ترجمات عبرية

هارتس: غزة المدمرة مرآة لخراب الروح الإسرائيلية

هارتس 28-3-2024، بقلم ميخائيل سفارد: غزة المدمرة مرآة لخراب الروح الإسرائيلية

في صور قطاع غزة المدمر لا توجد ألوان، توجد فقط درجات مختلفة من اللون الرمادي، مزيج من الباطون الذي تم تدميره واقتلاعه وتفجيره وتحطيمه. في الصور الوحيدة لغزة المدمرة، التي تتجرأ وسائل الإعلام الإسرائيلية على بثها، نتاج صور حوامات أو طواقم تصوير دخلت مع قوات الجيش الإسرائيلي وبرعايتها، لا يوجد أشخاص، لا يوجد أطفال وهم يبكون والذين بقوا بدون آباء، لا يوجد نساء يبحثن بيأس عن نبتة برية ربما نبتت في مكان كان ذات يوم شارعاً معبداً من أجل استخدامه كطعام. لا يوجد شيوخ حكم عليهم أن يعيشوا آخر عمرهم في معاناة لا يمكن وصفها وهم محرومون من كل شيء. صور غزة المدمرة صامتة، منغلقة، عنيفة وليس فيها أمل. الصور التي تأتي من غزة تذكرنا بدرسدن ووارسو وابراج التوائم بعد الهجوم الارهابي في 11 ايلول. نفس جماليات الدمار الشامل ليوم القيامة.

الصهيونية مثل أي حركة وطنية مبنية على الاسطورة والرحمة والروح. الصهيونية لها اساطير كثيرة من ابرزها كذبة «ارض بدون شعب لشعب بدون ارض»، الأسطورة المزدوجة للشتات والحنين المستمر لعودة اليهودية، الأرض الخالية التي تنتظر وهي خربة أصحابها. هذه الأسطورة المزدوجة توجه العملية الصهيونية لشعب لاجئين، الذي حول (ويواصل طوال الوقت التحويل) شعبا آخر الى لاجئين. أسطورة الخروج من مصر وأسطورة المكابيين، أسطورة عيد المساخر وأسطورة متسادا، جميعها أجزاء في الأسطورة الكبيرة التي تحكي للإسرائيليين اليهود قصة وجودهم في هذه البلاد. نسيج سردي ينسب لكل العالم نوايا الإبادة الجماعية ضد اليهود، في كل مكان وفي كل زمان («في كل جيل يقومون للقضاء علينا»، مثلما في أسطورة عيد الفصح).

تتطلب الرؤى المستمدة من الأسطورة الإسرائيلية قوة وعناداً يهودياً لا يرحم. «من جاء ليذبحك عليك أن تسبقه وتذبحه بنفسك». إن الرحمة الصهيونية تعزز الأسطورة وتجند الجمهور من اجل التضحية، وتربي على الشك، وتضيق نطاق الاحتمالات الى ثنائية «إما نقتلهم أو سيقتلوننا». والمثال الكلاسيكي على ذلك هو أقوال موشيه ديان (الأسطورة بحد ذاته) في تأبين روعي روتبرغ الذي قتل في ناحل عوز في 1956: «ملايين اليهود الذين تمت إبادتهم لأنه لم تكن لهم ارض، ينظرون إلينا من بين الرماد. تاريخ إسرائيل يأمرنا بالاستيطان وإعداد ارض لشعبنا. ولكن خلف تلم الحدود يثور بحر من الكراهية وامواج الانتقام، في انتظار اليوم الذي سيضعف فيه السلام يقظتنا، وهو اليوم الذي سنستمع فيه الى سفراء النفاق وهم يطلبون منا إلقاء سلاحنا».

الأسطورة والرحمة الصهيونية تسير وراء الوصف الكئيب لبلعام الذي وصف فيه بني إسرائيل، «سنعيش كأمة معزولة لا تهتم بالأغيار»، وسيملون علينا، نحن شعب إسرائيل، أجندة قومية وعسكرية وعرقية.

في المقابل، روح الصهيونية، أي طاقم القيم والرؤى التي يؤمن بها المجتمع الاسرائيلي تتفاخر بأنها تنطوي على تعقيد قيمي. يهودية، لكن ايضا «ديمقراطية». قوة عسكرية، لكن ايضا «طهارة السلاح». استقلالية ذاتية لا تحتمل الاملاءات من الخارج، لكنها «مخلصة لمبادئ وثيقة الامم المتحدة» (مثلما جاء في وثيقة الاستقلال)، وبالطبع تسعى الى السلام. ما معنى تسعى. السعي الى السلام هو اسمنا الأوسط. يمكنني كتابة عشرة مجلدات كبيرة تصف الفجوة الكبيرة بين الروح الإسرائيلية والواقع، لكن طالما أن الروح قائمة والمجتمع مخلص لها فان قوتها الأخلاقية ناجعة، حتى لو أنها غير حاسمة إلا أنها بمثابة وزن مضاد للعامل الذي تمليه الأسطورة والرحمة.

عصر نتنياهو سيعتبر في التاريخ كعصر تم فيه تحطيم مركبات الروح الإسرائيلية حتى آخر مركب فيها. أولا، القيم السلطوية والسياسية: طهارة المعايير، استقلالية جهاز القضاء، حرية التعبير، سلطة القانون على الحكام، كل ذلك تم طحنه في المطحنة التي توجد في مكتب رئيس الحكومة ورئيس الكنيست. لن تسمعوا بعد الآن بنيامين نتنياهو ومن يخدمونه وهم يتحدثون باسم هذه القيم. ثانياً، طهارة السلاح، ربما أنا فوتُّ الفرصة، لكن يبدو لي أنه منذ فترة طويلة أنا لم اسمع تكرار شعار «الجيش الاكثر اخلاقية في العالم»، حتى اكثر المعجبين بالجيش يصعب عليهم في هذه الايام تكرار هذا الشعار بجدية. مجتمع يقوم بتدمير المدن والبلدات والقرى، وقتل حتى الآن 32 ألف شخص معظمهم من المدنيين، وغارق حتى عنقه في التحريض على الإبادة الجماعية بدون أي رد من جهاز إنفاذ القانون، ويحول مليون ونصف شخص الى لاجئين معوزين «يتاجر» (علناً!) بجوعهم ويكتفي بتوبيخ انضباطي لضابط قام على مسؤوليته بتفجير جامعة – هذا المجتمع لم يعد قادرا على التفاخر بأنه يحمل رؤيا «طهارة السلاح». في ظل الألم والغضب المبررين ازاء جرائم حماس المخيفة والتي لا تغتفر فقد نجح اليمين في غرس روح بديلة: «القوي مُحق».

لكن ربما العرض الاكثر وضوحا لتحطم الروح الاسرائيلية هو معاملة الحكومة في اسرائيل ومؤيديها للمخطوفين وابناء عائلاتهم. يصعب التفكير في مبدأ اساسي ومقدس اكثر في المجتمع من مسؤوليته تجاه ابنائه الذين يوجدون في ضائقة. جميعنا تربينا على الادعاء (المشوه والمبالغ فيه بالطبع) بأن «شخصا يقع في الشارع في الخارج لا يتقدم نحوه أي أحد، ولكن في إسرائيل كل الحي يهب لمساعدته». التضامن المتبادل مهم دائما، لكنه حاسم وأكثر بأضعاف عندما يكون مصدر الضائقة التي وقع فيها المواطن يكمن في الفشل الذريع للسلطات، ويكون وليد الإهمال الذي لا يمكن تصوره للمسؤولين عن الدفاع عنه. لذلك، ماذا يمكن أن يكون اكثر أهمية للتكافل الاجتماعي من فدية الاسرى؟ إن تحطيم هذه القيمة هو المقدمة للخيط الأخير الذي يربط اليهود ويحولهم الى مجتمع.

ربما تكون هناك أوضاع لا يمكن فيها تحرير المخطوفين، وربما تكون حالات يكون فيها الثمن الذي يجب دفعه لإطلاق سراحهم يخلق معضلة حقيقية. لكن في حالتنا الثمن ليس هو القصة، بل الدفع بالغيبة الذي يختفي نتنياهو من ورائه، والذي بواسطته يقوم بتعويق الصفقة وباحتمالية عالية أيضا تفكك حكومته. هذه الدفع بالغيبة يتحطم إزاء النظرة المجرمة التي تحظى بها العائلات من الحكومة ومؤيديها. التحريض ضدهم، تهديدهم بأن لا يوجهوا انتقادات لاذعة لرئيس الحكومة، والتعامل معهم كمصدر إزعاج ومجموعة لها مصالح غريبة – إضافة الى طلبهم المبرر، إعادة أعزائهم فوراً. في بازل أسس هرتسل الدولة اليهودية. وفي ميدان المخطوفين الذي بدأ يفرغ بشكل متزايد بدأت تخسر بسرعة آخر قيمها العلنية.

لذلك فان منظر غزة المدمرة ليس فقط توثيقا للواقع في القطاع، بل هو أيضاً تمثيل مناسب لوضع الروح الإسرائيلية، محاكاة تامة مقرفة لروحنا القيمية. ليس فقط غزة بحاجة الى إعادة بناء، أيضاً الروح الإسرائيلية بحاجة الى ذلك، الأمر سيستغرق سنوات كثيرة لترميمهما.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى