هاني المصري يكتب – مستقبل القوى السياسية الفلسطينية
هاني المصري ٢-١٠-٢٠١٨
بدعوة من جمعية يوم القدس، الجمعية الرائدة برئاسة الدكتور صبحي غوشة أطال الله في عمره، شاركت في الندوة التاسعة والعشرين التي نظمتها في عمّان بعنوان “القضية الفلسطينية … رؤية إستراتيجية مستقبلية”، بورقة تحت عنوان “مستقبل القوى السياسية الفلسطينية”.
تطرقت في الورقة إلى أن الدراسات الإستراتيجية تعني دراسة مختلف الاحتمالات التي يمكن أن تسير بها الأحداث، سواء أكانت مرغوبة أم مكروهة، ممكنة أم صعبة أم مستحيلة. فقد تطرأ متغيرات تجعل المستحيل ممكنًا، خاصة أن الدراسات المستقبلية مع اعتمادها على قواعد البحث العلمي لا تتحدث بيقين كامل لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، وإنما هي عمل نسبي قابل للصحة أو الخطأ مثلها مثل أي عمل بشري، ونحن في عصر يمكن أن نطلق عليه بدون تردد عصر “التغير السريع”.
أما التفكير الإستراتيجي فيختلف عن الدراسات المستقبلية في أنه يحدد هدفًا أو أهدافًا ويعمل على توفير متطلبات تحقيقه/ا.
هذه المقدمة ضرورية حتى أقدم وجهة نظري حول الموضوع المطروح قيد البحث.
كان لا بد قبل التطرق إلى مستقبل القوى السياسية الفلسطينية التعرض إلى مستقبل النظام السياسي الذي تعمل فيه، وهذا وذاك يتطلبان الإجابة عن ثلاثة أسئلة: أين تقف القضية الفلسطينية الآن، وإلى أين تريد أن تصل، وكيف تصل إلى ما تريد؟
في الإجابة عن السؤال الأول يؤسفني أن أقول إن القضية الفلسطينية رغم كل عناصر القوة والصمود والآفاق الرحبة التي تملكها في وضع صعب جدًا، وقد تكون في وضع أصعب من وضع ما بعد النكبة، ومهددة بوقوع النكبة الثالثة المتمثّلة باستكمال إقامة “إسرائيل الكبرى”، من خلال ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل أو القسم الأكبر منها، واستمرار سيادة إسرائيل من النهر إلى البحر، وفرض حكم ذاتي في المعازل المنفصلة عن بعضها البعض في الضفة الغربية ومعزل غزة، إذ يمكن أن ترتبط أو لا ترتبط ببعضها البعض، أو ترتبط معازل الضفة بالأردن ومعزل غزة بمصر.
توحي العديد من المؤشرات القائمة والمرشحة للاستمرار إلى ذلك، أهمها:
استمرار وتكثيف الاستعمار الاستيطاني، إذ بلغ عدد المستعمرين المستوطنين في الضفة الغربية حتى الآن حوالي 830 ألف، وسط مخططات لرفع العدد خلال سنوات قليلة إلى مليون، وفي وقت أعلن فيه يوآف غالانت، وزير الإسكان الإسرائيلي، عن وجود مخطط لإقامة مليون وحدة استيطانية جديدة خلال السنوات العشرين القادمة، 20-30% منها في القدس.
يبلغ معدل النمو السكاني الاستيطاني السنوي 4.1%، وإذا استمرت المعطيات القائمة الآن في التواجد يمكن أن يصبح عدد سكان إسرائيل بعد عشرين سنة ثلاثين مليون، على الأقل ،وعند توزيع السكان على المساحة فيعني هذا أن كل مواطن سيقيم على متر مربع تقريبًا، ما يجعل التهجير النوعي والقسري للفلسطينيين مطروحًا بقوة، مع أن تنفيذه ليس سهلًا ولكنه أمر قيد البحث للتوصل إلى تحقيقه في وقت مناسب.
إن المطّلع على الأفكار والمخططات الإسرائيلية يستنتج أن الأمور تتجه نحو الأسوأ، إذا لم يغير الفلسطينيون والعرب ما بأنفسهم. فهناك خطة يطلق عليها “خطة الحسم”، أول نقطة فيها تهجير الفلسطينيين، وهناك خطة أفيغدور ليبرمان المعروفة حول تبادل الأرض والسكان، وخطة “غيورا آيلاند” حول ضم 720 كيلو مترًا مربعًا من سيناء لغزة، وخطة مردخاي كيدار حول “الإمارات السبع”، وخطة الأردن فلسطين “الوطن البديل”، والخيار الأردني، عبر مسميات خادعة كونفدرالية ثنائية أردنية فلسطينية، وخطة فصل الضفة عن القطاع … كل ذلك ضمن صيغة حكم ذاتي.
أما الذين يتحدثون عن دولة فلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس فلا وجود لهم تقريبًا. حتى حزب “ميرتس” يوافق على دولة مع تبادل أراضي، أي ليست على حدود 67. وعندما نقرأ عن زعماء في إسرائيل أو استطلاعات تشير إلى نسبة أكثر من 40% يؤيدون دولة فلسطينية فهم لا يعنون دولة كما تعرف الدول، وإنما دولة على جزء من الأرض المحتلة وذات سيادة من اختراع جديد سبق أن أشار إليه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو خلال خطابه في مئوية وعد بلفور في لندن.
هناك مؤشرات أخرى تؤكد التطور السيئ للأحداث، منها الشروع في تطبيق صفقة ترامب من دون ردة فعل فلسطينية وعربية بمستوى خطورتها إذ رُفِضَت فلسطينيًا وعربيًا، ولكن من دون توفير متطلبات إحباطها.
ومن المؤشرات: إقرار “قانون القومية” العنصري، الذي حوّل الممارسات والسياسات والقوانين العنصرية إلى مستوى دستور يشرعن كل ما جرى ويؤسس لما هو قادم من إقامة “إسرائيل الكبرى”، ومع فإن ردة الفعل الفلسطينية والعربية ضده أيضا جاءت دون الحد الأدنى المطلوب.
المؤشر الأخطر الذي ينذر استمراره بالوصول إلى النكبة الثالثة هو تغييب المشروع الوطني وتخفيض سقفه وتآكل النظام الفلسطيني بمختلف مؤسساته داخل السلطة والمنظمة، وتحوله إلى نظام حكم فردي يتحكم به فرد واحد، ولصالح سلطة يجري تكييفها أكثر وأكثر مع الوقائع والحقائق التي يقيمها الاحتلال. فالسلطة القائمة الآن أسوأ من تلك التي قامت بعد توقيع تفاق أوسلو وأصبح لدينا سلطتان تتنازعان تحت الاحتلال.
أكبر مثال على ما سبق الاستمرار في مسيرة تقزيم المنظمة وتهميشها منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن، وتحويلها مؤخرًا بعقد مجلس وطني بمن حضر وعقد مجلس مركزي بعد تفويضه بصلاحيات المجلس الوطني كلها في خطوة غير قانونية تنذر بالشرور وعظائم الأمور، إلى فريق سياسي يمثل لونًا واحدًا، وليس الحفاظ عليها ،كما هي ممثلًا شرعيًا وحيدًا للفلسطينيين أينما تواجدوا.
كما يعاني الوضع الفلسطيني من فقدان أو نقصان الشرعية جراء فشل الإستراتيجيات المعتمدة، ووصولها جميعا إلى. ريق مسدود بغض النظر عن الاختلافات في الظروف والأسباب ،وعدم عقد الانتخابات بشكل دوري ومنتظم ما يحول دون شرعية صناديق الاقتراع، وتحول المقاومة إلى “عنف وإرهاب” ملاحق، أو أداة لخدمة استمرار السلطة في القطاع وليست إستراتيجية للتحرير ما حال دون توفر شرعية المقاومة، ووقوع الانقسام وتعمقه أفقيًا وعموديًا وسيره نحو التحول إلى انفصال دائم وعدم نجاح كل الجهود والمبادرات في استعادة الوحدة الوطنية، ما يحول دون توفر شرعية الوفاق الوطني.
في ضوء ما سبق، فإن السيناريوهات المحتملة للوضع الفلسطيني يمكن تلخيصها في الآتي:
سيناريو بقاء الوضع على ما هو عليه دون تغيير دراماتيكي، من خلال بقاء المؤشرات الأساسية على ما هي عليه من دون استئناف ما يسمى “عملية السلام”، ولا تحول الانقسام إلى انفصال، في نفس الوقت عدم تحقيق المصالحة، والاستمرار في رفض “صفقة ترامب”. وهذا السيناريو ممكن الاستمرار في فترة زمنية ليست طويلة، لأن مختلف المؤشرات المتوفرة تدفع – إذا لم تظهر معطيات جديدة جوهرية فلسطينية وعربية ودولية – باتجاه نجاح إسرائيل بخلق أمر واقع يعبّد الطريق لإقامة “إسرائيل الكبرى”.
سيناريو التدهور نحو الأسوأ من خلال تغيير الموقف الفلسطيني من الإدارة الأميركية، عبر الاستناد إلى أن السياسة الأميركية ضد الفلسطينيين وصلت إلى ذروتها، والوهم بأن الباب الآن سيفتح لدفع ثمن إسرائيلي كما صرح دونالد ترامب، وبما يؤدي إليه ذلك من استئناف العلاقة السياسية الفلسطينية الأميركية وما يسمى “عملية السلام”.
وهذا السيناريو محتمل الحدوث، وممكن أن نشهد فيه استئناف العلاقات السياسية الأميركية الفسطينية والمفاوضات، واستمرار الوقائع الإسرائيلية على الأرض. كما يمكن أن يشهد عدوانًا إسرائيليًا على قطاع غزة لإخضاعه. وفي ظل هذا السيناريو أيضًا، يمكن إحياء فكرة الكونفدرالية الثنائية بين الأردن وفلسطين أو الثلاثية مع إسرائيل، كطريقة للتحايل على الخلافات حول الحدود والقدس، ولجعل الاستيطان مباحًا وشرعيًا، وللتغطية على الحل الإسرائيلي بغطاء فلسطيني وعربي ودولي حتى بدون توقيع اتفاقيات.
سيناريو الوحدة على أساس الرزمة الشاملة، وهو سيناريو مفضل، غير أنه مستبعد حتى الآن ما لم تظهر معطيات جديدة. ولا بد من العمل من أجل تحقيقه رغم صعوبته، لأنه يشكل طريق الخلاص الوطني. ويتحقق هذا السيناريو من خلال الشروع في حوار وطني لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية، تحقيقًا لمبدأ الرزمة الشاملة، ضمن صيغة لا غالب ولا مغلوب، بحيث تتضمن الاتفاق على برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة، إضافة إلى تغيير طبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها لكي تصبح أداة من أدوات المنظمة، في سياق إعادة بناء مؤسسات المنظمة وتصبح تضم مختلف ألوان الطيف.
على الرغم مما تطرقت إليه الورقة من وقائع سيئة تلقي بظلالها على القضية الفلسطينية، إلا أن هناك العديد من العوامل التي تدعو إلى الأمل والتفاؤل، ومنها: عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، والتحول العالمي المتزايد نحو الاعتراف بهذه الحقيقة؛ تصميم الشعب الفلسطيني على مواصلة الكفاح والصمود، رغم كل التضحيات الغالية والخسائر الجسيمة، ورغم عدم تحقيقه إنجازات بحجم التضحيات، فهو لا يزال مصممًا ومستعدًا لمواصلة كفاحه دفاعًا عن حقوقه وأرضه ومقدساته، ولا يزال نصف الشعب الفلسطيني صامدًا على أرض وطنه؛ الأبعاد العربية والإسلامية والدولية والتحررية الإنسانية للقضية الفلسطينية، بما يدل على أنها قضية جامعة تستقطب التأييد من مختلف الدول والأطراف والجماعات والأحزاب، وقابلة للاستخدام من مختلف الأطراف، ما يجعلها عنصرًا مهمًا في تحقيق أو عدم تحقيق الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم.
كما أن من العوامل التي تدعو إلى التفاؤل اقتراب التغييرات التي تحدث في المنطقة العربية والإقليم والعالم من نهايتها، وصعود أدوار بلدان مثل تركيا وإيران، وهي تنازع وتنافس الدور الإسرائيلي الذي يهدف إلى فرض هيمنته على المنطقة، إلى جانب تراجع الدور الأميركي في المنطقة والعالم بشكل ملحوظ، وتعمق ظاهرة التعددية القطبية، إذ تتقدم الصين على طريق تبوء دور الدولة الأقوى في العالم، كما تتقدم روسيا والهند واليابان ودول في أوروبا وأميركا اللاتينية، إضافة إلى أزمات تواجه إسرائيل رغم كل عناصر القوة والتفوق التي تتمتع بها، فهي لم تعد وحدها الدولة المهيمنة والتي يمكن أن تهيمن على الشرق الأوسط، وتراجعت أهميتها ودورها الوظيفي لدى الدول الاستعمارية، فضلًا عن أنها تعاني من خلافات وأزمات داخلية حول من هو اليهودي وجوهر الدولة ومستقبلها، إضافة إلى تزايد الإرهاصات لتشكيل تيار وطني عابر للتجمعات والفصائل،وتشكيل مجموعات وملتقيات ومؤتمرات تبحث وتعمل من أجل شق طريق للخلاص الوطني، ويزيد من هذا الاتجاه عدم قيام القيادة والقوى القائمة بتوفير متطلبات مواجهة التحديات والمخاطر القائمة.