أقلام وأراء

هشام ملحم يكتب – العلاقات الأميركية – السعودية في أزمة غير معهودة

هشام ملحم *- 2/3/2021

أثار قرار الرئيس جو بايدن عدم فرض عقوبات ضد ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في أعقاب الكشف عن مضمون تقرير للاستخبارات الأميركية، أكد أن الأمير محمد بن سلمان “أجاز” عملية لاختطاف أو اغتيال الصحفي والمعلق السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول في 2018، الكثير من الجدل والتحفظات والاعتراضات في أوساط الحزب الديمقراطي، ومن قبل بعض المشرعين النافذين المقربين من الرئيس الأميركي. كما أثار القرار جدلا قويا في الأوساط الإعلامية، وفي أوساط منظمات حقوق الإنسان، وتلك المعنية بالحريات الإعلامية. ومرة أخرى عادت العلاقات الثنائية الأميركية-السعودية التي تميزت بالفتور والتوتر منذ انتخاب بايدن، إلى الواجهة وتجدد معها السجال بين المنادين بمعاقبة الأمير محمد بن سلمان شخصيا ومحاسبة الدولة السعودية، إذا استمرت على التمسك به وليا للعهد وعاهلا في المستقبل، وبين من يحذر من مغبة التفريط بعلاقات قديمة ومهمة استراتيجيا واقتصاديا لواشنطن، وإن كانت بين بلدين لا تجمعهما أي قيم سياسية، أو ثقافية، بل مصالح مادية فقط.

التقرير الذي أعدته وكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.إيه) بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات الأخرى بعد بضعة أسابيع من جريمة قتل خاشقجي، وتم تسريب معظم مضمونه إلى وسائل الإعلام، بقي سرا بنصه الرسمي لأن الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي دافع عن ولي العهد وتبجح بانه “أنقذ مؤخرته” من العقاب كما قال للصحافي بوب وودورد، رفض الكشف عنه، لكي لا يسيء إلى العلاقات القوية التي ربطته هو وصهره جاريد كوشنر مع الأمير السعودي الشاب.

وأعلنت وزارتي الخارجية والخزينة، يوم الجمعة الماضي، سلسلة عقوبات شملت 76 مسؤولا سعوديا من بينهم 7 أفراد من ما يسمى “قوة التدخل السريع” الذين قتلوا خاشقجي وقطعوا أوصاله، والذي رأى تقرير الاستخبارات الأميركية أن أفراد هذه القوة لا يمكن ان يشاركوا في مثل هذا الاغتيال دون موافقة ولي العهد. وجاء في التقرير ان هذه القوة الخاصة قد شكلت خصيصا “للدفاع عن ولي العهد. ولا تعمل الا بأوامره”. ووفقا لتقارير صحفية مبنية على تسريبات رسمية قام افراد هذه القوة السرية بعشرات العمليات داخل وخارج المملكة ضد الناشطين السياسيين ومعارضي الحكومة السعودية، شملت خطف مواطنين سعوديين في الخارج وإعادتهم إلى البلاد وسجنهم وتعذيبهم. كما أشرفت هذه القوة على اعتقال عدد من الناشطات السعوديات الذين تعرضن للتعذيب، وكانت أبرزهن لجين الحذلول التي أفرج عنها قبل أسابيع بعد سجنها لأكثر من سنتين. كما فرضت وزارة الخزينة عقوبات ضد نائب الاستخبارات السعودية السابق والمقرب من ولي العهد، أحمد العسيري.

وأعلن وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، عن مبادرة أعطيت اسم “حظر خاشقجي” والتي ستستخدمها الحكومة الأميركية لمعاقبة أي مسؤول، سعودي أو غير سعودي،  وحرمانه من دخول الولايات المتحدة، يقوم بملاحقة أو ترهيب أو قتل أي معارض سياسي أو صحافي في الخارج نيابة عن حكومته.
هذه العقوبات تأتي في أعقاب إعلان الرئيس بايدن أن إدارته ستقوم باعادة تقويم العلاقات مع السعودية، وبعد تعليق صفقات عسكرية وافقت عليها إدارة الرئيس ترامب، ووقف الدعم العسكري للعمليات الهجومية في اليمن، وغيرها من الإجراءات ضد السعودية التي وصفها بايدن خلال الحملة الانتخابية بالدولة “المنبوذة” التي يجب عليها أن “تدفع ثمن” انتهاكاتها لحقوق الإنسان وحرب اليمن، التي أدت إلى قتل عشرات الآلاف من المدنيين وحوّلت اليمن إلى أسوأ كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين.

ومن المتوقع ان يعلن الرئيس ترامب اليوم (الاثنين) عن إجراءات عقابية جديدة ضد السعودية، ولكن لا يعتقد أن معاقبة ولي العهد من بينها. ولكن ما يمكن قوله في هذا الوقت المبكر في ولاية الرئيس بايدن، هو أن العلاقات الأميركية-السعودية سوف تدخل في مرحلة فتور وتشنج لن تنتهي في أي وقت قريب، وأن الأزمة الراهنة هي أسوأ، على المدى البعيد، من أزمة حظر النفط خلال حرب 1973.

مؤيدو قرار الرئيس بايدن عدم معاقبة الأمير محمد بن سلمان شخصيا يقولون إن الإجراءات التي اتخذها بايدن بحق السعودية حتى الآن، بما في ذلك الكشف عن مضمون تقرير الاستخبارات، وإصراره على الاتصال بالعاهل السعودي وليس بولي العهد، تؤكد جدية رغبته بمعاملة السعودية بطريقة فاترة ورسمية وقطعا غير ودية، لأن واشنطن تريد أن تحافظ على التعاون المشترك ضد الإرهاب ولضرورة تنسيق المواقف تجاه إيران، كما أن تعاون السعودية ضروري لإيجاد حل للحرب في اليمن. وكان وزير الخارجية بلينكن قد قال الجمعة إن العلاقات مع السعودية هي أهم من أي مسؤول معين، وكما قال مسؤول آخر في ايجاز خلفي إن الولايات المتحدة لا تفرض عقوبات ضد قادة دول تعتبرها حليفة.

وعلى الرغم من ترحيب الأوساط السياسية والإعلامية والقانونية بشكل عام بالكشف عن تقرير الاستخبارات، فإن بعض حلفاء بايدن في الكونغرس وقادة منظمات حقوق الإنسان وبعض المعلقين وجهوا انتقادات قاسية للإدارة وتسائلوا، كيف يمكن معاقبة الذين قاموا باغتيال وتقطيع جثة خاشقجي، وعدم معاقبة الطرف الذي أصدر أوامر التصفية الجسدية؟  السناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنثال قال إنه “يجب عدم السماح لولي العهد السعودي بالإفلات من العقاب بعد ارتكاب جريمة وحشية”. ورأى النائب الديمقراطي آدم شيف، وهو رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، أنه سيواصل الضغط لفرض عقوبات على ولي العهد، بما في ذلك تجميد الحسابات التي يسيطر عليها. وقال السناتور الديمقراطي رون وايدن إن ولي العهد السعودي “يجب أن يعاقب، بما في ذلك العقوبات المالية والقانونية وحظر السفر.” وأضاف أن المملكة يجب أن تتعرض إلى العقوبات القاسية “إذا بقي ولي العهد في السلطة”.

وإذا كانت هذه الانتقادات قوية، فإن الانتقادات التي تعرض لها بايدن من المعلقين والصحافيين والناشرين فقد كانت لاذعة وجارحة. ناشر صحيفة واشنطن بوست فريد رايان، التي كانت تنشر مقالات خاشقجي الدورية قال إن “الرجل الذي أمر بهذه الجريمة الوحشية يجب أن يتحمل المسؤولية الكاملة”. لاحقا نشر أعضاء مجلس إدارة الصحيفة مقالا باسمهم جاء فيه “محمد بن سلمان مذنب بجريمة قتل. ويجب أن لا يسمح له بايدن بالإفلات”. وجاء في مقال للمعلق الليبرالي في صحيفة نيويورك تايمز نيكولاس كريستوف، الذي كانت تربطه علاقة صداقة بخاشقجي، “وبدلا من فرض العقوبات على ولي العهد، يبدو لأن بايدن سمح له بالإفلات”.

ويرى محللون مثل كريستوف وغيره أن واشنطن من خلال معاقبتها لولي العهد يمكن أن تخلق معارضة داخليه له تمنعه من أن يصبح ملكا للسعودية. ويتخوف هؤلاء من أن ولي العهد، البالغ من العمر 35 سنة، والذي أثبت خلال أول خمس سنوات له في السلطة الفعلية أنه متهور ولا يتردد في استخدام العنف، مثل قتل من يعارضه، أو المساهمة بكارثة إنسانية في اليمن، إذا خلف والده، فإنه يمكن أن يبقى ملكا ربما لخمسين سنة مقبلة. ولكن من الواضح أن دعاة مثل هذا الموقف قليلون، ولا يوجد بينهم من هو قريب من الرئيس بايدن. ويبرر المسؤولون عدم معاقبة الأمير محمد بن سلمان بالقول إنه يمكن أن يصبح ملكا للسعودية في أي وقت، وأن بايدن لا يريد أن يجد نفسه في موقع يمنعه من الاتصال أو التعاون مع الحاكم الرسمي للسعودية. المسؤولون في إدارة بايدن يقولون في إيجازاهم الخلفية أنهم لا يتوقعون أن يروا محمد بن سلمان في واشنطن في السنوات المقبلة، حتى ولو أصبح ملكا للسعودية.

ويرى محللون في مراكز الأبحاث، أن التحديات القانونية التي سيواجهها ولي العهد السعودي لن تكون من الحكومة الأميركية بل من المحاكم الأميركية ومن الكونغرس. وهناك دعاوى ضد ولي العهد في المحاكم الأميركية، وفي حال صدور أحكام ضده، فإنه لن يستطيع المجازفة بزيارة واشنطن، حتى ولو وصل رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض وعامله معاملة مماثلة للمعاملة التي تلقاها من الرئيس السابق ترامب. كما أن الكونغرس الأميركي يمكن أن يصدر قرارات عقابية بحق ولي العهد، قد يجد بايدن صعوبة في التصدي لها.

السجال الراهن حول مستقبل العلاقات الأميركية-السعودية، أبرز إلى السطح من جديد تلك الأصوات العديدة في أوساط المحللين في مراكز الأبحاث وفي الإعلام، والتي تشدد أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى السعودية كما تحتاج السعودية لمظلة الحماية الأميركية. وكما قال لنا ديبلوماسي سابق خدم في الخليج  “الصواريخ الحوثية أو الإيرانية تهدد الدمام، ولا تهدد هيوستن”. وأضاف أن مصلحة السعودية تقضي بالتعاون مع واشنطن ضد الإرهاب في منطقة الخليج، كما أن السعودية هي التي تحتاج إلى الولايات المتحدة في سياق التصدي للسياسات الإيرانية التخريبية والسلبية في المنطقة. وغاب عن النقاش الحجة التقليدية القديمة، وهي أن العلاقات مع السعودية ضرورية بسبب ثروتها النفطية. فهناك تخمة نفطية في العالم، كما أن الولايات المتحدة في العقد الأخير قد تحولت بسبب تقنيات استخراج النفط والغاز الجديدة أكبر منتج للطاقة في العالم. وقال لنا سفير أميركي سابق خدم في الخليج، إن الوقت قد حان لكي تقلص واشنطن من اهتمامها وانشغالها بالشرق الأوسط ومشاكله “التي لا نهاية لها” والتركيز على منطقة شرق آسيا الاكثر أهمية اقتصاديا واستراتيجيا للولايات المتحدة في العقود المقبلة.

قد لا يكون الرئيس بايدن مستعدا لأن يدير ظهره إلى منطقة الخليج، خاصة وأنه يريد إحياء المفاوضات النووية مع إيران، ولكن من الواضح أن بايدن – بإجراءاته حتى الآن – لا يريد أن يضع العلاقات مع الرياض في طليعة أولوياته في الشرق الأوسط، ولا يريد أن يسمح لمشاكل المنطقة القديمة، مثل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، أو الحرب في سوريا، أو المستقبل السياسي للعراق، لأن تهيمن على سياسته الخارجية. وهذه، كما قال لنا السفير السابق، هي من الدروس التي تعلمها بايدن عندما كان نائبا للرئيس الأسبق باراك أوباما لثماني سنوات طويلة.

* كاتب وصحفي يغطي الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى