المفاوضات

هل يثبت التطبيع العربي أن “صفقة القرن” باتت سقفا أميركيا وإسرائيليا لأية مفاوضات ؟

خلدون البرغوثي – 21/9/2020

مع توقيع الإمارات على اتفاق السلام أو التطبيع، والبحرين على إعلان السلام مع إسرائيل ستترتب -غالبا- على هاتين الخطوتين وما قد تليهما من خطوات متوقعة مشابهة من قبل دول عربية وإسلامية، وقائع على الأرض ووقائع سياسية سيكون من الصعب، وربما من شبه المستحيل، الرجوع بها إلى الوراء أو التراجع عنها، وتثير هذه الوقائع تحديات أمام المقاربة الفلسطينية للصراع مع الاحتلال وتحالفاته. يمكن وضع هذه الوقائع في أربعة سياقات: أميركي، وإسرائيلي، وعربي- إسلامي، وفلسطيني، لكن جوهرها قد يكون تثبيت خطة ترامب للسلام أو “صفقة القرن” سقفا لأية مفاوضات سلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير.

نقطة تحول!

منذ دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رئيسا، كان توجهه واضحا لفرض معادلة جديدة، ستبقى تبعاتها قائمة على الأرض، وفي الواقع السياسي، برغم الفشل في تحقيق القبول الفلسطيني لها.

وقد يكون مقطع فيديو مزور من ضمن العوامل التي ساهمت في جعل هذه المعادلة منحازة تماما لصالح إسرائيل، وتغيير قناعة عبر عنها ترامب سابقا بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هو العقبة الحقيقية أمام إمكانية تحقيق السلام، فحسب كتاب جديد للصحافي المخضرم بوب وودوارد بعنوان “الغضب”، قدم نتنياهو إلى ترامب مقطع فيديو يشير مضمونه إلى أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يدعو إلى قتل الأطفال. هذه المعلومة نشرتها صحيفة “الإندبندنت” البريطانية ضمن ما قالت إنها مقاطع من الكتاب، تشير إلى أن نتنياهو عرض الفيديو أمام الرئيس الأميركي خلال زيارة ترامب الأولى لإسرائيل في أيار 2017 وقال له: “هل هذا هو الشخص الذي تريد مساعدته؟”.

ورغم ان وزير الخارجية الأميركي حينئذ ريكس تيلرسون قال لترامب بعد خروج نتنياهو من الغرفة حيث عرض الفيديو إنه “من الواضح أن الفيديو مزور”، إلا أن ترامب رد “ليس مزورا أن الرجل [عباس] مصور على فيديو”. وتبنى موقفا سلبيا ضد الرئيس الفلسطيني، واصطدم معه خلال لقائهما في اجتماع ثنائي في مدينة بيت لحم في أثناء زيارة ترامب ذاتها للمنطقة.

ومعروف عن الصحفي وودوارد مؤلف الكتاب أنه شارك العام 1972 في الكشف عن “فضيحة ووترغيت” التي أدت إلى استقالة الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون من منصبه ومحاكمته.

وقائع مفروضة!

نقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس بات أمرا واقعا لا تراجع عنه بالنسبة للإدارات الأميركية المقبلة. وهذا ما أكده مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية جو بايدن، في خطاب خلال فعالية جمع تبرعات لحملته الانتخابية بتاريخ 30 نيسان 2020 حين قال إن “نقل السفارة كان يجب أن يكون ضمن سياق صفقة أكبر تساعدنا في تحقيق تنازلات من أجل السلام، لكن وبما الخطوة أنجزت، فإنني لن أعيد السفارة إلى تل أبيب”.

ومهد لهذه الخطوة بالطبع اعتراف ترامب بأن القدس ستبقى “عاصمة موحدة” لإسرائيل، خلال المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عن تفاصيل “صفقة القرن”، ووضعها كأساس نهائي لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.

لكن، في ثنايا خطاب ترامب الذي أعلن فيه عن “خطة السلام” في 28 كانون الثاني 2020، كان واضحا أن هذه الخطة ليست أميركية بحتة، بل تمت صياغتها إسرائيليا وأميركيا لتلبي الرغبات الإسرائيلية، فإسرائيل شريك في رسم خريطة الضم (حدود الدولة الفلسطينية)، عبر لجنة أميركية- إسرائيلية مشتركة مكلفة بذلك. كذلك أشار نتنياهو نفسه في مؤتمر صحافي بتاريخ 13 آب 2020 إلى أن بند الضم أدرج في “صفقة القرن” بطلب منه، في رده على ادعاء الإمارات أنها تمكنت من إلغاء الضم عبر اتفاق السلام مع إسرائيل. وقال نتنياهو إن ترامب طلب تأجيل [وليس إلغاء] تنفيذ الضم حتى يتم التوصل لاتفاق السلام بين تل أبيب وأبو ظبي.

التجربة التاريخية أثبتت أن الإدارات الأميركية لا تستطيع توجيه ضغط حقيقي على إسرائيل لإلزامها بحل حقيقي للصراع في الشرق الأوسط، فعندما فشل بيل كلينتون في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، وجه هو وإسرائيل اللوم إلى القيادة الفلسطينية رغم ثبوت مسؤولية إسرائيل عن إفشال المفاوضات. كما وجد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما نفسه في مواجهة نتنياهو من على منصة الكونغرس “الجمهوري”، عندما وقعت إدارته الاتفاق النووي الدولي مع إيران، ثم امتنع عن استخدام الفيتو ضد قرار مجلس الأمن المدين للاستيطان.

سبق ذلك الانحياز الأميركي التام ضد ياسر عرفات واعتباره “غير ذي صلة”، وحصاره سياسيا بقرار أميركي، وعسكريا بتنفيذ إسرائيلي في رام الله حتى وفاته العام 2004.

بهذا، يُطرح السؤال: هل باتت “صفقة القرن” أعلى سقف يمكن أن تطرحه الإدارات الأميركية المقبلة على الفلسطينيين؟

إسرائيليا

“صفقة القرن” المتوافق عليها بين ترامب ونتنياهو ستصبح أيضا السقف الإسرائيلي المستقبلي لأي حل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. فنتنياهو الذي شارك في صياغتها لن يقبل بغيرها. وأكد ذلك أمام ترامب في حفل إعلان “صفقة القرن” في البيت الأبيض، في 28 كانون الثاني الماضي، حسب النص الحرفي لخطاب نتنياهو الذي نشره البيت الأبيض على صفحته الإلكترونية، وقال فيه “لأنني أؤمن أن هذه الخطة تحقق التوازن الصحيح الذي فشلت في تحقيقه خطط أخرى، فقد وافقت على إجراء مفاوضات سلام مع الفلسطينيين على أساس خطتك للسلام”. وسبق هذا الاقتباس شكر نتنياهو لترامب لأن خطته تعترف بسيادة إسرائيل في غور الأردن وكافة المستوطنات كبيرها وصغيرها، وكافة المواقع التي “صلى فيها آباء اليهود” في “يهودا والسامرة”.

بيني غانتس – الذي كان مرشحا في مرحلة ما لقيادة إسرائيل قبل انبطاحه أمام نتنياهو- تبنى “صفقة القرن” أيضا بكافة بنودها ودون أي تحفظ. وقال بعد لقائه الرئيس الأميركي في واشنطن في 27 كانون الثاني الماضي وحتى قبل الإعلان عن تفاصيل “صفقة القرن” “إنه سيعمل على تنفيذها” في حالة فوزه برئاسة الحكومة، حسبما نقلت عنه صحيفة “معاريف”، وأكد ذلك بعد شهر تقريبا، في حديث لإذاعة “ريشت بيت” قائلا: “الفرق بيني وبين نتنياهو أنني سأنفذ خطة ترامب، أما نتنياهو فهو يتلاعب بالخطة”.

وفي ظل الخريطة الحزبية في الكنيست الراجحة لصالح اليمين في أية انتخابات مقبلة، حسب استطلاعات الرأي العام المختلفة، تشكل “صفقة القرن” أعلى سقف يمكن أن تطرحه إسرائيل.

رغم ذلك تجب الإشارة إلى أن قسما من المستوطنين يرفضونها لأنها تتضمن إقامة “دولة فلسطينية”. وهذا الموقف يتبناه دافيد الحياني، رئيس ما يسمى “مجلس مستوطنات يهودا والسامرة (يشع)”، الذي قال لموقع “واينت” التابع لصحيفة “يديعوت أحرونوت” في شهر أيار الماضي “إن واشنطن تحاول استخدام دعمها للضم لإجبار إسرائيل على الموافقة على قيام دولة فلسطينية”، فيما قال يوسي داغان، رئيس ما يسمى “مجلس السامرة الإقليمي”: “لن نوافق على إقامة دولة فلسطينية كجزء من عملية السيادة [الضم]. فالسيادة مهمة لأمن إسرائيل، لكنها لا تستحق إلحاق الضرر حتى بسنتيمتر واحد من دولة إسرائيل وإقامة دولة إرهابية في قلب البلاد”، كما نقل عنه موقع “تايمز أوف إزرائيل”.

ولم يتمكن نتنياهو من إقناع قادة المستوطنين المعارضين لإقامة دولة فلسطينية بقبول “صفقة القرن” رغم أنه أكد لهم أن الدولة الفلسطينية حسب تلك الصفقة ستكون “كيانا ما” قد يسميه البعض دولة، كما أنها ستكون مقيدة جدا، حسبما نقل عنه “تايمز أوف إزرائيل”.

عربيا- إسلاميا

ثبّت نتنياهو واقعين جديدين على المستويين العربي والإسلامي باتفاقيتي السلام مع الإمارات والبحرين، هما:

أولا، ما تسمى “عقيدة نتنياهو” – “السلام مقابل السلام”. وهو بذلك تجاوز الشرط التاريخي بالتنازل عن “أرض” مقابل تحقيق السلام. لذلك، منحته اتفاقيتا التطبيع الدعم الصريح لمواصلة سياسات إسرائيل الاستيطانية، وصولا إلى الضم، بالرغم من ادعاءات الإمارات أنها باتفاقية السلام أوقفت الضم.

فقد تبين بعد عرض بنود اتفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل خلوها تماما من الإشارة إلى وقف الضم.

وجاء ذكر القضية الفلسطينية في نص “اتفاق أبراهام” الرسمي باللغة الإنكليزية الذي نشره البيت الأبيض على موقعه الرسمي في البندين التاليين:

– “استذكارهما الحفل الذي أقيم في 28 كانون الثاني 2020 حيث قدّم الرئيس ترامب رؤيته للسلام، والتزامهما بمواصلة الجهود للتوصل إلى حل عادل وشامل وواقعي ودائم للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني”.

– “استذكارهما معاهدات السلام بين دولة إسرائيل وجمهورية مصر العربية، وبين دولة إسرائيل والمملكة الهاشمية الأردنية، والتزامهما العمل معاً على التفاوض للتوصل إلى حل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني يلبي احتياجات وتطلعات الشعبين، والعمل على التوصل إلى سلام واستقرار وازدهار شامل في الشرق الأوسط…”.

ورغم أن وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد تطرق في خطابه في البيت الأبيض إلى القضية الفلسطينية بشكر نتنياهو “على وقف ضم الأراضي الفلسطينية”، وبقوله إن “هذه المعاهدة ستمكننا من الوقوف أكثر إلى جانب الشعب الفلسطيني، وتحقيق آماله في دولة مستقلة ضمن منطقة مستقرة مزدهرة”، إلا أنه ناقض نفسه تماما، عبر الإشارة إلى “رؤية ترامب للسلام” التي تتضمن ضم الأراضي الفلسطينية في البند الأول أعلاه.

تلاحظ أيضا الإشارة إلى اتفاقيتي السلام المصرية والأردنية مع إسرائيل، وإسقاط ذكر اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والتي كان يفترض أن تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية.

الأمر ذاته ينطبق على إعلان التطبيع البحريني- الإسرائيلي، فبحسب النسخة الرسمية الإنكليزية المنشورة على موقع البيت الأبيض للإعلان، تم التطرق للقضية الفلسطينية في فقرة واحدة هذا نصها:

– “ناقش الطرفان التزامهما المشترك بالدفع قدماً بالسلام والأمن في الشرق الأوسط، مؤكدين على أهمية تبني رؤية مبادئ إبراهيم وتوسيع دائرة السلام، والاعتراف بحق كل دولة في السيادة والعيش في سلام وأمن، ومواصلة الجهود للوصول إلى حل عادل وشامل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.

ولم يتطرق النص الرسمي لحل الدولتين هنا أيضا، فيما قال وزير الخارجية البحريني عبد اللطيف بن راشد الزياني في مراسم التوقيع على إعلان تأييد السلام إن “حل الدولتين العادل والشامل هو أساس إنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والوصول إلى السلام”.

لكن الاتفاقيات الدولية يتم التعامل معها بنصها، وليس بالخطابات في مراسم التوقيع.

وتؤكد النصوص الرسمية أعلاه ما قاله نتنياهو في مقاطع فيديو وتغريدات نشرها على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة به بأن خطة الضم لم تزح عن الطاولة، وأنه مصر على تنفيذها، وأن تأجيلها جاء بطلب من ترامب فقط حتى يتم توقيع الاتفاق مع الإمارات، وجاءت تصريحات نتنياهو تلك ردا على الادعاءات الإماراتية بأنها بالتوصل لاتفاق سلام مع إسرائيل تمكنت من الغاء خطة الضم في الضفة.

وهذا ما أكده مجددا نتنياهو في خطابه في المراسم ذاتها، فلم يشر إلى القضية الفلسطينية إلا في إطار شكره لترامب لطرحه “رؤية واقعية للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين”، في إشارة بالطبع إلى “صفقة القرن”، في تأكيد جديد منه على تبنيها، خاصة بند ضم الأراضي الفلسطينية.

ثانيا: تحقيق التطبيع مع بعض الدول العربية والإسلامية قبل – وحتى من دون اشتراط- حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وهذا قد يقضي – إن لم يكن قد قضى- على السقف الفلسطيني، المتمثل بمبادرة السلام العربية، المرفوضة إسرائيليا أصلا.

ويؤكد ذلك انقسام الموقف العربي في جامعة الدول العربية من القضية الفلسطينية، الذي تمثل في إسقاط أي مقترح فلسطيني لإدانة التطبيع، وحتى في إسقاط مقترح فلسطيني بديل للحفاظ على الإجماع العربي على المبادرة العربية. وسيكون انخراط السعودية – الصامتة عن وأد مبادرتها للسلام مع إسرائيل، بالتطبيع الإماراتي والبحريني وفي الجامعة العربية-، في اتفاق تطبيع رسمي مع إسرائيل، كما هو متوقع، بمثابة ضربة قاصمة للموقف الفلسطيني.

وفي أكثر من منشور على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة به، سعى نتنياهو إلى تأكيد نجاحه وحتى التفاخر بأن “عقيدته” كسرت فكرة تحقيق السلام مع الفلسطينيين كمدخل للتطبيع مع باقي الدول العربية والإسلامية، وقلبت هذه المعادلة.

فلسطينيا

الواقع أو الوقائع الجديدة تضع الفلسطينيين أمام مقاربة مختلفة في التعامل مع “العمق العربي الرسمي”، الذي بات عبئا وتحديا تواجهه فلسطين، وتستقوي به إسرائيل.

وتقتضي هذه المقاربة إعادة النظر في كافة الجوانب المتعلقة بالأداء السياسي الفلسطيني، داخليا، عبر بناء النظام السياسي الفلسطيني، والتوافق على استراتيجية موحدة، وخارجيا، ربما بتغيير خريطة التحالفات الإقليمية والدولية من ناحية، ومن الناحية الثانية تفعيل الجهد الدبلوماسي لمواجهة الخسارات المتتالية للدبلوماسية الفلسطينية عالميا في آسيا (الهند والصين في تقارب سياسي واقتصادي وأمني مع إسرائيل) وفي أوروبا (آخرها كوسوفو مثلا، التي ألقى ترامب سفارتها في القدس ورئيسها كالتلميذ أمامه)، وفي أفريقيا، وأميركا اللاتينية، فضلا عن الضربات العربية الأخيرة.

كما يتوجب تكثيف الجهد على مستوى القانون الدولي خاصة في المحكمة الجنائية الدولية، كونها إحدى أهم أوراق الضغط على إسرائيل حاليا، ويمكن القول إن تأجيل حكومة نتنياهو تنفيذ قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بإخلاء “الخان الأحمر” من سكانه الفلسطينيين بسبب الخوف من رد فعل المحكمة الجنائية الدولية، هو مؤشر على ضرورة تعزيز العمل الفلسطيني في هذا الإطار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى