أقلام وأراء

هشام ملحم يكتب – بايدن والخيارات الإيرانية الصعبة

هشام ملحم  *- 8/2/2021

جدد الرئيس الأميركي جو بايدن موقفه الرافض لإلغاء العقوبات الاقتصادية الشاملة التي فرضها سلفه دونالد ترامب على إيران، إلا إذا أوقفت طهران أولا تخصيب اليورانيوم بنسب عالية تفوق ما سمح به الاتفاق النووي لعام 2015. وكان المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، قد طالب واشنطن بإلغاء العقوبات كخطوة أولى لعودة إيران إلى الالتزام ببنود الاتفاق. وكانت إيران قد أعلنت في بداية الشهر الجاري أنها استأنفت تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمئة، في انتهاك واضح للاتفاق، وباتخاذ خطوات أخرى لا تتماشى مع الاتفاق وتقربها من تصنيع رؤوس حربية نووية.

هذه المواقف المتضاربة تأتي في الوقت الذي بدأت فيه الأجهزة الأميركية المعنية بالأمن القومي والسياسة الخارجية بمراجعة خيارات الرئيس بايدن تجاه إيران، وبدء المشاورات مح الحلفاء الأوروبيين وقادة الكونغرس، قبل تطوير موقف متكامل تجاه إيران، بعد أربع سنوات من سياسة “الضغوط القصوى” التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب على إيران، فور انسحابه من الاتفاق النووي في 2018.

الإيرانيون يحاولون الضغط على إدارة بايدن للتحرك بسرعة لإلغاء العقوبات، قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية في يونيو المقبل، حيث يوحي الإيرانيون أن الرئيس المقبل قد يكون متشددا أكثر من الرئيس الحالي حسن روحاني، وبالتالي من الأفضل لإدارة بايدن أن تتوصل إلى اتفاق خلال وجود روحاني في السلطة. كما يحاول الإيرانيون إرغام بايدن على إلغاء العقوبات قبل بدء العمل ببرنامج تصعيدي أقره البرلمان الإيراني، ويقضي باتخاذ إجراءات أحادية الجانب في البرنامج النووي، من أبرزها وأكثرها استفزازا فرض قيود صارمة على عمليات التفتيش الدولية في المنشآت النووية الإيرانية، وبالتحديد وقف عمليات التفتيش التي تجري دون إعلام مسبق في نهاية الشهر الجاري. هذه الضغوط الإيرانية الاصطناعية لا تغير شيئا في الحقائق السياسة في إيران، وأبرزها أن المرشد الأعلى علي خامنئي وليس الرئيس الإيراني، ولا حتى البرلمان، هو المصدر الحقيقي للسلطة في إيران.

المراجعة الأميركية الراهنة للخيارات المتوفرة لبايدن يجب أن تستمر دون أن تتأثر بأي روزنامة اصطناعية تضعها إيران. الاجتماع الافتراضي (الإلكتروني) الذي عقده يوم الجمعة وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع نظرائه في فرنسا وبريطانيا وألمانيا (وهي من بين الدول الموقعة على الاتفاق النووي في 2015) هي خطوة أولية في إعادة بناء التحالف الدولي الذي أدى إلى الاتفاق، والذي يمكن استخدامه للضغط أكثر على إيران في المستقبل. وفي السادس من الشهر الجاري أصدرت بريطانيا وفرنسا وألمانيا بيانا قويا أعربوا فيه عن قلقهم العميق لقرار إيران بدء تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمئة في مفاعلها النووي في فوردو. وأشار البيان إلى أنه لا يوجد هناك مبرر لمثل هذا المستوى من التخصيب في أي برنامج نووي مدني. واعتبر البيان أن هذا الإجراء يمثل انتهاكا واضحا للاتفاق النووي، “ويهدد الفرصة الهامة للعودة إلى المسار الدبلوماسي  مع الإدارة الأميركية الجديدة”.

كان تعامل الرئيس السابق ترامب مع إيران، متقلبا وركز على النواحي العقابية، حيث بدت سياسة “الضغوط القصوى” ضد إيران، وكأنها تهدف إلى إخضاع إيران للعقاب من أجل العقاب، وليس لتحقيق أهداف سياسية مفيدة. العقوبات الشاملة التي أعاد ترامب فرضها على إيران عندما انسحب بشكل أحادي ودون تنسيق مع الحلفاء من الاتفاق النووي في  2018  والتي أضاف إليها عقوبات جديدة لم تكن في سلة العقوبات القديمة التي كانت مفروضة قبل الاتفاق، ألحقت بالاقتصاد الإيراني أضرارا غير مسبوقة. العقوبات لم تقتصر على إيران بل على كل دولة تتعامل تجاريا أو ماليا مع طهران حرمت إيران من تصدير نفطها، وهو المحرك الأساسي لاقتصادها، كما أن فرض العقوبات على المصرف المركزي الإيراني حرم إيران من التعامل مع أي مؤسسة مالية في العالم، ما أدى إلى تخفيض عملتها. ولكن ترامب لم ينجح في ترجمة هذه العقوبات إلى أهداف سياسية، كما أخفق في إرغام إيران على العودة إلى المفاوضات للتوصل إلى اتفاق نووي جديد. الأضرار التي أصابت الاقتصادي الإيراني جراء هذه العقوبات ربما قلصت من مساعداتها المالية لعملائها وأدواتها في المنطقة من حزب الله اللبناني، إلى قوات الحشد الشعبي في العراق، إلى حركة الحوثيين في اليمن، ولكن النظام الإيراني، واصل سياساته التخريبية في الدول العربية، ولم يتردد في قمع التظاهرات الاحتجاجية الداخلية ضد الضائقة المالية والقمع والفساد. تصريحات ومواقف ترامب، وعلى الأخص مواقف وتهديدات “الصقور” الآخرين في إدارة ترامب وتحديدا وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، كانت توحي بأن سياسة ترامب الحقيقة هي تغيير النظام في طهران، وليس فقط تغيير سلوكه، وهذا يفسر استمرار التصلب الإيراني.

ولكن بغض النظر عن تقلب وتهور الرئيس ترامب، إلا أنه ترك لخلفه بايدن أوراق اقتصادية قوية يمكن إذا استخدمها بذكاء ومن خلال التنسيق مع الحلفاء بالعودة إلى الاتفاق النووي، ولكن كخطوة أولى كما قال وزير الخارجية بلينكن لتطويره ليشمل الترسانة الصاروخية الإيرانية، الذي لم يشملها الاتفاق الموقع في 2015 في ما اعتبر إخفاقا خطيرا. الإيرانيون يقولون إنهم يريدون إحياء الاتفاق النووي كما هو، ويؤكدون – عن حق – أنهم التزموا ببنوده، وأن الاتفاق كان محصورا بالبرنامج النووي فقط، وليس ببرنامج الصواريخ، أو بسلوك إيران الإقليمي. تقنيا الإيرانيون محقون في هذا الطرح. ولكن  إدارة بايدن، يجب أن تربط تخفيض العقوبات بشكل تدريجي باستئناف المفاوضات لاتفاق يمدد الفترات القصيرة نسبيا التي فرضها الاتفاق الأولي على تخصيب اليورانيوم وعدد أجهزة الطرد العكسي وغيرها من المعدات، والعمل على اتفاق فرعي يحد من الترسانة الصاروخية الإيرانية.

أما بالنسبة لاحتواء الدور الإيراني التخريبي في المنطقة، فهذا أمر لم يشمله الاتفاق الأول، وليس من المتوقع أن يشمله أي اتفاق جديد. ولكن تاريخ الاتفاقات النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق وروسيا الاتحادية حاليا، يوفر خارطة طريق لإدارة الرئيس بايدن. وخلال خطابه الأول قبل أيام حول السياسة الخارجية، أشار بايدن إلى أن الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية قد توصلتا إلى اتفاق قبل أيام يقضي بتمديد اتفاقية ستارت الجديدة للحد من إنتاج الصواريخ العابرة للقارات والقاذفات الثقيلة لخمس سنوات إضافية. وهذه هي الاتفاقية النووية الوحيدة بين الدولتين، وتسمح لكل منهما من التحقق من التزام كل طرف بقيود نووية تخدم مصلحة البلدين ومصلحة الأمن العالمي لأنها تحد من إنتاج الأسلحة النووية. وخلال خطابه ندد بايدن بتدخل روسيا في الانتخابات الأميركية، وطالب الرئيس فلاديمير بوتين بالإفراج الفوري عن المعارض الروسي أليكسي نافالني، وأكد لبوتين أن أيام رضوخ واشنطن للتدخلات الروسية قد انتهت مع انتهاء ولاية الرئيس السابق ترامب. وهكذا عاد بايدن، إلى اتباع السياسة الأميركية التقليدية في التعامل مع روسيا، والتي اعتمدها جميع الرؤساء الأميركيين من الحزبين لعشرات السنين، أي التفاوض مع موسكو، بغض النظر عن حاكمها أن كان سوفياتيا أم قوميا روسيا، للتوصل إلى اتفاقات نووية تخدم مصلحة الولايات المتحدة والسلم العالمي، ولكن في نفس الوقت مواصلة انتقاد روسيا لحقوق الإنسان، ومواصلة تحدي سياساتها التوسعية والتخريبية في العالم.

وخلال السنوات الطويلة للحقبة السوفياتية، قام روساء أميركيين يختلفون كثيرا في طروحاتهم السياسية والأيديولوجية، مثل جيمي كارتر الديمقراطي، ورونالد ريغان الجمهوري بالتعامل بنفس الأسلوب مع روسيا السوفياتية: التفاوض النووي من جهة، والمواجهة الميدانية في العالم من جهة أخرى. سياسة الضغوط على الاحتلال السوفياتي لأفغانستان بدأت خلال ولاية الرئيس كارتر، وأكملها، لا بل طورها وعززها الرئيس ريغان. هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، بدأت عملية تفكك الاتحاد السوفياتي.

الرئيس الأسبق أوباما رفض نصيحة بعض مستشاريه – ومن بينهم بعض أفراد طاقم بايدن الأمني الجديد – بضرورة التصدي لسياسات طهران التخريبية وخاصة في العراق وسوريا، خلال المفاوضات النووية. وكانت ذريعة أوباما أن التصدي لإيران في سوريا مثلا، سوف ترد عليه إيران في العراق، أو في القول إن الضغوط على إيران في سوريا قد تدفعها للانسحاب من المفاوضات، على الرغم من أن أحد كبار مستشاري أوباما قد قال لنا إنه أكد للرئيس الأسبق في أكثر من مناسبة أن إيران لن تنسحب من المفاوضات لأكثر من سبب، ومن أبرزها رغبتها باستعادة أموالها المجمدة في الولايات المتحدة.

فريق بايدن الأمني يضم عددا من المسؤولين المخضرمين الذين خدموا في إدارة الرئيس أوباما، ومن أبرزهم  وزير الخارجية انتوني بيلينكن، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (السي.آي.أيه) وليام بيرنز، الذي فاوض إيران سرا في عمان، قبل بدء المفاوضات العلنية مع الأطراف الأخرى، وويندي شيرمان، الذي عينها بايدن نائبة لوزير الخارجية، والمبعوث الجديد لإيران، روبرت مالي الذي عمل عن كثب مع شيرمان التي ترأست الوفد الأميركي الذي تفاوض مع إيران. هؤلاء يعرفون إيران جيدا، ويعرفون المتغيرات التي طرأت على الوضع الإقليمي في السنوات الأربع الماضية، ويفترض أن يتفادوا هذه المرة، أخطاء الاتفاق السابق، لجهة عدم شمول الاتفاق للصواريخ الإيرانية، وللتعامل مع السياسات الإيرانية التخريبية في المنطقة كما تعاملت واشنطن مع الممارسات السوفياتية السابقة في العالم. تصريحات الوزير بلينكن توحي بذلك. العودة إلى التنسيق مع الحلفاء الأوروبيين، ومع الحلفاء الإقليميين، بقدر المستطاع لإرغام طهران على دفع ثمن باهظ لانتهاكاتها الإقليمية، يجب أن يكون الخطوة الأولى في التعامل مع ايران. لن تكون هناك حلول سريعة للمشاكل المعقدة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران من جهة أخرى، كما لا توجد هناك خيارات سريعة أو سهلة. إيران منذ ثورتها الإسلامية في 1979، شكلت تحديا كبيرا للولايات المتحدة عانى منه وتعامل معه جميع الرؤساء الأميركيين، منذ جيمي كارتر، الذي حرمته إيران، بخطفها للديبلوماسيين الأميركيين، من ولاية ثانية، وحتى جوزف بايدن، الذي تعامل معها أولا كنائب للرئيس أوباما، والذي سيتعامل معها الآن بصفته الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، وبصفته الرئيس الأميركي الثامن الذي يرث العبء الإيراني.

* كاتب وصحفي يغطي الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى