أقلام وأراء

هشام ملحم يكتب – وحده في لبنان : طبقة سياسية مفترسة تهدد وجود الجيش

هشام ملحم *- 22/6/2021

منذ أربعينات القرن الماضي، قامت جيوش عربية بقيادة ضباط لهم طموحات جامحة بانقلابات عسكرية قوضت الأنظمة السياسية في دول مثل سوريا ومصر والعراق، ولاحقا  اليمن والجزائر وليبيا ووضعت هذه الدول على طريق القمع السياسي والإخفاق الاقتصادي وتسببت بثورات مضادة وحروب أهلية وإقليمية هدرت ثروات هذه الدول وأوصلت بعضها إلى حافة التفكك والانهيار، وأثارت الشكوك والاسئلة حول جدواها كدول قادرة على البقاء على قيد الحياة.  

ما نراه اليوم في لبنان مخالف لهذا النمط العربي الموجود منذ أكثر من سبعين سنة. في لبنان هناك طبقة سياسية أوليغارشية وطائفية مفترسة وفاسدة ومافياوية بامتياز، أوصلت البلاد عبر عشرات السنين، ولكن تحديدا في السنتين الماضيتين الى انهيار اقتصادي نادرا ما شهدته دولة في العصر الحديث، حيث انهارت قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 90 بالمئة مقابل الدولار في السوق السوداء، وأصبح أكثر من نصف الشعب اللبناني تحت خط الفقر.

وللمرة الأولى في تاريخه الذي يعود لأكثر من 75 سنة، يجد الجيش اللبناني نفسه مهددا بوجوده من قبل هذه الطبقة السياسية اللبنانية التي حرمت الجنود ليس فقط من المواد الطبية والوقود وغيرها من المواد الاساسية التي يحتاجها أي جيش،  ولكنها حرمتهم حتى من أكل اللحوم في وجباتهم اليومية، وأرغمتهم على السعي لوظائف ثانية وثالثة لتوفير الحد الأدنى من الغذاء لعائلاتهم. بمعنى آخر، هذا أول نظام سياسي في دولة في منطقة الشرق الاوسط يعمل على تقويض المؤسسة الوحيدة الوطنية التي كانت  توفر الحد الادنى من الامن في البلاد، والتي تمثل في صفوفها مختلف أطياف الشعب اللبناني.

القوات اللبنانية المسلحة لم تسلم كليا من آفات المجتمع اللبناني وانقساماته وولاءاته المذهبية والطائفية والسياسية، وهذا غير مستغرب لأنها جزء من التركيبة الاجتماعية اللبنانية. ولكن بعد انقسام الجيش وفقا للاستقطابات الطائفية خلال السنوات الأولى للحرب الأهلية، أعاد توحيد صفوفه بشكل أفضل نسبيا. وأظهرت التجربة المّرة لسنوات الحرب الأولى بين اللبنانيين أنفسهم وبين اللبنانيين والتنظيمات الفلسطينية المسلحة، أن انهيار القوات اللبنانية المسلحة، على الرغم من مشاكلها البنيوية، وتعرضها للنفوذ المؤذي للسياسيين اللبنانيين وخاصة نفوذ وضغوط حزب الله، سيؤدي إلى انهيار المجتمع اللبناني الى حرب داخلية جديدة قد تقضي عليه كدولة موحدة.  

في مارس الماضي فعل قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون ما لم يفعله أي قائد جيش لبناني سابق، حين وجه انتقادات لاذعة ولكن محقة للطبقة السياسية الحاكمة بسبب الأوضاع المتردية التي وصل اليها الجيش اللبناني (مع المجتمع اللبناني ككل) حين قال “العسكريون يعانون ويجوعون مثل الشعب”. وخاطب السياسيين اللبنانيين مباشرة قائلا : “إلى أين نحن ذاهبون، ماذا تنوون أن تفعلوا، حذرنا أكثر من مرة من خطورة الوضع، وإمكان انفجاره”. وفي تحذير لافت أظهر ان العماد عون يعرف بتهديدات وكمائن أخطر بكثير مما يقوله علنا، أضاف “إذا كان البعض يهدف إلى ضرب الجيش وتفكيكه، فإنهم يعرفون أن تفكيك الجيش يعني نهاية الكيان اللبناني، هذا الشيء مستحيل حدوثه. الجيش متماسك وتجربة العام 1975 (بداية الحرب الأهلية) لن تتكرر”.  

طبعا تحذيرات العماد عون لم تغيّر أو حتى تعدل بعض الشيء من سلوك رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يتصرف وكأن لا علاقة له بالواقع اللبناني المأساوي، أو بسلوك حكومة تصريف الأعمال او الرئيس المكلف بإنشاء حكومة جديدة، أو حاكم مصرف لبنان أو بقية اعضاء الطبقة الحاكمة.  

في الأسابيع والأيام الماضية تحركت دول أوروبية بمبادرة من فرنسا وبدعم من الولايات المتحدة ومشاركة دول أخرى من بينها روسيا ودول عربية خليجية لتوفير بعض أنواع الدعم الطارئ للقوات اللبنانية المسلحة لمنعها من الانهيار، بما في ذلك الأدوية والأغذية والمحروقات وغيرها من أنواع الدعم المادي. ولكن هذه المساعدات لن تشمل توفير الدعم المالي المباشر لدفع رواتب العسكريين اللبنانيين بعد انهيار رواتبهم، لأن قوانين هذه الدول (الغربية، بمن فيها الولايات المتحدة) تمنع توفير الرواتب لجنود الدول الحليفة. قبل بداية انهيار الليرة في 2019 كان راتب الجندي اللبناني يصل ألى حوالي 800 دولار في الشهر، الآن انكمش هذا الراتب إلى اقل من مئة دولار.

ما يحدث اليوم هو أن الدول الغربية التي لا يزال لديها الحد الأدنى من الاهتمام بلبنان واستقراره هو “لمّة” للجيش اللبناني، لإنقاذ المؤسسة الوحيدة التي يوجد حولها اجماع لبناني. هذه الدول تدرك، ما لا يريد ان يعترف به سياسيو لبنان وأمراء الحرب في الماضي، وأمير الحرب الحالي بامتياز “السيد” حسن نصرالله قائد ميليشيا ما يسمى بحزب الله، من أن انهيار الجيش اللبناني، يعني، كما قال العماد عون، انهيار لبنان. هذا الوضع المذري للعسكريين اللبنانيين أدى الى انهيار معنوياتهم، وأدى الى ارتفاع عدد الجنود الذين تخلفوا عن العودة الى وحداتهم، ودفع بآخرين الى التقاعد المبكر.    

هيمنة حزب الله على القرار السياسي في لبنان، وخدمته لسياسات ايران التخريبية في بعض الدول العربية، وتواطؤ رئيس الجمهورية ميشال عون مع حزب الله على تقييد نطاق عمليات قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان (اليونيفيل) بما يخدم عناصر حزب الله، وامتناع الجيش اللبناني عن مساعدة اليونيفيل وردع تصرفات حزب الله، كانت من بين الاسباب التي دفعت بدول مثل السعودية لوقف مساعداتها العسكرية الى لبنان.  

تمثل المساعدات العسكرية الاميركية مصدر الدعم الخارجي الاكبر للجيش اللبناني، حيث وصل مجموع هذه المساعدات منذ 2007 الى أكثر من ملياري دولار. وفي السنوات الثلاثة الماضية زاد معدل المساعدات العسكرية الاميركية السنوية عن 100 مليون دولار، (ووصلت الى 120 مليون في السنة المالية 2021) اضافة الى مئة مليون اضافية لمساعدة اللبنانيين على ضبط أمن الحدود وتدريب الضباط اللبنانيين. وفي مايو الماضي اعلنت الولايات المتحدة انها ستسلم لبنان ثلاثة زوارق حربية لخفر السواحل كهبة. وقبل اسابيع قال قائد القوات المركزية التي تشرف على القوات الاميركية في الشرق الاوسط الجنرال فرانك ماكنزي ان واشنطن ملتزمة بمواصلة دعم الجيش اللبناني “لأنه يمثل المؤسسة الرسمية اللبنانية التي تنشط بشكل جيد للغاية، ونحن نعتقد انه يجب ان تبقى التعبير الوحيد عن القوة العسكرية في الدولة اللبنانية”، في اشارة واضحة الى سلاح حزب الله.

المساعدات الطارئة للجيش اللبناني، هي ضمادة مؤقتة في احسن الحالات، ولن تحل الاخطار الوجودية التي يواجهها الجيش في المستقبل المنظور والبعيد، خاصة وان السياسيين اللبنانيين لن يتوصلوا في أي وقت قريب الى تشكيل حكومة مسؤولة وفعالة يمكن ان تقبل بشروط المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة بتقديم قروض هامة ومساعدات تقنية لانعاش الاقتصاد وفق برنامج اصلاحي شفاف.  

التحديات الخطيرة التي يواجهها الجيش اللبناني، يجب أن تؤدي الى إعادة نظر جذرية في عقيدة هذا الجيش وهيكليته وتدريبه. القوات اللبنانية المسلحة لا تحتاج الى سلاح طيران يشمل طائرات حربية  ذات أجنحة ثابتة Fixed wings لانه لا يستطيع التصدي لسلاح الجو الإسرائيلي وحتى السوري، بهذه الطائرات، وهي غير مفيدة في القتال ضد تحديات عسكرية داخلية ( معارك نهر البارد، وعرسال على سبيل المثال). كما أن القوات البرية لا تحتاج إلى دبابات ثقيلة أو حتى متوسطة. ما يحتاجه الجيش هو إعادة تنظيم وحداته لتخدم كحرس وطني يضم وحدات قتالية وقوات خاصة تتمتع بسرعة الحركة والمرونة وتستخدم المروحيات للأغراض اللوجستية وإعمال الإغاثة ونقل الجنود، إضافة الى مروحيات قتالية مزودة بالصواريخ لتوفير الغطاء الجوي للقوات البرية في أي عمليات داخلية أو حتى كرد عسكري أولي على عدوان خارجي. وهذا يعني تزويد القوات البرية بعربات مسلحة سريعة  لنقل القوات الخاصة بسرعة إلى اماكن القتال بعد التخلص من الدروع الثقيلة. وفي هذا السياق يجب أن يستثمر الجيش اللبناني بالحصول على صواريخ أرض-أرض قصيرة المدى يمكن نقلها وإخفائها بسرعة، إضافة الى الطائرات الصغيرة المسيرة، لإرغام أي من جاريه على التفكير المسبق بوجود الحد الأدنى من الردع العسكري. وفي هذا السياق يمكن للجيش اللبناني الاستفادة من عبر ودروس استخدام الصواريخ والمسيّرات في النزاعات الإقليمية الأخيرة.

ويمكن أن تكون البحرية اللبنانية مؤلفة  كليا من زوارق سريعة مسلحة لحراسة السواحل ومراقبتها على أن يكون بعضها مزودا بالصواريخ لإبقاء السفن المعادية خارج المياه الاقليمية. ولكن أي تغيير في بنية القوات المسلحة يجب أن يؤدي الى التخلص من الترهل الراهن، والتركيز أولا وثانيا وأخيرا على التدريب، ثم التدريب الأفضل. ويمكن للبنان الاستفادة من حقيقة أن أفضل القوات الخاصة العربية تملكها دول صغيرة بعدد سكانها مثل دولة الإمارات والأردن، وفقط لأن هذه القوات إما اكتسب خبرات قتالية (القوات الإماراتية التي قاتلت إلى جانب القوات الاميركية في أكثر من نزاع من بينها افغانستان) أو بسبب تدريبها الجيد (الإمارات والأردن). وإعادة تنظيم القوات، قد يتطلب تخفيض عديد قوات الجيش، والتركيز على نوعية العسكريين وتدريبهم وليس على عددهم.

يعاني الجيش اللبناني تاريخيا من تخمة كبيرة في صفوف ضباطه الكبار، الذين يتباهون بنجومهم وأوسمتهم وكأنهم حققوا انتصارات ميدانية يحتذى بها. وقبل الأزمة المالية الراهنة، هذه الطبقة العسكرية المدللة كانت تستحوذ برواتبها العالية والخدمات التي تحصل عليها من النقل إلى الوقود المجاني وتعويض نهاية الخدمة والتقاعد الشهري الذي يليه، على قسم كبير من الميزانية العسكرية.

وجاء في مقال نشره مؤخرا الباحث دافيد شينكر (مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الاوسط) أن الجيش اللبناني بعديده الذي يصل إلى 80 ألف عسكري لديه 400 ضابط كبير(من جنرالات وكولونيلات) مقارنة بالقوات الأميركية البرية التي يصل عديدها إلى نصف مليون عسكري والتي يقودها 295 ضابط كبير، وفقا لإحصائيات 2020. وبعد تقاعد الضابط اللبناني العالي الرتبة يحصل على تقاعد كبير يستلمه فور تقاعده، إضافة الى راتب تقاعد شهري، وسيارة مع سائقها ومحروقات مجانية. هذا هدر غير مبرر لا يستحقه أي جنرال او كولونيل، وخاصة من لم يقاتل لحماية الوطن، حتى ولو كان اقتصاد البلاد بألف عافية. التخلص من هذا الهدر سوف يوفر ملايين الدولارات في الميزانية الدفاعية، وسوف يساهم كثيرا في بناء قوة قتالية نحيفة وفتاكة.

مستقبل لبنان يتطلب وقف الانهيار الراهن في جميع القطاعات والمؤسسات وأبرزها الجيش، أو على الأقل تخفيف سرعة الانهيار .التفاف اللبنانيين حول قواتهم المسلحة وإيمانهم بضرورة صيانتها هو أمر إيجابي ومشجع. ولكن دعم الجيش اللبناني، مع الإمل بإعادة هيكلته وتأهيله لا يعني مواصلة ذلك الطقس اللبناني القديم والمتمثل بالنظرة الرومانسية للجيش اللبناني. أقول ذلك وانا “ابن القبيات” البلدة العكارية المعطاءة والشامخة التي قدمت خلال عقود طويلة زينة شبابها للخدمة في الجيش اللبناني، وأنا فخور بالقول إن والدي وأخوالي الثلاثة خدموا بشرف وتفان في الجيش اللبناني. اللبنانيون الذين يؤمنون بأهمية صيانة المؤسسة العسكرية بصفتها القوة الوحيدة التي تملك السلاح الشرعي في الوطن، عليهم ان يقدموا لهذا الجيش بعض “الحب القاسي” كما يقول الاميركيون. وهذا يعني مناقشة مستقبل الجيش من منظور نقدي، مثل الإصرار على نخبة قيادية محترفة ونحيلة ومنضبطة بالمطلق وغير مدللة ماليا ولا تحصل على مكاسب وخدمات أكثر مما توفره رواتبها. مثل هذه المؤسسة العصرية، يجب أن تتقبل النقد البناء، ولا تتصرف بشكل دفاعي وتلقائي إذا أثيرت، على سبيل المثال، التساؤلات المشروعة حول اختراق حزب الله لصفوف القوات المسلحة.

لن يخرج لبنان من محنته التاريخية، المتمثلة بوجود طبقة سياسية-أوليغارشية-دينية مفترسة يهيمن عليها حزب الله، في أي وقت قريب. وأفضل ما يمكن ان يفعله اللبنانيون في هذه الفترة الحرجة، وقبل وصول الحلول السياسية التي لا تزال بعيدة، هو مساعدة الجيش لكي يساعد نفسه من خلال إعادة بناء وحداته بشكل جذري وتغيير عقيدته القتالية، وتطهير نفسه من الآفات الطائفية، وتحويله الى قوة وطنية تحمي الوطن وشعبه وسيادته من أعداء الخارج والداخل.  

*كاتب وصحفي يغطي الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط منذ 35 سنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى