هآرتس: في غزة قواعد الحفاظ على الطبيعية تم رميها منذ 7 اكتوبر
هآرتس 5/12/2024، حاييم هار زهاف: في غزة قواعد الحفاظ على الطبيعية تم رميها منذ 7 اكتوبر
في منتصف أيلول حاول خمسة شباب فلسطينيين اجتياز المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي من ناحل عوز في منطقة النصيرات شمالا باتجاه مدينة غزة. هذه المنطقة اخذت منذ فترة اسم “ممر نتساريم”، على اسم المستوطنة التي كانت هناك في السابق، أو “ممر بئيري”، مثلما يحاولون في الجيش الإسرائيلي جعل الناس يسمونها به. ولكن هذا لا يعتبر ممر، لأنه خلافا للممر حسب تعريفه في القاموس، هذه المنطقة لا تربط بين أي مكان وآخر. فهي على شكل مستطيل بمساحة 50 كم مربع، التي يسيطر الجيش الإسرائيلي عليها وتربط بين إسرائيل من الشرق ومدينة غزة من الشمال والنصيرات والبريج من الجنوب والبحر المتوسط من الغرب.
منذ بداية الحرب اعتبر الجيش الإسرائيلي وادي غزة، الوادي الذي تمر فيه مياه المجاري والنفاقات، كخط مسموح للفلسطينيين أن يكون جنوبه فقط. في مرحلة العملية البرية في شمال القطاع، التي بدأت بعد المذبحة في أكتوبر واستمرت حتى نهاية 2023 أمر الجيش الإسرائيلي مرة تلو الأخرى الغزيين بالتحرك نحو الوادي وما بعده. معظم السكان استجابوا للتحذيرات وهربوا نحو الجنوب، وتركوا هذه المنطقة خالية في معظمه من السكان. في الواقع التقديرات تتحدث عن 100 – 300 ألف شخص، الذين بقوا في شمال القطاع، لكن هذه اقلية صغيرة مقابل عدد السكان الذين كانوا هناك قبل 7 أكتوبر.
الفلسطينيون الخمسة عرفوا كل ذلك. هم بدأوا في السير شمالا وبسرعة تم اعتقالهم على يد قوات كتيبة الاحتياط التي اخدم فيها، التي وصلت الى المنطقة قبل بضعة أيام من ذلك. وقد تم تكبيلهم وبعد عصب عيونهم تم احضارهم الى موقع عسكري كبير. بعد فترة قصيرة وصل رجال وحدة 504 من اجل التحقيق معهم، وهم يحرصون على الفصل بينهم اثناء التحقيق وبعده.
التحقيق لم يظهر بأنه عنيف، وبين حين وآخر حراس كتيبة الاحتياط أعطوا الماء للمعتقلين. المعاملة، كما يبدو، كانت محترمة بقدر ما يسمح به الوضع. قبل المساء كان على المحققين التقرير أي واحد منهم سيتم اطلاق سراحه، هذا اذا كانت حاجة لذلك، ومن سيتم نقله للتحقيق معه في البلاد. “يبدو أنكم ستكونون هنا فقط لبضعة أيام”، قال لي أحد المحققين عندما سألته عن القرار وكيف يجب علينا تنفيذ الافراج عن هؤلاء الذين لا حاجة الى الاستمرار في التحقيق معهم. وعندما سألته كيف يعرف بأننا جدد ابتسم وقال: “لأنكم حتى الآن تجلبون أسرى”.
حياة الانسان في قطاع غزة تساوي اقل من حياة آلاف الكلاب الضالة التي تتجول هنا وتبحث عن الطعام. في حين أنه يوجد أمر واضح يحظر اطلاق النار على الكلاب، إلا اذا كان هناك خطر حقيقي على حياة الجندي عندما يغرس الكلب انيابه في جسده، فانه مسموح اطلاق النار على الناس بدون قيود حقيقية، باستثناء حدود الاخلاق الشخصية للجندي الذي يحمل السلاح.
لقد مرت 29 سنة على تجندي للجيش الإسرائيلي ودراسة الوثيقة التي تسمى “قيم الجيش الإسرائيلي”، والتي تم استبدالها بعد ذلك بـ “روح الجيش الإسرائيلي”، وفيما بعد “المدونة الأخلاقية لمكافحة الإرهاب”. الجميع حاولوا إيجاد اطار كنوع من النظام الداخلي للتعليمات والقواعد – الذي يسمح للجندي بالحفاظ على المعيارية اثناء تنفيذ المهمة. كل ذلك تم رميها منذ 7 أكتوبر، أي أنها رسميا ما زالت سارية المفعول، لكن عمليا كل شخص يفعل ما يروق له.
المهمة في قطاع نتساريم سهلة. نحن نوجد هناك لأننا موجودون هناك. ولا أحد يعرف كيف يشرح لنا حقا ما الذي يساعد فيه وجودنا هناك. الجيش الإسرائيلي قام ببناء مواقع كثيرة في هذا القاطع، معظمها داخل مواقع (الاسم المغسول للبيوت: هذا اذا قمنا بتسمية بيت عائلة باسم “أتار”، فانه يسهل على البوصلة الأخلاقية الداخلية الموافقة على استخدامه أو هدمه). وبعضها مواقع كبيرة التي هي حتى متصلة بالمياه التي تأتي في أنبوب من دولة إسرائيل.
في السابق قالوا في الحكومة بأنهم يسيطرون على هذه المنطقة لاستخدامها كورقة مساومة في صفقة اطلاق سراح المخطوفين. في هذا الوضع الجميع سيوافقون، حيث أن الامر يدور عن مهمة قيمية لا مثيل لها. أنا كنت ساوافق على التواجد هنا أربعة اشهر أخرى دون الذهاب الى البيت لو أنني عرفت بأنني بذلك اقرب موعد تحرير المخطوفين. ولكن في نهاية شهر آب قرر الكابنت أن محور فيلادلفيا ومنطقة نتساريم لن يتم استخدامهما كورقة مساومة في صفقة التبادل، وهكذا فانه تمت إزالة القاعدة الأخلاقية للاحتفاظ بهذه المنطقة.
عندما وصلنا الى المنطقة سمعنا محاضرة قائد الفرقة بعد بضعة ايام على قرار الكابنت. وقد قال إن المهمة هي قيمية واستراتيجية. قال ذلك ولكنه لم يشرح. المتشائمون سيقولون بأنه لم يرغب في القول بأن إسرائيل تخطط لطرد جميع الفلسطينيين من شمال القطاع وإقامة المستوطنات هناك. وحسب تقديري هو ببساطة كان محرج، مثلنا جميعنا، لأن قرار الكابنت أدى الى أن مهمة الاستيلاء على المنطقة لم تعد تخدم أي هدف، الذي يمكن الموافقة عليه أو حتى تفسيره.
في غضون ذلك، الى حين اتضاح الهدف يجب فعل شيء. اذا ما الذي نفعله؟ تدمير ممنهج للمباني. في منطقة “الممر” لا يمكن العثور على مبنى يزيد ارتفاعه عن نصف متر، باستثناء المباني التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي. جميعها تم تفجيرها، باستثناء الجامعة الإسلامية التي أمر براك حيرام بتفجيرها، وفقط الاطار الخارجي للمبنى ما زال قائما. وبقدر معين، المستشفى التركي الذي ما زال قائما رغم الاضرار الكبيرة بسبب القصف، كل ما تبقى لم يعد موجود. في المكان الذي كانت فيه في السابق احياء وبيوت توجد الآن الرمال والغبار. اكوام الرمال تغطي الآن بالتدريج القليل من الاسمنت الذي لم يتفجر. وبعد بضعة اشهر فان لا أحد سيمكنه التخمين بأنه كانت هنا عائلات، شوارع، سيارات، مدارس، حقول ودفيئات. فقط القليل من النباتات والأشجار التي تصمم على البقاء نجحت بشكل معين في الصمود بعد تفجير البيوت وتجاوزت كفة الجرافات.
معظم “العمل” تم تنفيذه قبل أن نصل الى المكان. مهمتنا، التي من غير الواضح من قررها، هي تدمير المزيد من البيوت وراء وادي غزة: المكان الذي تم أمر الغزيين باجتيازه. الهدف الرسمي هو ابعاد خط التماس، لكن لا أحد يعرف أن يشرح لنا لماذا. لأن الفلسطينيين بحاجة الى مكان يكونون فيه، والى هناك طلب منهم الجيش الإسرائيلي الانتقال. وحتى الآن نحن نقوم بتفجير بيوتهم.
الطريقة سهلة جدا: نقوم باقتحام منطقة، نتأكد من أنها خالية من الناس (وإلا، نطرد السكان)، ونقوم بوضع المواد المتفجرة. في وقت ما كان سائدا استخدام مواد متفجرة تقنية، لكن في كانون الثاني – شباط قمنا باستخدام الغام قديمة، والآن هم يستخدمون كل أنواع المواد الكيميائية من اجل احداث الانفجار المطلوب. هذا يعكس اكثر من أي شيء آخر الضرورة: مصانع السلاح لم تعد تلبي الطلب، وفي القطاع ما زال يوجد الكثير من المباني لتفجيرها.
وادي غزة ليس “الحدود بين المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي وبين باقي القطاع. هذه الحدود توجد جنوبه، ولا أحد يكشف للفلسطينيين الخط الأحمر الذي يحظر عليهم تجاوزه، وهم ينتقلون الى الشمال باتجاه الممر. هم يكتشفون ذلك بالطريقة الصعبة: اطلاق النار عليهم وقتلهم عندما يقتربون الخط الوهمي الذي قرره الجيش الإسرائيلي، الذي يتغير طوال الوقت. هذا الخط تم رسمه على الأرض، وقائد المنطقة يجب أن يقرر هل يتم تنفيذ اطلاق النار من اجل الابعاد (اطلاق النار قربهم كي يفهموا أن من يريد النجاة بحياته يجب عليه الابتعاد)، أو السماح لهم بالاقتراب وبعد ذلك اطلاق النار عليهم من اجل قتلهم”.
سواء كانوا من أعضاء حماس، الذين جاءوا لجمع المعلومات الاستخبارية، أو جاءوا لاخراج أشياء من بيوتهم، أو أنهم كانوا في المكان غير الصحيح وفي الوقت غير الصحيح، في اللحظة التي فيها رصاصة القناص أو القنبلة التي القيت من حوامة، أو قذيفة مدفعية اطلقت من بعيد، اصابتهم، فانهم يتحولون الى مخربين بشكل رسمي ويدخلون الى الاحصائيات التي ستظهر في اليوم التالي في بيان المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي، التي ستمجد بطولة الجنود الذين قلصوا عدد المخربين في القطاع.
ذات يوم تم تسلم انذار عام، يقول بأنه ربما في مبنى في جنوب وادي غزة، جنوب الممر، ستتركز في المستقبل نقطة مراقبة لحماس. ليس لأنه تمت رؤية أحد وهو يراقب، أو أن أحدا سمع عن شخص يقوم بالمراقبة، أو لأن أي أحد عرف شيئا – هذه كانت معلومات وصلت من تحليل ميداني أو من مكالمة هاتفية سمعت بتنصت بشكل معين. نحن لا نعرف، وفي الأصل هذا ليس من مستوانا من ناحية الاطلاع على المعلومات الاستخبارية.
ملاحظة أخيرة. يوجد كثيرون يكتبون في الشبكات الاجتماعية: “ارفضوا” أو “لا توافقوا” أو “اخرجوا من هناك مع كل الكتيبة”، هذه هراءات. الحرب هي منطقة رمادية جدا. قليلة هي الأوضاع التي فيها تكون مبررة كليا، مثلما في 7 أكتوبر 2023 عندما كان مشكوك فيه أن يكون هناك إسرائيليون لم يعتقدوا أنه يجب مهاجمة قطاع غزة.
قليلة هي الأوضاع أيضا التي فيها الحرب غير مبررة كليا، مثل الحالة التي أعطي فيها أمر اطلاق النار وقتل شخص غير مسلح وهو يرفع الراية البيضاء. كل ما بقي هو رمادي. أحيانا رمادي فاتح واحيانا أخرى رمادي قاتم أو رمادي. عندها أمام الرمادي يقف الأصدقاء الذين لا تريد تركهم ليسحقوا في الموقع، الصداقة والاخوة، أو التخلي عن الإخلاص للوحدة والأصدقاء والجيش والدولة. بدلا من تقديم المواعظ الأخلاقية لجنود الاحتياط بأن يتظاهروا من اجلكم، يجب عليكم أنتم التظاهر.