هاني المصري : على هامش تفجير موكب رئيس الحكومة
بقلم : هاني المصري ، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات “مسارات”، ٢٠-٣-٢٠١٨م
أوحت جريمة تفجير موكب رئيس الحكومة، للوهلة الأولى، بأن الجهود التي تبذل لإنجاح الجولة الجديدة من جولات المصالحة تبخرت، وأن الأمور ستعود إلى نقطة الصفر، أي إلى ما قبل الرعاية المصرية.
وأذكى هذا التوقع العديد من التصريحات التوتيرية التي جرى فيها تبادل الاتهامات، لدرجة صَوَّرَ مطلقيها أن اتهاماتهم صحيحة، والإنذار بأن الأمور بعد هذه العملية الإجرامية لن تعود بعدها إلى ما كانت عليه قبلها، ما يوحي بأن قرارات غير عادية يمكن اتخاذها وسط ادعاءات متبادلة بأن منفذي العملية في روايتين متضادتين كليًا: الأولى، أن المنفذين ينتمون إلى جناح متطرف في حركة حماس، والثانية، أنهم من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية.
ولكن، بعدما “ذهبت السكرة وجاءت الفكرة”، تيقن مختلف الأطراف بصورة متزايدة وبضغط مصري مستمر أن عملية المصالحة، مع أنها شكلية، يجب أن تستمر، فلا أحد يريد أن يتحمل المسؤولية عن انهيارها، لأن البديل عنها أسوأ، وتم تجريبه سابقًا، وقادنا إلى ما نحن فيه من وضع كارثي.
في كل الأحوال، أشعلت الجريمة الأضواء الحمر لما يمكن أن نصل إليه من فوضى وفلتان أمني واقتتال ما لم يتم تدراك الموقف. كما طرحت الأمن بقوة، وجعلته على رأس جدول الأعمال بعدما جرى تأجيله إلى مرحلة متأخرة ضمن المساعي لتمكين الحكومة، حيث تم البدء بتمكينها في الجهاز المدني الذي لا يزال عالقًا في دوامة من يسبق من: تمكين الحكومة بشكل كامل، بما يشمل تسليم الجباية المالية لوزارة المالية أولًا، أم الالتزام بصرف سلف لرواتب الموظفين المدنيين كخطوة أولى على طريق اعتمادهم، وصرف رواتبهم فيما بعد على طريق صرف رواتب جميع الموظفين، بمن فيهم الأمنيين؟
قلنا سابقًا ونؤكد حاليًا، ضرورة الاتفاق على الملف الأمني بمختلف جوانبه والشروع في تطبيقه منذ البداية، لأن تأجيله وصفة مؤكدة للفشل، فلقد سقطت حكومة الوحدة الوطنية عقب توقيع “اتفاق مكة” في شباط 2007 على صخرة الخلاف حول مسؤولية الأمن، إذ لم يتمكن وزير الداخلية من ممارسة سلطاته وصلاحياته على الأجهزة الأمنية التي كانت تحت إمرته، ما دفعه إلى الاستقالة، وصولًا إلى انهيار حكومة الوحدة.
على هذة الخلفية التي توضح أهمية الأمن، أكدت وثيقة الوحدة الوطنية التي أنتجها مركز مسارات في العام 2016 في سياق الحوارات والمبادرات التي بذلت لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، على ضرورة الالتزام بتطبيق ما جاء في اتفاق القاهرة كرزمة شاملة، تشمل: الحكومة، والمنظمة، والأمن، والانتخابات، والمصالحة المجتمعية، وعلى إضافة قضيتي البرنامج السياسي وأسس الشراكة.
في هذا السياق، لا يمكن التقدم على طريق تمكين الحكومة وتأجيل الاتفاق على كيفية التعامل مع المقاومة والمفاوضات والعملية السياسية وصفقة ترامب … إلخ. كما لا يمكن تمكين الحكومة من دون أن تكون سيطرتها كاملة على مختلف المجالات، وخصوصًا الأمن، ولا يمكن أن تسمح “حماس” بذلك، أي أن تغادر الحكم كليًا وليس الحكومة فقط، من دون ضمان أن تصبح شريكة في السلطة والمنظمة.
من هنا، تكتسب أهمية فائقة مسألة تطبيق ما جاء في اتفاق القاهرة حول إعادة بناء الأجهزة الأمنية، وتجديدها، وإصلاحها، وتفعيلها على أسس وطنية ومهنية بعيدًا عن الحزبية.
كان من توصيات برنامج نحو إصلاح وتوحيد قطاع الأمن الفلسطيني الذي نفذه مركز مسارات، أنه يصعب تحقيق مصالحة حقيقية من دون بلورة سياسات أمنية فلسطينية توافقية، تؤدي إلى نشوء قيادة موحدة للمؤسسة الأمنية خاضعة للسلطة السياسية العليا، وتساعد على بلورة رؤية موحدة لإعادة هيكلة المؤسسة الأمنية مستقبلًا بصورة تتناسب مع الاحتياجات الأمنية الفلسطينية.
ولا يمكن تحقيق ذلك من دون أن تصبح الأجهزة الأمنية أجهزة وطنية مهنية في الضفة والقطاع، إذ لا ينتمي أفرادها وكوادرها وقادتها إلى هذا الفصيل أو ذاك، تطبيقًا لما هو وارد في القوانين الفلسطينية ذات الصِّلة، في ظل استمرار هيمنة وسيطرة الفصائل، وتحديدًا “فتح” و”حماس” على الأجهزة الأمنية في الضفة والقطاع.
إن استمرار هذا الواقع يؤدي إلى عدم الفصل بين السلطة، وخاصة الأجهزة الأمنية، والأحزاب، ما يعني وصفة مؤكدة لتحول كل خلاف جوهري بين الفصائل إلى اقتتال، أما إذا كانت الأجهزة تخضع لسيادة القانون وللمؤسسات الوطنية الموحدة، وتعبر عن مصلحة الشعب لا الفصيل فالأمر مختلف في هذه الحالة، لأن الخلاف سيحل ضمن الأطر السياسية الشرعية بطريقة سلمية وديمقراطية.
وكان من توصيات البرنامج المذكور البدء بإعادة بناء جهاز الشرطة في الضفة والقطاع، ووضع الأسس والمعايير الكفيلة بتحقيق ذلك، خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر، وتعميم التجرية بعد ذلك على مختلف الأجهزة.
إن الاندماج ما بين الأجهزة الأمنية والفصائل نابع من طبيعة المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني بوصفها حركة تحرر وطني، تعطي الحق في مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال التي يقرها القانون الدولي، ولم يتم استيعاب أن تأسيس السلطة أوجد تداخلًا ما بين طبيعة مرحلة التحرر الوطني ومتطلبات بناء السلطة، مما يوجب الفصل ما بين الأجهزة الأمنية والفصائل.
إن السلطة بناء على ما سبق، وفي ضوء وصول اتفاق أوسلو وبرنامج التوصل إلى حل سياسي يتضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية عبر المفاوضات، والرهان على المجتمع الدولي، وتقديم التنازلات، وإثبات حسن النية؛ إلى طريق مسدود، أصبحت بحاجة ملحة إلى تغيير طبيعتها ووظائفها والتزاماتها، لتصبح أداة في خدمة المنظمة والبرنامج الوطني. ويمكن أن يتم ذلك من خلال عملية تراكمية إلا أنها يجب أن تبدأ وتكتمل.
بعد تغيير السلطة على هذا الأساس، يمكن ويجب تطبيق شعارات سلطة واحدة وسلاح واحد، شريطة أن تكون هناك قيادة واحدة تمثل مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي.
أما بالنسبة إلى سلاح المقاومة، فهناك ترتيب آخر من المفترض وضعه بما يستجيب لحق الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال بالمقاومة، ويتناسب مع المنطقة والظروف الخاصة التي تميز كل تجمع فلسطيني، فما يناسب الضفة المحتلة بشكل مباشر والتي تتعرض مختلف مناطقها لاقتحامات يومية لا يناسب قطاع غزة المحتل من خلال الحصار والعدوان، ما يحول دون وجود أجنحة عسكرية للمقاومة في الضفة، في حين سمح بوجودها في القطاع، حيث شاهدنا كيف حالت المقاومة رغم الثمن الباهظ دون تمكين الاحتلال من تحقيق أهدافه من خلال العدوانات الثلاثة التي شنها على غزة.
لا يعقل أن يكون الحل من خلال تفكيك الأجنحة العسكرية للمقاومة التي من المفترض أنها أنشئت من أجل التحرير، ويجب أن تبقى ما دام التحرير والتسوية ليسا على الأبواب.
طبعًا، لا يعني هذا تبرير استخدام الأجنحة العسكرية كأدوات للصراع والتنافس الداخلي لحماية مصالح مراكز القوى، أو هذا الفصيل أو ذاك، فكما رأينا أصبحت المقاومة في خدمة السلطة وليس العكس.
يمكن التعامل مع الأجنحة العسكرية وفق ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني أو أي صيغة شبيهة بها، حيث نصت على “تشكيل جبهة مقاومة موحدة باسم جبهة المقاومة الفلسطينية، لقيادة وخوض المقاومة ضد الاحتلال، وتوحيد وتنسيق العمل والفعل المقاوم، والعمل على تحديد مرجعية سياسية موحدة لها”.
ختامًا، نعم، تستدعي جريمة التفجير إجراء تحويل في مسار المصالحة القائمة، بحيث تعتمد معادلة لا غالب ولا مغلوب، أي خروج الجميع منتصرين، ولا تقتصر على تمكين الحكومة، وإعطاء الأولوية للجانب المدني، وإنما أن تسير ضمن مسارات متعددة بشكل متوازٍ وليس بالضرورة أن يكون متزامنًا تمامًا، تشمل البرنامج الوطني، والسلطة/الدولة، والمنظمة، والانتخابات، وبحيث يكون الأمن وتلبية احتياجات الناس المعيشية وحقوقهم المدنية ومقومات صمودهم ضمن الأولويات الملحة غير القابلة للتأجيل.