أقلام وأراء

هشام ملحم يكتب – الديمقراطية الأميركية تهزم ترامب

هشام ملحم *- 12/1/2021

تعرضت الديمقراطية الأميركية الأسبوع المنصرم إلى أخطر تحد داخلي تواجهه منذ السنوات التي عقبت الحرب الأهلية قبل أكثر من قرن ونصف. الصور المقززة للرعاع الذين اجتاحوا “كاتدرائية الديمقراطية الأميركية”، مبنى الكابيتول، بعد أن حرضهم على ذلك، وإن بشكل غير مباشر، رئيس أميركي لا يزال في أيامه الأخيرة يرفض الاعتراف بهزيمته الانتخابية، سوف تبقى محفورة في الذاكرة الجماعية للأميركيين لسنوات عديدة.

خصوم وأعداء الولايات المتحدة في الخارج مثل روسيا والصين وإيران، وحتى الأنظمة غير المعادية لأميركا والتي يحكمها “أوتوقراطيون” و”طغاة” و”شوفينيين”، مثل الهند والسعودية وتركيا ومصر، رأوا في هذه الصور مصدرا للتشفي من الدولة التي كانت دائما تنتقد انتهاكاتهم للقيم الديمقراطية وسلطة القانون وحقوق الإنسان.

كيف يمكن للولايات المتحدة بعد الآن أن تنتقد تقويض هذه الدول للقيم والمؤسسات والأعراف الديمقراطية، كما ادعى هؤلاء القادة. كيف يمكن لمسؤول أميركي في المستقبل أن ينتقدنا عندما نتخذ إجراءات قوية لصيانة الأمن والاستقرار في بلداننا، بعد أن حرّض رئيس أميركي أنصاره على انتهاك القوانين الأميركية في المؤسسة التي سنّت هذه القوانين؟

وعلى الرغم من فداحة التحدي الذي مثله اجتياح المبنى الرئيسي للكونغرس في الوقت الذي كان يقوم فيه جميع ممثلي الشعب الأميركي بواجباتهم التشريعية، أي التصديق على انتخاب الرئيس جوزف بايدن، فإن احتفالات وتشفي خصوم الولايات المتحدة بأفول الديمقراطية الأميركية كما ادعى بعضهم، أو هشاشة المؤسسات الأميركية كما ادعى آخرون، سابقة لأوانها وتعكس تمنيات أصحابها وليس أي قراءة دقيقة للتجربة الأميركية.

تخطت الديمقراطية الأميركية منذ الحرب الأهلية (1861-1865) تحديات عديدة داخلية بدأت بعد حقبة “إعادة البناء” عقب نهاية الحرب الأهلية، حين رد العنصريون البيض في جنوب البلاد على ممارسة الأميركيين من أصل أفريقي حقهم لأول مرة بالمشاركة في الانتخابات، من خلال تشكيل تنظيمات إرهابية مثل كوكلاكس كلان وغيرها والتي استخدمت مختلف أنواع العنف بما فيها أعمال القتل الجماعي للسود.

التنظيمات والجماعات العنصرية والمتشددة في أميركا قديمة قدم الجمهورية، ولكنها بقيت على هامش الحياة السياسية الأميركية. هذه الجماعات المتشددة والمتطرفة بقيت حاضرة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وتحدت الديمقراطية الأميركية في خمسينات القرن الماضي خلال الحقبة الماكارثية والتي استخدم خلالها العداء للشيوعية لفرض قيود على حريات التعبير.

وفي ستينات القرن الماضي، شهدت الولايات المتحدة انقسامات حادة في البلاد فرضتها حركة الحقوق المدنية للأميركيين من أصل أفريقي والتي رد عليها العنصريون بالعنف، وأيضا حركة معارضة الحرب في فيتنام والتي تسبب بأعمال عنف وقمع التظاهرات في الجامعات. وفي أعقاب اغتيال القس مارتن لوثر كينغ القائد الرئيسي لحركة الحقوق المدنية السلمية في 1968، تم إحراق أحياء بأكملها في أكثر من مدينة أميركية.

ولكن النظام الديمقراطي تمكن من اجتياز جميع معموديات النار هذه، مكتسبا مناعات جديدة. خلال هذه المرحلة الطويلة برز سياسيون أميركيون شعبويون وغوغائيوون وعنصريون وانعزاليون، وكان لبعضهم نفوذ هام مثل حاكم ولاية ألاباما، جورج والاس، العنصري الذي ترشح للرئاسة لأكثر من مرة، وحصل في 1968 على حوالي 10 ملايين صوت وفاز بخمسة ولايات جنوبية.

انتخاب ترامب الذي لم يخف ميوله الغوغائية وطروحاته المتشددة والعنصرية كان ردا مباشرا على انتخاب الرئيس باراك أوباما، أول رئيس من أصل أفريقي، وردا على تحولات اجتماعية وثقافية وديموغرافية واقتصادية شهدتها البلاد منذ العولمة الاقتصادية وازدياد عدد المهاجرين واللاجئين الذين خلقوا حقائق ديموغرامية واجتماعية جديدة رفضتها شريحة هامة من الناخبين البيض، وخاصة أولئك الذين حولتهم العولمة إلى جيش من العاطلين عن العمل، والذين وضعوا اللوم على المهاجرين لخسارتهم لوظائفهم.

ترامب استغل بفعالية هذه المخاوف وطرح نفسه ناطقا باسم ضحاياها ومدافعا عنهم. ليس كل من أيدوا ترامب يؤيدون اجتياح الكونغرس. ولكن لا شك أن هناك ملايين من الأميركيين من الذين يؤيدون الانتقام من النخب الليبرالية المهيمنة في المدن الرئيسية على الساحلين الشرقي والغربي للبلاد والذين يحملهم ترامب وأنصاره تبعات التغييرات التي شهدتها البلاد في العقود الماضية.

تعرضت الديمقراطية الأميركية إلى نكسة مؤلمة ومحرجة يوم الأربعاء الماضي، ولكن السرعة المذهلة التي رد فيها المشرعون على محاولة ترهيبهم والتي تركت ورائها خيطا رفيعا من الدم داخل أروقة الكابيتول ومحيطه، كانت تأكيدا واضحا لصلابة الديمقراطية. المشرعون أصروا على استئناف الجلسة، خلال عملية تنظيف الركام وغسل دماء الضحايا. وخلال فجر الخميس ومع شروق الشمس انجزوا واجباتهم الدستورية.

الأيام التي تلت اجتياح الكابيتول، أظهرت مدى استياء الرأي العام من هؤلاء الرعاع . “إرهابيو الداخل” الذين غزوا الكونغرس وصوروا أنفسهم وهم يعيثون الخراب في المبنى الرئيسي للديمقراطية الأميركية التي يدعون أنهم يدافعون عنها، هم الآن في موقع دفاعي بعد اعتقال بعض قياداتهم، وهم مثلهم مثل الرئيس ترامب يتعرضون الآن للمحاسبة. ومن المرجح أن تتم محاكمة ترامب للمرة الثانية خلال سنة، وهو “شرف” لم يحظ به أي رئيس أميركي قبله.

ترامب محاصرا ومعزولا أكثر من أي وقت مضى. حتى نائبه مايك بينس الذي أعطاه ولاء أعمى لأربع سنوات لم يتحدث معه منذ الاجتياح. زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونال تخلى مثله مثل غيره عن ترامب. ووصلت عزلة ترامب إلى أقصاها حين قررت شركات الاتصال الاجتماعي وأبرزها شركة تويتر تجميد حسابه بشكل كامل وحرمانه من أهم وسيلة اتصال لتعبئة أنصاره. حتى صحيفة “وال ستريت جورنال” المحافظة والتي أيدت ترامب في افتتاحياتها في السابق، طالبت بإقالته بعد محاولته تقويض الديمقراطية الأميركية وسرقة الانتخابات من بايدن.

أقطاب الحزب الجمهوري الذين وقفوا وراء غوغائية وتضليل ترامب حتى بعد أن صعق الأميركيون حين شاهدوا صور ومظاهر العنف والترهيب مثل عضوي مجلس الشيوخ تيد كروز وجوشوا هاولي، تعرضا إلى انتقادات قاسية داخل ولايتيهما وواجها دعوات من أكثر من مصدر للاستقالة.

رد فعل الرئيس المنتخب جوزف بايدن كان قويا وحكيما، وطالب بحزم بإنهاء ما وصفه بالهجوم غير المسبوق على الديمقراطية الأميركية الذي اقترب من الفتنة “والذي يجب أن يتوقف الآن”.  

وصباح الأربعاء، أي قبل ساعات قليلة من فتنة ترامب وأنصاره، قدمت ولاية جورجيا هدية لبايدن تمثلت بانتخاب عضوين ديمقراطيين لمجلس الشيوخ، الأمر الذي سيعيد سيطرة الحزب الديمقراطي على هذا المجلس الهام، ما يعني أن فرص بايدن بإقرار بعض سياساته والتصديق على تعييناته قد تحسنت كثيرا.

أحداث الأربعاء الدامي، ألحقت بالديمقراطية الأميركية نكسة مؤقتة، ولكن الرد السريع عليها أكد أنها لم تلحق بالنظام الديمقراطي جرحا عميقا. وللمرة الأولى منذ بروزه على الساحة السياسية قبل خمس سنوات، يجد الرئيس ترامب نفسه، والنزعة العدائية والموتورة المسماة “الترامبية” والمقربين منه في مأزق لم يواجهوا مثله من قبل. ترامب كان محاصرا قبل اجتياح الكابيتول. ولكنه أصبح مجروحا ومعزولا أكثر بعد الاجتياح.

في الأسابيع والأشهر المقبلة سوف تشهد البلاد محاكمة ترامب وغوغائييه و”إرهابييه”، وسوف تستمر التحقيقات الأمنية والقضائية للكشف عن كل الحقائق وعن جميع المسؤولين عن هذه الجريمة. وسوف يكتشف الأميركيون والعالم معهم كيف تعالج الديمقراطية الأميركية تحدياتها ومشاكلها بشفافية، وكيف تتخطاها بثقة أكثر بعد أن تلقي على نفسها نظرة نقدية.

يوم الأربعاء الماضي، كبت الديمقراطية الاميركية لوهلة، ولكنها استعادت قوتها لتقف من جديد وتواصل مسيرتها لتحقيق ذلك الوعد المذكور في أول سطر في الدستور الأميركي: نحن شعب الولايات المتحدة، رغبة منا في إنشاء اتحاد أكثر كمالا…”

*كاتب وصحفي يغطي الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى