هآرتس – مسغاف، الارشيفات لا تخفي عن الفلسطينيين، بل عن اليهود
هآرتس – بقلم آدم راز – 22/12/2021
” سياسة الاخفاء ليست موضوع يمين ويسار، يهود وعرب، ليبراليين ومحافظين، اشكناز أو شرقيين، بل هي قضية تقف في صلب الديمقراطية الاسرائيلية “.
عدد من المقالات والردود نشرت في اعقاب مقالي في “ملحق هآرتس” حول مقاطع من جلسات الحكومة من العام 1948، التي كشف عنها الآن. النقاش وصل بسرعة الى المقطع الذي فيه تم تقديم الحجج المعتادة مثل “العرب لم يوافقوا على خطة التقسيم” (لذلك، لا توجد مشكلة في طرد السكان غير المشاركين في القتال)؛ لو أنهم انتصروا لكانوا “ذبحوا” اليهود (لذلك، لا توجد مشكلة في أن اليهود ارتكبوا جرائم حرب)؛ مستوطنات يهودية تم اخلاءها اثناء الحرب (لذلك، يمكن أن نفهم لماذا طرد الجيش قرى كاملة وفجر بيوتها). من خلال الردود الكثيرة يبدو لي أن هناك مسألة واحدة تم التعتيم عليها وهي الاهمية الكامنة في كشف توثيق تاريخي تقوم الدولة باخفائه عن حرب الاستقلال.
مقالي تم تخصيصه لعدة جلسات للحكومة تم عقدها في تشرين الثاني – كانون الاول 1948، ناقشوا فيها بتوسع اعمال القتل التي ارتكبت في عملية يوآف وعملية حيرام. اجزاء كبيرة من محاضر الجلسات كانت مسودة عندما فتحت امام الجمهور قبل 26 سنة. الاطلاع على الاجزاء التي كشفت مؤخرا في اعقاب طلب قدمه معهد “عكفوت” (الذي أنا باحث فيه)، يدل على أنه كان هناك خلاف بين رئيس الحكومة في حينه دافيد بن غوريون ومعظم الوزراء فيما يتعلق بطريقة التعامل المناسبة مع جرائم الحرب التي ارتكبها الجنود والمواطنون اليهود. في العام 1995 قرروا في ارشيف الدولة بأن الجمهور في البلاد لا يجب أن يطلع على هذه المواد. يبدو أنه لم ينزعج كثيرون من اخفاء هذه الامور لسنوات.
المؤرخ الذي يهتم بالغوص الى جذور الحقيقة في قضية تاريخية يحتاج الى توثيق متنوع ونوعي. هذا الادعاء غبي. ولكن يبدو أن الجمهور الواسع يعطي اهتمام قليل للطريقة التي فيها يتحكم عدد قليل من الموظفين العامين بالقدرة على اجراء حوار يرتكز على حقائق حول تاريخ دولة اسرائيل والمجتمع الاسرائيلي، وخلال ذلك يستخدمون القوة التي اعطيت لهم للكشف عن مواد في الارشيف أو عدم الكشف عنها.
الدولة طورت جميع انواع الاساليب من اجل التصعيب على من هو معني بمعرفة نشاطها بواسطة التوثيق الموجود في الارشيف. الاسلوب الرئيسي هو الامتناع عن كشف التوثيق بمبادرة من الارشيف نفسه. عمليا، ارشيف الدولة وارشيف الجيش وارشيف جهاز الامن تخرق بشكل فظ قانون الارشيف وانظمة الاطلاع، ولا يحررون مواد انتهى مفعول الحظر عليها لاطلاع الجمهور عليها. الارقام تتحدث من تلقاء نفسها: في ارشيف الجيش يوجد تقريبا 12 مليون ملف. ولكن 50 ألف ملف فقط منها تم فتحها جزئيا أو بشكل كامل امام الجمهور. في ارشيف الدولة، الاصغر بكثير من ارشيف الجيش، الوضع افضل بقليل: حوالي 16 في المئة من الملفات فيه تم فتحها لاطلاع الجمهور. مع ذلك، ايضا حسب التعريف الاوسع، فانه الآن في الارشيفين معا، يوجد اقل من 6 في المئة من الملفات مفتوحة لاطلاع الجمهور عليها. ارشيفات مهمة اخرى، مثل ارشيف الشباك، مغلقة بشكل كامل (مؤخرا حرر الشباك عدد قليل من الصفحات من اجل أن يطلع عليها باحثون عنيدون بشكل خاص).
هل يعتقد أحد بأنه يمكن كتابة تاريخ شامل لاسرائيل بدون ارشيفات اجهزتها الامنية والتجسسية؟ هل يمكن كتابة تاريخ الجيش الاسرائيلي كما يجب في حين أنه فقط جزء من المواد مفتوحة في الارشيف؟ هل يمكن معرفة نشاطات الحكومة في الوقت الذي فيه محاضر جلساتها غير متاحة للاطلاع رغم أنه حسب القانون يجب أن تكون مفتوحة؟.
معهد “عكفوت” عثر ورسم في السنوات الاخيرة عدد من اساليب الاخفاء، تجنب الكشف هو أحدها فقط، يضاف الى ذلك نشاطات “المسؤول عن الامن في جهاز الامن” في العشرين سنة الاخيرة. من وراء ظهر الجمهور، ممثلو جهاز الامن يزورون ارشيفات خاصة ويأمرون طواقمها باغلاق مواد كانت مفتوحة للاطلاع. من المهم التأكيد على أن هذا الامر يتم بدون أي صلاحيات. في مقالي في الملحق اقتبست وثيقة أمر المسؤول عن الامن في جهاز الامن باغلاقها. عدد من المواد التي ترتبط بأحداث حدثت في حرب الاستقلال وفي فترة الحكم العسكري (1948 – 1966)، لا توجد فيها أي اسرار امنية. هل نحن نريد العيش في مجتمع اجهزته الامنية تتدخل بكتابة التاريخ؟.
جانب آخر من سياسة الاخفاء هو المعايير الواسعة التي بحسبها يكشفون توثيق تاريخي، عندما اخيرا يقررون فعل ذلك. هذه المعايير غير مكشوفة تماما، وتم تغييرها مع مرور الوقت، لكنها تتعلق بمسائل توجد في احدى الوثائق التي توجد لدينا، التي تناقش الكشف عن التوثيق، وقد تمت تسميتها بمواضيع “ذات حساسية امنية وسياسية وشخصية”. الوثيقة تعطي تفاصيل امثلة على توثيق تاريخي غير مفتوح للاطلاع، من “سلوك عنيف ضد السكان العرب” وحتى “طرد العرب” و “وضع سياسة ضد عودة العرب الى البلاد”. اذا كانوا في الارشيفات يمنعون فتح هذا التوثيق للاطلاع فكيف سيؤثر ذلك على كتب تاريخنا؟.
الاخفاء لا يتعلق فقط بنظرة الدولة لمواطنيها الفلسطينيين ولجرائم الحرب التي حدثت. في الوثيقة المذكورة كتب عن الحساسية التي توجد في كشف التوثيق عن “مواضيع يمكن أن تثير نقاش عام – سياسي”، مثل “المواد التي لم تكشف بعد عن منظمات الايتسل والليحي ومراقبة منشقين وشيوعيين في وحدات حساسة”، وحتى، يصعب التصديق، عن مواضيع دينية مثل “المس بالحلال”. توثيق كثير لمسائل مثل العلاقة مع المهاجرين أو التمييز الممأسس لعدد من المجموعات في المجتمع ما زال مغلق في الارشيفات. ايضا جلسات الحكومة التي رفع عنها التظليل تدل على ذلك. على سبيل المثال الآن رفع التظليل عن الاقوال المتبادلة بخصوص تجميع عرب يافا في “غيتو”، وعن وصف عدد من المهاجرين كنماذج مشوشة عقليا. التجرية تعلم أن هناك مادة كثيرة محظورة من اجل الحفاظ على صورة الدولة بذريعة “أمن الدولة”.
نتيجة سياسة الاخفاء هي تقليص حقيقي للقدرة على اجراء بحث تاريخي، واضعاف الحوار العام، السياسي والاكاديمي، وتثبيت رواية موحدة وجزئية على حساب القدرة على معرفة الماضي. عمليا، ارشيفات مركزية في البلاد مغلقة امام الاطلاع – فعليا أو قانونيا – وحراس عتبتها يحرصون على توثيق نوعي يعرض روايات مختلفة لـ “التاريخ الرسمي” التي تربينا عليها، لن يفتح للاطلاع عليه. اوري مسغاف تساءل في مقال رده – أين معهد عكفوت الفلسطيني. هو لا يفهم أن الارشيفات في البلاد لا تخفي الماضي عن الفلسطينيين، هؤلاء يعرفون جيدا الطرد والقمع؛ ارشيفات تخفي الماضي في المقام الاول عنا، عن الجانب اليهودي.
سياسة الاخفاء ليست قضية يمين أو يسار، يهود وعرب، ليبراليين ومحافظين، اشكناز أو شرقيين – هذه مسألة تقف في صلب الديمقراطية الاسرائيلية. يجدر التحاور بشأن الماضي. ولكن من اجل ذلك يجب أن يكون هناك توثيق نوعي. في هذه الاثناء الدولة، مثل الام الجيدة، تروي لاولادها (مواطنيها) قصة تساعدهم كي يناموا في الليل، وعلى الاقل لا تثير لديهم اسئلة كثيرة جدا.