هل تستطيع أوروبا إدامة لحظة ماكرون؟
كارل بيلت* – ستوكهولم – 23/12/2017
في بداية العام 2017، تحول احتمال انهيار المشروع الأوروبي في العام الموالي إلى حالة هلع بالنسبة للكثيرين. فقد قررت المملكة المتحدة مغادرة الاتحاد الأوروبي، وانتخبت الولايات المتحدة رئيسا يدعم البريكسيت، وشكل الشعبويون في الانتخابات الفرنسية والألمانية خطرا واضحا على التكامل الأوروبي.
والآن، أصبحنا نقترب من بداية العام 2018، لكن الصورة تبدو مختلفة للغاية. لم ينج المشروع الأوروبي فحسب، بل بدأ يكتسب قوة جديدة. على الأقل يشعر المرء بثقة جديدة مع مشروع مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
يقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قلب هذا التحول أكثر من أي شخص آخر. وكان خطاب النصر الذي ألقاه الرئيس بعد الانتخابات في أيار (مايو) مصحوباً بالنشيد الأوروبي “نشيد الفرح” لبيتهوفن –في التفاتة رمزية قوية. ومنذ ذلك الحين، أطلق ماكرون مبادرة تلو الأخرى لتعزيز مؤسسات الاتحاد الأوروبي، في حين تولى قيادة السياسة الخارجية الأوروبية. وفي الوقت الذي تكافح فيه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتشكيل حكومة بعد الانتخابات العامة في أيلول (سبتمبر)، أصبحت كل الأنظار الآن موجهة نحو ماكرون.
تأثرت الحالة المزاجية المتغيرة في أوروبا خلال العام الماضي بثلاثة عوامل على وجه الخصوص. العامل الأول هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يسبب المشاكل للبريطانيين -ويجعل معظم الأوروبيين يدركون مدى ترابط اقتصاداتهم ومجتمعاتهم. وقد أصبح بلد بريطانيا العظمى المجيد الآن في حالة من الصراع السياسي، في الوقت الذي يحاول فيه حل مشاكل السياسات والاقتصاد واللوجستيات الناجمة عن مغادرة الكتلة. ومن غير المحتمل أن يحسد الناخبون في الدول الأعضاء الأخرى التجربة البريطانية.
العامل الثاني هو دونالد ترامب، الذي تتمتع إدارته الأميركية بمكانة أقل في أوروبا من أي إدارة أميركية في التاريخ. وبحسب استطلاع حديث للرأي، فإن الألمان يعتبرون أن ترامب يشكل تهديداً أكبر على مصالح بلادهم في الخارج من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو الديكتاتور الكوري الشمالي كيم جونغ-أون. وفي سباق تنافسي حقيقي، يكون ترامب على رأس القائمة.
خلال العام الماضي، سلم القادة الأوروبيون بصحة أنه على أوروبا أن تتحمل المزيد من المسؤولية عن شؤونها. وبعد لقاء شاق مع ترامب في قمة مجموعة السبعة في إيطاليا في أيار (مايو)، لخصت ميركل المشاعر التي يتقاسمها معظم القادة الأوروبيين الآخرين الآن، فقالت بحماس: “يجب علينا نحن الأوروبيون أن نناضل من أجل مستقبلنا ومصيرنا”. وأضافت: “نحن الأوروبيون يجب أن نحدد مصيرنا بأنفسنا”.
يتمثل العامل الثالث في روسيا بوتين، حيث واصلت التدخل في الانتخابات الغربية والتصرف بعدوانية في أوكرانيا. ويعتقد الكل أن، “تأثير ثلاثي -بريكسيت، ترامب، وبوتين- أقنع حتى الأوروبيين المتشككين بأن التعاون على مستوى الاتحاد الأوروبي شيء ضروري.
ولكن، بالإضافة إلى قوة تأثير بريكسيت وترامب وبوتين، فإن أوروبا يدعمها نمو اقتصادي أقوى. فقد بدأت الأيام المظلمة لأزمة اليورو بالتلاشي من الذاكرة، كما تلاشت أزمة اللاجئين التي شهدناها أواخر العام 2015، والتي كان لها تأثير سياسي عميق على ألمانيا والسويد وبلدان أخرى. وعلى الرغم من أن المهمة الصعبة المتمثلة في تعميق التكامل بين الاتحاد الأوروبي ما تزال غير مكتملة، فإن الظروف السياسية والاقتصادية اللازمة لتحقيق هذه المهمة قد تحسنت.
في الوقت نفسه، ظهر الاتحاد الأوروبي فجأة كحافظ للنظام العالمي الليبرالي. ففي أيلول (سبتمبر)، دخلت الاتفاقية الاقتصادية والتجارية الشاملة (CETA) بين الاتحاد الأوروبي وكندا حيز التنفيذ. ومنذ ذلك الحين، اقترب الاتحاد الأوروبي من وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق تجاري أكثر أهمية مع اليابان، وبشكل منفصل مع البلدان المؤسسة للميركوسور -الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وأوروغواي. وقد تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي، لكن بقية العالم ما تزال ترغب في عقد صفقات معه.
مع ذلك، ليس هناك شعور بالرضا. وعلى الرغم من التطورات الإيجابية العديدة، أصبحت الحوكمة أكثر تعقيداً في بعض البلدان الأوروبية بسبب الوضع السياسي المتدني على نحو متزايد. وفي ألمانيا، كان تشكيل حكومة جديدة عادة بعد الانتخابات مسألة سهلة. أما الآن، فلا يُحتمل تشكيل حكومة مؤقتة في البلاد حتى شهر آذار (مارس)، مع غياب المعلومات حول الحكومة التي سيتم تشكيلها. وفي هذه الأثناء، لا تستطيع ألمانيا أن تلعب دورها المعتاد كمرساة للاستقرار في أوروبا.
وتحتل القومية في الأراضي الدانوبية للمجر والنمسا وبافاريا، مكانة مهمة. وفي إيطاليا، لن يجرؤ سوى القليلون على عرض أي توقعات حول ما سيحدث في الانتخابات العامة المقبلة، والتي يجب أن تعقد قبل 20 أيار (مايو) 2018.
وعلاوة على ذلك، لا يمكن للأوروبيين الاعتماد إلى أجل غير مسمى على أسعار الفائدة المنخفضة التي ساهمت في الانتعاش الحالي. وسيتعين على قادة الاتحاد الأوروبي دعم الإصلاحات الهيكلية أكثر من السابق. وعلى الرغم من أن إسبانيا قد أعادت إحياء اقتصادها بإصلاحات هامة، وأن ماكرون حل مشكلة قانون العمل البيزنطي الشهير في فرنسا، فإن الاتحاد الأوروبي ما يزال يكافح على العديد من الجبهات. فعلى سبيل المثال، على الرغم من الجهود الاستباقية والبطولية التي تبذلها إستونيا لوضع جدول أعمال للإصلاح الرقمي خلال رئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي، ما يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله في هذا المجال.
سوف تكون السنة القادمة الفرصة الأخيرة لمتابعة الإصلاحات على مستوى الاتحاد الأوروبي قبل أن تبدأ السنة المصيرية لتصفية الحساب. في آذار (مارس) 2019، ستغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي، مع أو من دون اتفاق الانفصال. ثم، في أيار (مايو)، ستأتي انتخابات البرلمان الأوروبي، وسيتم تعيين قادة جدد للمؤسسات الأساسية للاتحاد الأوروبي. وقبل أن نعرف ذلك، ستنتهي رئاسة جان كلود جونكر للمفوضية الأوروبية.
كما ينتظر ماكرون بفارغ الصبر حكومة جديدة في برلين. وكما هو الحال، ليس من الواضح أن الائتلاف الألماني القادم سيدعم أجندة إصلاح الاتحاد الأوروبي. ومع مرور الأيام، لن يتبقى لدى المفوضية الأوروبية الوقت الكافي لمتابعة أي مبادرات جديدة يمكن اٍنجازها بشكل واقعي قبل العام 2019.
في حين شهدت الأزمات منذ العام 2016 تراجعاً ملحوظاً، فإنها يمكن أن تعود بسهولة. وسيتطلب الحفاظ على التقدم الذي حققته انتخابات ماكرون في فرنسا وتحقيق الوعد الذي التزم به، اتخاذ إجراءات حاسمة في الأشهر المقبلة.
*كان وزير خارجية السويد من 2006 إلى 2014 ورئيس الوزراء من 1991 إلى 1994، عندما تفاوض على انضمام السويد إلى الاتحاد الأوروبي. وهو دبلوماسي دولي شهير، عمل مبعوثاً خاصاً للاتحاد الأوروبي إلى يوغوسلافيا السابقة، والممثل السامي للبوسنة والهرسك، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى البلقان، والرئيس المشارك لمؤتمر دايتون للسلام. وهو رئيس اللجنة العالمية المعنية بإدارة الإنترنت وعضو في مجلس الأجندة العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي المعني بأوروبا.
*خاص بـ‘‘الغد‘‘، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”.