أقلام وأراء

هاني المصري : مجلس وطني توحيدي أم لتكريس الانقسام؟


بقلم : هاني المصري، ٦ مارس ٢٠١٨ :
هناك احتمال لا يستهان به أن يعقد المجلس الوطني، الذي يعتبر أعلى سلطة فلسطينية، قبل نهاية هذا العام، وربما قبل شهر رمضان القادم، وإن حصل ذلك، فعلى الأغلب سيعقد في رام الله على غرار المجلس المركزي، وسيكون مجلسًا عاديًا لا تشارك فيه حركتا حماس والجهاد، وربما الجبهة الشعبية، وغيرها، ما سيكرس الانقسام ويعمقه ويحوله إلى انفصال.
لا بد من التذكير أنّ آخر اجتماع عادي للمجلس كان قبل أكثر من عشرين عامًا (1996)، أي قبل وقوع الانقسام بسنوات طويلة، ولم يعقد المجلس بعد ذلك إلا جلسة استثنائية في العام 2009، بهدف ملء الفراغ في اللجنة التنفيذية الناجم عن وفاة ستة من أعضائها، والذي أخل بنصاب عقد الاجتماعات. أما الاجتماع الشعبي الذي عقد في العام 1998، بحضور الرئيس الأميركي بيل كلنتون، لتغيير الميثاق الوطني، فلم يعتبر لا جلسة عادية ولا استثنائية للمجلس الوطني، وإنما مهرجان احتفالي لا أكثر ولا أقل.
لم يعقد المجلس الوطني التوحيدي لا بعد “إعلان القاهرة” في آذار 2005، الذي شاركت فيه فصائل المنظمة وحركتا حماس والجهاد الإسلامي، والذي نصّ على عقده، لأسباب تتعلق بالأوهام على قدرة اتفاق أوسلو والمفاوضات على التوصل إلى حل نهائي يتضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967، ولا بعد “اتفاق القاهرة” في العام 2011، الذي أكد على عقده، لدرجة تحديد صلاحيات قيادية للجنة تفعيل المنظمة (الإطار القيادي المؤقت) التي كلفت بالتحضير له.
وساهم أساسًا في عدم عقد المجلس الوطني أن السلطة التي من المفترض أنها أداة من أدوات منظمة التحرير تضخم دورها كثيرًا، بينما تقزم دور المنظمة التي بات ينظر إليها عمليًا كمؤسسة انتهى أو يكاد ينتهي عملها، وأصبحت وكأنها تنتظر القيام بدورها الأخير، وهو التوقيع باسم الشعب الفلسطيني على الاتفاق النهائي، ومن ثم الزوال، أو التحول للعب دور آخر شبيه بالدور الذي تلعبه “الوكالة اليهودية” بعد قيام الكيان الإسرائيلي، إذ تقوم بتشجيع هجرة اليهود إليه، وتنظيمها، وتسهيلها.
إن عقد المجلس الوطني من خلال توافق وطني يجب أن يكون في سياق إعادة الاعتبار للقضية الوطنية والبرنامج الوطني، الذي بحاجة إلى تعديل وتغيير يتناسب مع الدروس والعبر المستخلصة من التجارب السابقة، ومن الحقائق الجديدة، والخبرات المستفادة، ومن حقيقة أن الإستراتيجيّات المعتمدة، سواء المفاوضات الثنائية، أو المقاومة المسلحة الأحادية، وصلتا إلى طريق مسدود.
كما لا بد أن يأتي في سياق إعادة بناء المؤسسة الوطنية الجامعة والقيادة الواحدة، وما يقتضيه ذلك من إعادة البحث في تطوير أسس التمثيل، بما يضمن مشاركة حقيقية للمرأة إلى جانب الرجل ومن مختلف التجمعات والأطياف التي تؤمن بالمشاركة، ومراجعة وتغيير وتجديد مكونات مؤسسة شاخت وترهلت وتقادمت، لدرجة ساهم عجزها وغيابها وتغييبها بشدة في وصول الوضع الفلسطيني إلى الوضع البائس الذي نعيشه.
تكفي الإشارة إلى أن معدل أعمار أعضاء المجلس الوطني في شعب معظمه من الشباب تجاوز السبعين عامًا، ما حال دون مشاركة الأجيال الشابة التي من شأن مشاركتها إضفاء الحيوية والطاقة والإبداع، ومواكبة التغييرات والمستجدات باستمرار في المؤسسات الفلسطينية .
إن تجاهل كل ما سبق، بما فيه أن الهوة بين القيادة والفصائل والشعب باتت واسعة ومرشحة للمزيد من الاتساع؛ سيجعل عقد المجلس القديم بعد ترميمه فقط من خلال تغيير الفصائل والاتحادات لممثليها، وقيام القيادة باختيار العسكريين وبدل المستقلين المتوفين، بوابة لإعادة إنتاج القديم. وهذا سيكون أشبه بإطلاق رصاصة الرحمة على منظمة التحرير التي تعيش في غرفة العناية المشددة منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن.
إن وصول اتفاق أوسلو إلى الفشل التام كان ولا يزال يستدعي الاهتمام بإحياء المنظمة وإعادة بناء مؤسساتها بصورة تضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وتغيير المسار بشكل شامل، بما يتناسب مع تنكر إسرائيل لالتزاماتها في الاتفاق، وسعيها لإقامة “إسرائيل الكبرى”، وتعذر إنجاز السيادة والاستقلال للدولة الفلسطينية التي أعلن عن قيامها في العام 1988، وحصلت على الاعتراف الأممي العام 2012.
ما الذي يفسر الخطط لعقد المجلس بدورة عادية، حتى ولو بمن حضر؟
تتلخص الذرائع الأساسية التي تساق لتبرير ذلك بـ:
أولًا: إن عقد المجلس الوطني القديم بات ضرورة حيوية لإنقاذ الشرعية من التآكل التام بعد مرور هذه الفترة الطويلة، وتعاظم التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، خصوصًا في ظل التحول في الموقف الأميركي من الانحياز لإسرائيل إلى الشراكة مع الاحتلال والعمل معه لفرض الحل الإسرائيلي .
ثانيًا: إن عقد مجلس وطني توحيدي يتطلب أولا إنهاء الانقسام كون عقده من دون توحيد مؤسسات السلطة بالضفة وغزة تحت مظلة الشرعية كما كانت قبل “الانقلاب/الحسم”، سيمنح سلطة “الانقلاب” الشرعية. وهذا الرأي ينطوي على قدر من الوجاهة، ولكنه لا يبرر عقد مجلس وطني يكرس الانقسام، بل يتطلب تكثيف الجهود لإنهاء الانقسام، وخصوصًا أن محاولة احتكار القيادة والمؤسسات الفلسطينية من فصيل هنا وآخر هناك باءت بالفشل على جميع المستويات، وفي ظل الأخطار الهائلة المتعاظمة التي تهدد الكل الفلسطيني من المفترض أن تجعل الوحدة أكثر وأكثر ضرورة لا غنى عنها وليست مجرد خيار من الخيارات.
يضاف إلى ما سبق أن تجديد المؤسسة الوطنية وتفعيلها ضروري للاستعداد لخلافة الرئيس محمود عباس، الذي تحدّث في اجتماع المجلس الثوري الأخير لحركة فتح بأن خطابه يمكن أن يكون الأخير، فيما يشير إلى احتمال تسليمه الأمانة، وخصوصًا أن هذا الشهر يشهد ميلاده الثالث والثمانين.
الأنكى والأمر أن التفكير بعقد مجلس وطني من دون توافق وطني يحدث في وقت مُلئت فيه الدنيا ضجيجًا عن محاولة التوصل إلى المصالحة، التي بدأت برعاية مصرية منذ شهر تشرين الأول الماضي، ولا تزال عالقة تحت رحمة “تمكين الحكومة”، المصطلح المطاطي الذي يفهمه كل طرف بما يناسب أهواءه ومصالحه.
فـ”حماس” تدعي أن تمكين الحكومة قد تحقق، وعليها الآن أن تتحمل مسؤولياتها إزاء الموظفين الذين عينتهم إبان فترة الانقسام.
أما “فتح” فتقول إنّ التمكين لن يتحقق إلا عندما تسيطر الحكومة على الوزارات والأمن والجباية والقضاء وسلطة الأراضي، وصولًا إلى سلاح المقاومة، تحقيقًا لسيادة سلطة واحدة وسلاح واحد، وهذا لا يزال بعيد التحقق.
المطلوب والممكن إذا توفرت القناعة والإرادة التركيز على حل هذه العقدة، من خلال الأخذ بحل الرزمة الشاملة التي تتضمن مسارات عدة تسير معًا وبشكل متوازٍ وشبه متزامن، إذ تُمكّن الحكومة في نفس الوقت الذي يتم فيه الحوار والبحث في مسار آخر للاتفاق على أسس وقواعد الشراكة الحقيقية، والبرنامج الوطني، ووضع خطة قادرة على إحباط صفقة ترامب، والسير في مسار ثالث لتغيير وظائف السلطة والتزاماتها، ومسار رابع للاتفاق على إعادة بناء مؤسسات المنظمة، والاحتكام إلى الشعب بإجراء انتخابات حيثما أمكن، ووضع أسس ومعايير للاختيار حيثما يتعذر إجراء الانتخابات، بحيث يعرف كل فصيل ماذا عليه أن يقدم وعلى ماذا سيحصل ليخرج الجميع والوطن والقضية منتصرين.
لقد انتهت مرحلة وتطل برأسها مرحلة جديدة، بدليل الشروع في تطبيق “صفقة ترامب” قبل طرحها رسميًا على أساس أنها تهدف إلى شرعنة الأمر الواقع الذي أقامه الاحتلال منذ وقوعه.
وهذا يعني أن اللعبة القديمة انتهت بكل قواعدها على يد حكام واشنطن وتل أبيب، إذ لا ينفع الشعب الفلسطيني وقواه الحية، بل يضره، هدر الوقت والجهد بمحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والحنين إلى اللعب بالقواعد القديمة.
إنّ التجربة السابقة بخطابها وشخوصها وأدواتها ومفاوضاتها واتفاقاتها أصبحت من الماضي، وشهدت أخطاء قاتلة بما يدقّ أبواب التغيير والتجديد والإصلاح الديمقراطي الجذري الآن الآن وقبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى