أقلام وأراء

هشام النجار: من الهزيمة إلى النصر: تركيا تحيّد روسيا وتخرج فائزة في سوريا

هشام النجار 9-12-2024: من الهزيمة إلى النصر: تركيا تحيّد روسيا وتخرج فائزة في سوريا

مثلت رعاية عملية ردع العدوان التي أنهت عمليًا اتفاقي أستانة وسوتشي وتغيير خطوط التماس بين النظام السوري والمعارضة عنصر التحول الأكبر في المشهد السوري، والذي أدى إلى إسقاط نظام بشار الأسد، بما عُد تفوقًا لأنقرة على موسكو ضمن جولة مؤجلة في سياق صراع إرادات ونفوذ استمر لسنوات.

باتت تركيا أقوى من أي وقت مضى على الساحة السورية، ووضح من الوقائع المتدحرجة والمتسارعة على الأرض وانعكاساتها على مواقف الساسة وتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحلفائه أنه عاد من الهزيمة إلى النصر (أو صنع ريمونتادا باستعارة مفردة كرة القدم المألوفة)، ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعود الفضل إلى جيشه في إنقاذ نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين عام 2015 عبر كبح تقدم قوات المعارضة التي اجتاحت إدلب وهددت حماة واللاذقية آنذاك.

وتقف روسيا في ظل تحولات دراماتيكية أمام مشهد تاريخي يُنتزع فيه أهم الحلفاء التقليديين بالشرق الأوسط من مجال نفوذها، حيث كانت سوريا تحت مظلة موسكو منذ الحقبة السوفييتية، وصارت في بؤرة استعادة النفوذ الدولي لروسيا قبل عشر سنوات.

وطلب الأسد المساعدة بشكل يائس من روسيا وإيران مع تقدم فصائل المعارضة نحو مدينة حمص، لكن تكرار الإنقاذ بدا غير محتمل، طالما أن الجيش السوري مستمر في التخلي عن مواقعه، وهو الموقف الذي تأكد بدعوة السفارة الروسية في دمشق للروس إلى مغادرتها.

وفي حين تواجه الرئيس الروسي تحديات عسكرية معقدة جعلته عاجزًا عن حسم الحرب في أوكرانيا، أعاد الرئيس التركي عقارب الساعة إلى الوراء، ودار الحديث للمرة الأولى بعد تحقيق حلفائه من المعارضة المسلحة لاختراق بالاستيلاء على حلب وحماة وحمص والوصول إلى دمشق، ما يعني استحضار هدف أردوغان الأهم في سياق حلم تيار العثمانيين الجدد، وهو إسقاط الأسد وتمكين نظام إسلامي حليف، وهو ما تحقق.

عادت الأحداث إلى ما قبل التوافق الثلاثي (التركي – الإيراني – الروسي) على معادلة النفوذ وتحديد خطوط تماس، فارضة معادلات قوة ونفوذ مختلفة في المشهد السوري تحجم النفوذ الروسي وتحل محل الإيراني وتعيد علاقات تركيا بتيار الإسلام السياسي إلى الواجهة عقب فترة شابها الغموض، داخل سياقات شبيهة بمرحلة الرعاية الدولية لهذا التيار.

استعاد أردوغان بريقه الذي خفت عقب سقوط تجارب جماعة الإخوان في السلطة عبر تحقيق هدف استغرق الإعداد له سنوات ومر بالعديد من المحطات، وهو تغيير النظام في سوريا وبسط الهيمنة على مدن تاريخية مهمة مثل حلب التي تحتل مكانة في أدبيات الإسلاميين الأتراك.

من خلال استخدام نفس الأداة ولعب دور “بيشاور الجهاديين” مع اختلاف بعض التفاصيل وتبادل بعض الأدوار تمضي تركيا لتحقيق نفس الأهداف التي لم تتخل عنها والخاصة بالحيلولة دون تمدد الأكراد غربي الفرات وتفكيك حكمهم الذاتي وإعادة توطين الملايين من اللاجئين السوريين.

لم تمهد أنقرة للجولة الجديدة من الصراع في الساحة السورية لتحقيق أهدافها التقليدية المؤجلة فقط بدعم نوعي دؤوب للجهاديين المسيطرين على شمال غرب سوريا، ما خلق طفرة في الأداء الميداني والتماسك الهيكلي والتوحد الفصائلي خلف قيادة موحدة، إنما جرى التمهيد تركيًّا بتحييد روسيا، انتظارًا لتحييد إسرائيلي – غربي لإيران.

أغلقت تركيا مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية العابرة إلى سوريا قبل عامين ما قلص القدرات العسكرية هناك، وهو ما جرى تكريسه بنقل معظم القوات الروسية من سوريا للمشاركة في حرب أوكرانيا.

مكّن هذا الإجراء في حينه تركيا من تحييد روسيا عسكريًا في المشهد السوري والبدء في التحرك بحرية أكبر، فشنت هجمات نوعية على المناطق الكردية في شمال شرق البلاد، ربما لم تشكل تهديدًا مباشرًا وقتها على النظام السوري، لكنها كشفت المشهد وأعطت انطباعًا بأنه إذا تجددت الحرب وحان البدء بجولة جديدة من الصراع فلن تقف روسيا مع حليفها وسوف تضطر إلى سحب باقي قواتها ورعاياها، لأنها لن تستطيع خوض صراعين في وقت واحد.

كان واضحًا أن تركيا تمهد لحدث كبير عبر تحييد روسيا عسكريًا من خلال غلق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية وتقييد مرور السفن الحربية الروسية عبر مضيقيْ البوسفور والدردنيل، وتبين من استغلال معاناة روسيا الاقتصادية وموقفها الجيوسياسي الضعيف، علاوة على النفخ في طموحات هيئة تحرير الشام وباقي الفصائل المسلحة، أن أنقرة لديها رؤية مسبقة ومخطط واضح المعالم.

قصد المسؤولون الأتراك من تصريحاتهم مواكبة الأحداث وتعمدوا فيها المناورة وإخفاء المسؤولية المباشرة عن الإشراف على شن هجوم واسع في سوريا عبر الوكلاء الجهاديين لتصبح يد أنقرة العليا في سوريا.

أفاد الرئيس التركي في طريق استعادة مشروعه الأهم في سوريا تداعيات عملية طوفان الأقصى؛ فإذا كان تعهد بتحييد روسيا عسكريًا فقد تعهدت إسرائيل بإضعاف إيران في سوريا وفي المنطقة بأسرها، فضلا عن ربط واشنطن وكييف بين الملفين والساحتين الأوكرانية والروسية.

صعّدت واشنطن ضد الأسد بالتزامن مع غزو روسيا لأوكرانيا بهدف الضغط على موسكو عبر تفعيل ملف المحاسبة وتشديد العقوبات، ما يعني مد المواجهة الأميركية والأوروبية إلى ساحات خاضعة لنفوذ موسكو، في مقدمتها الساحة السورية، بالتوازي مع ربط كييف بين الساحتين بتدريب وتسليح هيئة تحرير الشام، وهو ما انطوى على إسهام متعدد في تقوية الجماعات المسلحة لإضعاف موسكو وحليفها في سوريا.

وبعد المضي في المخطط إلى نهايته بالإعلان عن انتصار المعارضة وإسقاط نظام الأسد، تتخوف الولايات المتحدة من أن يرتد منح كامل السيطرة والنفوذ للجهاديين عكسيًا على شركائها الأكراد، كما تتخوف إسرائيل من التحولات، فهناك نظام جديد سوف يتشكل ليس من الضروري أن يسيطر عليه فصيل إسلامي واحد، وأن المعارضين يتشكل تحالفهم من كيانات متباينة تتفاوت في مستويات التشدد، وحدها هدف إسقاط النظام وقد تفرقها خلافات بشأن التعامل مع الواقع الجديد.

يشبه مشهد استيلاء هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة الأخرى على المدن السورية الواحدة تلو الأخرى وصولًا إلى دمشق وهروب الرئيس الأسد ما حققته حركة طالبان في أفغانستان عام 2021، خاصة أن هناك إلهاما متبادلا بين الجانبين، ومن الوارد أن تحدث صراعات بين الفصائل الجهادية بعد السيطرة على السلطة، ناهيك عن وجود حضور لتنظيم داعش، ما يعيد إلى الأذهان تنامي نشاط داعش خراسان ضد سلطة طالبان عقب هيمنتها الثانية على السلطة في كابول.

لن تنجح الفصائل المسلحة بمفردها لأن حكم سوريا ثقيل جدًا سياسيًا وثقافيًا وحضاريا وعسكريًا، والانتصارات التي تحققت بحاجة إلى المحافظة عليها ميدانيًا كما أن دمشق والمدن والقرى والبلدات بحاجة إلى إدارة وتعويض وغذاء ودواء ووقود، وهو ما لا تقدر عليه الفصائل وحدها.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى