هآرتس: عشرون سنة على موت عرفات. في حلمه رأى غصن الزيتون الى جانب تصفية اسرائيل
هآرتس 19/11/2024، آفي غيل: عشرون سنة على موت عرفات. في حلمه رأى غصن الزيتون الى جانب تصفية اسرائيل
في هذا الاسبوع مرت 20 سنة على موت عرفات. في الذاكرة الوطنية الاسرائيلية اسمه نقش الى الابد كارهابي متعطش للدماء. على خلفية معرفتي بهذا الشخص يطاردني سؤال نظري كما يبدو وهو كيف كان التاريخ سيذكر عرفات لو أنه عند عودته من احتفال التوقيع على اتفاق اوسلو في 13 ايلول 1993 تم قتله من قبل الشبيه الفلسطيني بيغئال عمير؟.
ليس من المستبعد تخيل مغتال فلسطيني قرر بأن عرفات يستحق الموت. لأنه باعترافه باسرائيل خان ابناء شعبه وحقهم في العودة الى وطنهم وتحريره كليا من الاحتلال اليهودي. اذا كان هذا الشخص المغتال المتخيل قد نجح في مهمته فان عرفات كان سينضم الى قائمة فلسطينيين آخرين دفعوا حياتهم لأنهم تجرأوا على السير في مسار المصالحة والسلام. رصاصة واحدة كانت ستحول رأسا على عقب التفسير الدارج لنظرية عرفات. المحللون الضليعون مرة اخرى لم يكونوا سيشرحون باللهجة الواثقة التي تميزهم بأن عرفات توجه الى طريق اوسلو من خلال نيته خداع اسرائيل، وأنه عمل بناء على “نظرية المراحل” التي بواسطتها خطط لتصفية الكيان الصهيوني.
رجال المخابرات يتمسكون بشكل عام باساليب تحليل تنسب العقلانية والشمولية للاعبين في الساحة التي عليهم تفسيرها. بالنسبة لهم فانه تحت كوفية عرفات كان يوجد حاسوب متقدم، لم يتوقف عن القيام بعمليات ذكرة تؤدي الى هدف واحد ووحيد وهو تصفية اسرائيل. لقد قام باجراء حساب دقيق للربح والخسارة، ووفقا لذلك رفع وخفض بدقة اللهب الذي اشعله.
انطباعي من عرفات مختلف. ففي اللقاءات التي شاركت فيها تبين أن هذا الشخص هو طاغية، مصاب بجنون العظمة وبعيد عن الاستقرار العقلي. هو في نظري قادر على أن يحلم في نفس الليلة حلمين مختلفين كليا. في واحد منهما يوقع على اتفاق دائم مع اسرائيل ويقف على المنصة في اوسلو، حيث غصن الزيتون في يده، من اجل الحصول على جائزة نوبل. وفي الثاني هو يرمي كل الاسرائيليين في البحر ويعيد ابناء شعبه الى وطنهم الخالي من اليهود.
عرفات كان يفحص خطته باستمرار وبدون توقف، وبدون قلق من التناقض بين هذين الحلمين. شخصيته هي حبة جوز صلبة يصعب على المحللين كسرها، الذين يصممون على فرض منطقهم على شخص متقلب بعيد عن الاتزان النفسي. هو غير مناسب للنماذج التي تفترض أن الاشخاص الذين يجري تحليلهم توجههم اعتبارات عقلانية (غربية). حسب تقديري بالنسبة له اوسلو عكس مشاعر وتطلعات متناقضة: تنازل تاريخي يمكن شعبه من السيادة وتقرير المصير الى جانب اسرائيل، وايضا مكون في خطة المراحل التي ستؤدي الى تصفيتها. عرفات شعر بالاجلال الذي حظي به من زعماء العالم واعتباره بطل “سلام الشجعان”، وفي نفس الوقت رافقه الشعور بالندم من أن يذكره التاريخ بأنه حطم الحلم الفلسطيني ووقع ضحية مكر الاسرائيليين.
اسرائيل لا تختار الزعماء الذين يقفون امامها. يجب عليها أن تعرف كيفية استخلاص منهم اكبر قدر من اجل الدفع قدما بمصالحها. هل زعيم فلسطيني غير مصاب بجنون العظمة مثل عرفات كان سيوقع على وثائق الاعتراف باسرائيل، التي جاء فيها بأن “م.ت.ف تعترف بحقها في الوجود بسلام وأمن”؟. عرفات قام في اوسلو بانعطافة دراماتيكية. فقد تخلى فعليا عن لاءات الخرطوم الثلاثة (1967): لا للاعتراف، لا للمفاوضات ولا للسلام مع اسرائيل. وتداعيات قراره التاريخي ما زالت تدوي حتى الآن. فقد مهد الطريق امام مبادرة السلام العربية (2002) التي بسذاجتنا تجاهلنا الوعد الذي جاء فيها (المبادرة تمت المصادقة عليها ايضا من قبل منظمة التعاون الاسلامي). باعترافه باسرائيل فان عرفات اعطى الشرعية لعمليات سلام اخرى مثل اتفاق السلام مع الاردن واتفاقات ابراهيم وامكانية التطبيع مع السعودية.
هذه العبرة يجب أن تقف امام ناظرينا لنرى القادم. ورثة الزعيم الفلسطيني الحالي، محمود عباس، يمكن أن يكونوا اشخاص يحملون على اكتافهم صندوق افاعي (مروان البرغوثي وجبريل الرجوب وآخرين)، ولكن اذا لبوا شروطنا في اجراء المفاوضات من اجل التسوية، واذا كان يمكنهم أن يقودوا شعبهم الى مصالحة، عندها يجب أن لا نفوت الفرصة للنقاش معهم. بالتحديد “صندوق الافاعي” هو الذي يعطي الشرعية الشعبية للزعيم الفلسطيني الذي يريد التوصل الى مصالحة مع اسرائيل، والذي هو مصمم على محاربة الذين سيحاولون من ابناء شعبه أن يفشلوا كل اتفاق.
يجب عدم الغرق في وهم أن من نتباحث معهم سيتوقفون عن الاتكاء على احلام الماضي. حلم “خطة المراحل” سيواصل لعب دوره في تهدئة التناقض الذي سيزعجهم – خيانتهم لحلم العودة الى فلسطين الكاملة. يجب علينا استخدام عدد متنوع من الادوات كي نمحو بالتدريج العداء العميق تجاهنا. رسالة الحائط الحديدي “اسرائيل قوية ولا يمكن هزيمتها”، هي شرط حيوي، لكنه غير كاف. نحن بحاجة الى “حائط حديدي ذكي”. يجب اضافة للقوة العسكرية خطوات سياسية، اقتصادية – اجتماعية، تعزز المصلحة الفلسطينية في مواصلة التعاون مع اسرائيل والابتعاد عن العنف ضدها. هذه الخطوات تشمل خطة سياسية موثوقة تؤدي الى الاتفاق الدائم، وتجنب خطوات تخرب امكانية المصالحة (مثل توسيع المستوطنات في المناطق التي يمكن أن تكون تحت السيادة الفلسطينية)، والمساعدة المتواصلة للتطوير الاقتصادي وتحسين جودة الخدمات المقدمة للجمهور الفلسطيني، وخطوات كثيرة تساعد الفلسطينيين على الاقتناع بأن طريق المصالحة والسلام هي طريق مجدية ويفضل عدم التخلي عنها.
ضرورة السير في هذا المسار الصعب للسلام لا تنبع من السعي الساذج وراء ارث الأم تريزا. هذه هي الطريقة الفعلية والوحيدة لمنع الانزلاق الى واقع ثنائي القومية، الذي سيصفي الطابع اليهودي لاسرائيل. اذا كان الهدف هو دولة يهودية وديمقراطية فيجب علينا تقسيم البلاد. ومن اجل ذلك نحن بحاجة الى شريك فلسطيني. حماس وامثالها الذين يعملون على تصفية اسرائيل، سيلتقون في القبضة القاسية التي لا هوادة فيها، لكن المستعدين لانهاء النزاع يعتبرون شركاء جديرين.
عندما سيأتي الوقت الذي سيصافح فيه زعيم اسرائيلي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، سنتذكر أن هذا الشخص هو المسؤول عن قتل وتقطيع جثة الصحافي جمال الخاشقجي. نحن لن ننسى ذلك، لكننا سنصافحه كما صافحنا انور السادات الذي حت قيادته قتل 2700 جندي من جنودنا. في عالمنا المتوحش يجب اتخاذ قرارات مؤلمة جدا من اجل اعطاء اولادنا احتمالية التحرر من نير نزاع دموي. طالما أن افعال الشركاء تخدم اهدافنا، يجب أن لا نرتدع من الاحلام الظلامية التي ما زالت تأتي في كوابيسهم. تحدي سياسة اسرائيل كان وما زال “ايقاظ” عرفات ومن جاءوا بعده، على الحلم الذي يدور في ذهنهم والذي يخدم مصلحة اسرائيل، وعندها التقدم معهم في طريق طويلة نحو هدفنا.
مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook