة قاضية لقطاع الزراعة الإسرائيلي الذي يعتبر في المخيال الصهيوني عماد الاستيطان، والعودة إلى الأرض. على ما يبدو، السياق الذي بدأ في منتصف الثمانينيات وأحدث انعطافة من إسرائيل الاشتراكية نحو إسرائيل النيو ليبرالية لم يطل كل القطاعات بشكل متساوٍ، وظل قطاع الزراعة مستفيدا من سياسات حمائية تدافع عن المزارع الإسرائيلي من فوضى السوق المفتوحة والمضاربات الحرة. الآن، يكشف اليمين الإسرائيلي الجديد عن أنيابه النيو ليبرالية، ويسعى إلى خصخصة كل ما يمرّ تحت مقصلته، ابتداء من مجلس الحاخامات (الرابانوت)، هيئة الموافقة على الأكل الحلال (الكشروت) وصولا إلى قطاع الزراعة.

تركز هذه المقالة على الإصلاح الزراعي، وتقص بإيجاز التغيرات التي طرأت على الزراعة في إسرائيل منذ إقامة “تنوفا” وصولا إلى دق المسمار الأخير في نعش الأمن الزراعي الإسرائيلي، في محاولة لرصد الخاسرين والمستفيدين من الموجة الجديدة من سياسات النيو ليبرالية الإسرائيلية، بما في ذلك انعكاسها المتوقع على العلاقة مع الفلسطينيين.

تأسست جمعية “تنوفا” في العام 1926، كجمعية تعاونية تضم العديد من الكيبوتسات في فترة الييشوف بهدف تحييد قوانين السوق المفتوحة، وتركيز كل الإنتاج الزراعي والتسويق في جمعية واحدة. بدون إنشاء جمعية تنوفا (للإنتاج والتسويق الزراعي) وسوليل بونيه (للمقاولات) وهمشبير (للتوزيع بالجملة) وجمعية باصات إيغد (للنقل العام) وحفرات هعوفديم (كشركة أم لكل هذه الجمعيات) لما كان باستطاعة المستوطنين البقاء على الأرض وتحويل الاستيطان إلى مشروع مجد ورابح.[2] في فترة الييشوف، وفي السنوات الأولى لإقامة إسرائيل، شكلت تنوفا رافعة للزراعة الإسرائيلية ونجحت في تطوير الإنتاج الزراعي وتسويق كل المنتجات الزراعية “العبرية” حتى في ظل الحروب (الحرب العالمية الثانية، حرب العام 1948). وشكلت صمام أمان للمزارعين في أوقات الأزمات (خصوصا في السنوات الأولى للدولة). لكن الأهم، لعبت تنوفا دورا حاسما في محاربة الزراعة الفلسطينية وأخرجت من السوق آلاف المزارعين الفلسطينيين غير المنظمين الذي لم يقدروا على الصمود أمام جمعية استعمارية منظمة تركز عملية إنتاج وتسويق المنتجات الزراعية الأكثر حيوية. لكن تنوفا كجمعية تعاونية اشتراكية كانت وسيلة أساسية لإقامة الدولة، وليست عقيدة ثابتة لدى المشروع الاستعماري الذي كان منذ البداية ينظر بكل توق إلى إسرائيل المستقبلية كدولة رأسمالية حداثية. انتقلت تنوفا من تعاونية تضم حوالى 620 كيبوتسا، إلى شركة خاصة ربحية في النصف الثاني من الثمانينيات، ثم بيعت إلى شركة بريطانية في العام 2008 في مقابل مليار دولار. في العام 2014، باعت الشركة البريطانية أسهمها في تنوفا (حوالى 56%) إلى شركة صينية جانية أرباحاً تقدر بحوالى 7 مليارات دولار. ومع انهيار تنوفا كتعاونية تحمي الزراعة الإسرائيلية، وتحولها إلى شركة خاصة يملكها رأسمال أجنبي، قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالتدخل لحماية المزارعين الإسرائيليين وسد الثغرات التي خلفتها هذه النقلة النوعية. أحد أهم السياسات التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية منذ منتصف الثمانينيات، كانت سياسات حمائية تقليدية، تمثلت بوضع جمارك هائلة على الاستيراد الزراعي (خضار، فاكهة، لحوم، بيض… إلخ). وهدفت هذه السياسات المستمرة حتى اليوم إلى حماية المزارع الإسرائيلي وجعل المنتجات الزراعية العالمية (التي يمكن أن يتم استيرادها بأسعار زهيدة) أغلى بشكل ملموس من منتجات “أرض إسرائيل” بسبب حجم الجمارك والضرائب المفروض على الاستيراد. وعليه، ظلت الزراعة في إسرائيل مشروعاً مجدياً ولا يمكن منافستها من قبل الأسواق العالمية. [3]

أدت هذه السياسة إلى حماية المزارع الإسرائيلي من خطر العولمة، لكنها لم تحم المستهلك الإسرائيلي الذي يعاني من ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية. في إسرائيل، تعتبر أسعار المنتجات الزراعية للمستهلك النهائي أغلى بضعفين من أسعارها في دولة منظمة التعاون الاقتصادي OECD. بين العام 2012 والعام 2020، ارتفعت أسعار الخضار والفاكهة بحوالى 17%، وهي مستمرة في الارتفاع. والسبب هو وجود سلسلة طويلة من المنتفعين. [4] فإلى جانب المزارعين أنفسهم الذين يبذرون ويروون ويقطفون، هناك شركات تشتري المحصول بالجملة، ثم شركات أخرى توزع المحصول على المحال التجارية، بالإضافة إلى شركات نقل لوجيستي وغيرها. كل حلقة ضمن هذه السلسلة الطويلة التي تشمل شركات احتكارية “تقضم” قطعة من الأرباح إلى أن تصل السلعة النهائية إلى المستهلك بأسعار عالية نسبيا. هذه السلسلة هي نتاج سياسات النيو ليبرالية التي أطلقت العنان لآليات السوق المفتوحة والمنافسة لدرجة أنه أصبح من الصعب جدا “تقليم أظافر” هذه البنية المعقدة على الرغم من انتقاد مراقب الدولة لأسعار المنتجات الزراعية العالية.

لكن المزارع الإسرائيلي الذي كان محمياً حكومياً بفضل السياسات الحمائية، واعتقد أنه الحلقة الأضعف في هذه البنية، يجد نفسه اليوم الضحية الأولى في مساعي الحكومة الإسرائيلية لوضع حد لأسعار الخضار والفاكهة العالية. يأتي الإصلاح الزراعي الذي تقترحه وزارة المالية الإسرائيلية (برئاسة أفيغدور ليبرمان من “إسرائيل بيتنا”) ووزارة الزراعة (برئاسة عوديد فورر أيضا من “إسرائيل بيتنا”) كجزء من قانون التسويات الاقتصادية المرافق لمشروع الموازنة (أو ما يسمى بـ”قانون ههسدريم”) والذي منذ العام 1985 يحاول إدخال إصلاحات اقتصادية تدفع نحو النيو الليبرالية والخصخصة. لكن رفع الجمارك العالية عن استيراد المنتجات الزراعية قد يؤول في النهاية إلى إنهاء الزراعة في إسرائيل وتحويلها إلى مهنة غير مجدية، وإغراق السوق بمنتجات رخيصة “غير عبرية”. ثمة آراء متضاربة حول ما إذا كان الإصلاح الزراعي سيخفض الأسعار أم لا. فالجميع متفق على أن الإصلاح قد يضر بالمزارع الإسرائيلي، وبمشاريع كبرى تقوم عليها الكيبوتسات والموشافيم في إسرائيل اليوم، لكن قد لا يتفق الجميع حول ما إذا كانت حرية الاستيراد والمنافسة الشرسة التي ستنطلق في أثناء الشروع بالاستيراد لتغطية حاجات السوق قد تؤول بالفعل إلى تخفيض الأسعار.

في كل الحالات، ثمة انعكاسات لهذا الإصلاح على العلاقات الاقتصادية ما بين الضفة الغربية وإسرائيل، ولا بد من استشراف بعضها:

أولا: في العام 2019، كان هناك حوالى 79 ألف عامل أجير في قطاع الزراعة في إسرائيل موزعين ما بين الزراعة، الري، القطف والاعتناء بالمحصول. العمال موزعون كالتالي: 48% (أو 38 ألفاً) عمال إسرائيليون يصل معدل أجرهم الشهري إلى حوالى 6470 شيكلا. بالإضافة إلى 31% (أو 24.6 ألف عامل أجنبي) يصل معدل أجرهم الشهري إلى حوالى 6600 شيكل. ثم هناك حوالى 21% (أو 16.6 ألف) عامل فلسطيني من الضفة الغربية، يصل أجرهم الشهري إلى حوالى 3700 شيكل فقط. [5] إن فتح السوق الإسرائيلية على مصراعيها لاستيراد المنتجات الزراعية الرخيصة من السوق العالمية، قد يدفع المزارعين الإسرائيليين إلى الدفاع عن مزارعهم من خلال تقليل النفقات قدر الإمكان. هذا يعني على المدى المتوسط استبدال كل العاملين في الزراعة بعمال فلسطينيين. بل إن تحويل قطاع الزراعة إلى قطاع جاذب للفلسطينيين من خلال رفع الطلب على العمالة بشكل كبير قد يدفع إلى تقليل أجرة العمال الفلسطينيين في الزراعة والذين قد يرتفع عددهم خلال سنوات من 16.6 ألف إلى حوالى 70 ألفا. هذا يعني أن الاقتصاد الفلسطيني يتأثر بشكل مباشر من الإصلاحات النيو ليبرالية في إسرائيل والتي قد تعمق تبعية سوق العمل الفلسطيني.

ثانيا: العلاقة الاقتصادية الزراعية ما بين الضفة الغربية وإسرائيل تقوم على المعادلة التالية: إسرائيل تصدر إلى الفلسطينيين الفاكهة بينما يصدر الفلسطينيون لإسرائيل الخضار. ثمة اعتماد متبادل بين الطرفين، وإن كان اعتمادا متبادلا غير متكافئ. وإن تخفيض سعر إنتاج المنتجات الزراعية، خصوصا الفاكهة، قد يعني أيضا تحويل زراعة الفاكهة الإسرائيلية إلى مناطق الضفة الغربية من خلال آليات التعاقد من الباطن. منذ سنوات قليلة، نفذت الإدارة المدنية بالتعاون مع صندوق التعاون الاقتصادي في إسرائيل تجارب محدودة (pilot) على مثل هذا التعاقد من الباطن، عندما منحت مزارعين فلسطينيين بذورا، وأسمدة، ومياها وتسهيلات معرفية (know-how technology) لزراعة الأناناس والأفوكادو والتوت وتربية الأسماك في أراض فلسطينية داخل الضفة الغربية، ثم قامت إسرائيل بشرائها أو تسويقها. [6] والإصلاح الزراعي المرتقب قد يدفع بهذا النوع من التعاقد من الباطن إلى الأمام، ويحول الضفة الغربية إلى “حديقة خلفية” لإسرائيل وإلى جزء أساس من أمنها الغذائي.

يبدو أن الحكومة الإسرائيلية ماضية قدما في هذا الإصلاح الزراعي تحت مسوغ واحد يحظى بشعبية في الشارع وهو: حماية المستهلك من جشع السوق. في الخلفية، فإن الإصلاح يقع في صلب العقيدة النيو ليبرالية التي يتبناها معظم أحزاب الائتلاف اليميني مثل يمينا، “إسرائيل بيتنا”، “أزرق أبيض”، “أمل جديد” و”يوجد مستقبل”. ولا بد من الانتباه إلى أن الأجندة اليمينية المتطرفة التي تتبناها هذه الأحزاب (باستثناء “أزرق أبيض” و”يوجد مستقبل” اللذين يعتبران من أحزاب الوسط لكن نيو ليبرالية) تنطوي على جانبين أساسيين: من جهة، الدفع باتجاه المزيد من الشوفينية والفوقية اليهودية في المجال السياسي. ومن جهة أخرى تبني سياسات السوق المفتوحة والدفع باتجاه خصخصات غير مقننة في المجال الاقتصادي. وكلا الجانبين له تبعات كبرى على العلاقة ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

* عن مركز مدار – المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلي “مدار”.

الهوامش :

  1. موشيه كوهين، مزارعون يحتجون على الإصلاح المتعلق بالاستيراد: من المستحيل إنهاء الزراعة في إسرائيل، معاريف، 29 تموز 2021. أنظر الرابط التالي: https://www.maariv.co.il/news/israel/Article-856021
  2. وليد حباس، السياسات الاقتصادية للهستدروت بين 1920-1948 (رسالة ماجستير غير منشورة، بير زيت، جامعة بيرزيت، 2018) 
  3. غاي فارون، الثورة الزراعية، بودكاست N12. 26 تموز 2021. أنظر الرابط التالي: https://apple.co/2WhbCWt
  4. عيدن إيرتس، أسعار الفاكهة والخضار في إسرائيل في ارتفاع مستمر، هذه هي الأسباب، غلوبس، 30 تموز 2021. على الرابط التالي: https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001380036
  5. الكنيست، القطاع الزراعي: الفرص والتحديات (القدس: الناطق الإعلامي للكنيست، 2020) أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3y7PCtY
  6. راجع عدد “المشهد الإسرائيلي” من 8 آذار 2021، على الرابط التالي: https://bit.ly/3847489

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى