هآرتس: رفح تمت تسويتها بالأرض ومحيت، لم تعد توجد مدينة كهذه، وهي ليست الوحيدة

هآرتس 13/6/2025، نير حسون، يارون ميخائيلي وآفي شراب: رفح تمت تسويتها بالأرض ومحيت، لم تعد توجد مدينة كهذه، وهي ليست الوحيدة
في جباليا لم يعد هناك بيت أو شجرة أو انسان واحد”، كتب في كانون الأول طبيب من شمال غزة اسمه عز الدين. “لقد تحولت الى منطقة قفراء كبيرة، سكانها تم تهجيرهم بالقوة وبيوتها محيت والحيوانات قتلت. هذه الصورة ستكون الدليل على احدى الفترات الأكثر ظلمة وصعوبة”.
تدمير مخيم اللاجئين جباليا كان رمز، لكن الآن لم يعد الحديث يدور عن حالة خاصة: في العشرين شهر التي مرت منذ 7 أكتوبر دمر الجيش الإسرائيلي أيضا بيت لاهيا وبيت حانون وشرق مدينة غزة وضواحي خانيونس، وفي هذه الاثناء هو يستكمل محو رفح.
في تشرين الأول 2023 مر قمر صناعي فوق سماء رفح وصورها. في الصورة تظهر مدينة كبيرة، فسيفساء من المباني المكتظة، الواح طاقة شمسية، مآذن مساجد، شوارع وميادين، مناطق زراعية وحقول. في بداية الشهر مرة أخرى مر قمر صناعي فوق المدينة، أو للدقة، فوق ما كان ذات يوم مدينة. تقريبا لم يبق أي شيء. في الصورة المحدثة يظهر مسطح ثنائي الابعاد رمادي، مغطى بانقاض البناء، الأغلبية الساحقة من المباني دمرت وسويت بالأرض. الشوارع تمت حراثتها، الدفيئات الكثيرة والحقول اختفت وكأنها لم تكن.
وزير التراث عميحاي الياهو لم يستبعد في بداية الحرب استخدام قنبلة نووية. فعليا، نسبة المباني التي دمرت في رفح وجباليا اعلى مما في هيروشيما وناغازاكي. بشكل عام الدمار في رفح يبرز أيضا مقارنة مع حالات متطرفة اكثر في التاريخ الحديث. فالدمار واسع وممنهج اكثر من الدمار الذي كان في حلب والموصل وسراييفو وكابول. الدمار يذكر بالدمار الكبير في مدينة بحمط في أوكرانيا، لكن عدد سكانها كان تقريبا ربع سكان رفح.
275 ألف شخص كانوا يعيشون في مدينة رفح الكبرى عشية الحرب، وهو عدد يساوي عدد سكان حيفا. في مخيم جباليا كان يعيش 56 الف شخص، مثل عدد سكان يفنه. في بيت لاهيا كان يعيش 108 آلاف شخص مثلما في هرتسليا، وبيت حانون كانت تشكل بيت لـ 62 ألف شخص مثلما هي الحال في جفعتايم، وفي عبسان الكبرى، احد احياء خانيونس، التي كانت ولم تعد موجودة، كان يعيش 30 ألف شخص تقريبا مثلما في عراد. وفي حي قريب، بني سهيلة، كان يعيش 46 الف شخص مثلما في كرمئيل. كل هذه محيت.
هذه فقط البلدات التي دمرت بالكامل أو في معظمها، الجيش الإسرائيلي دمر وسوى بالأرض احياء كاملة في المدن الكبيرة، غزة وخانيونس. هكذا مثلا الشجاعية، الحي الشرقي الأكبر في غزة والذي تم محوه تماما. بالاجمال تم تدمير أو تضررت ثلثي المباني في القطاع، 147 ألف مبنى من بين تقريبا ربع مليون مبنى.
تقريبا 90 الف مبنى، أي اكثر من ثلث مباني القطاع، تم تدميرها او تعرضت لتدمير شديد. إضافة الى 52 الف مبنى تعرضت لاضرار متوسطة، هكذا نحن نتحدث عن اكثر من 50 في المئة من المباني. حسب الأمم المتحدة فان هناك إشارات على وجود اضرار لـ 33 الف مبنى آخر. ولكن يصعب تقدير مستوى الضرر فيها. هذه البيانات التي تجمع من قبل مركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة صحيحة حتى شهر نيسان. الرقم الإجمالي للمباني التي تضررت حسب إحصاءات الأمم المتحدة تشبه التقديرات التي تظهر في تحليلات كوري شاعر وجايمون فان بانهوك، الباحثان في جامعة اورغون التي تتابع باستمرار الدمار في القطاع.
الى جانب المباني السكنية، الجيش الإسرائيلي دمر مستشفيات ومنشآت للبنى التحتية ومصانع ومساجد وكنائس وأسواق ومراكز تجارية. خلال الحرب زرع الجيش الدمار في 2300 مؤسسة تعليمية، والآن 501 مدرسة من بين 564 مدرسة في القطاع هي في حالة تقتضي إعادة بناءها من جديد أو ترميمها. 81 في المئة من الشوارع دمرت أو تضررت. جزء كبير من شبكة الكهرباء دمر، وكذلك أيضا انابيب المياه والمجاري، والمنشآت الزراعية والحظائر ومزارع الدجاج ومرافيء الصيد. حسب وكالة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة فان عدد مزارع الدجاج التي تنتج البيض في القطاع انخفض 99 في المئة، وعدد الابقار انخفض 94 في المئة، وكمية الأسماك التي يتم اصطيادها انخفضت 93 في المئة.
ليس اقل من 50 مليون طن من انقاض المباني موزعة الآن في القطاع، والأمم المتحدة تقدر ان عملية اخلاءها ستستمر لعقدين. الدمار كبير جدا وممنهج، والذي يصعب تخيل عودة حياة طبيعية في المستقبل المنظور.
في هذه الاثناء اكثر من مليون مواطن يتجمعون في مدينة الخيام الضخمة التي أقيمت في المواصي، على طول الشاطيء وغرب مدينة غزة. مؤخرا سجل سرب آخر من اللاجئين الذاهبين الى المنطقة المكتظة أصلا، الى درجة ان الخيام توضع على ارصفة قوارب الصيد ومكبات النفايات وبين الأنقاض. هم يعيشون بدون مجاري ومياه وكهرباء ويغرقون في البعوض ويفتقرون الى القدرة على طهي المساعدات القليلة التي تقدم لهم، والجوع واضح في كل زاوية.
خيال الدمار يوجد في كل شيء. في العشرين شهر من الحرب سجلت في عشرات آلاف المرات في الشبكة نداءات لإسرائيليين يطالبون بتسوية غزة وتدميرها أو تخريبها. وقد كرر الوزراء وأعضاء الحكومة وأعضاء الكنيست والصحافيين المؤثرين دعوتهم مرارا وتكرارا للتدمير. وقد ساد مؤخرا تعبير جديد في أوساط اليمين وهو “زربيب غزة” (هدم غزة ) نسبة للحاخام ابراهام زربيب، القاضي في المحاكم الدينية في تل ابيب واريئيل، وهو جندي احتياط في وحدة الهندسة في لواء جفعاتي. زربيب تفاخر عدة مرات في مقابلات في القناة 14 بالدمار الذي يتسبب به هو واصدقاءه بواسطة جرافات “دي 9”. “نحن بدأنا بهدم المباني التي تتكون من 5، 6، 7 طوابق. هذه الطريقة تطورت وهي تنجح”، قال.
يمكن تقسيم الدمار الذي يسببه الجيش الإسرائيلي في القطاع الى خمس موجات تدمير. الموجة الأولى نفذها سلاح الجو في وقت قريب بعد 7 أكتوبر. في الأسبوع الأول للحرب قام الجيش الإسرائيلي بالقاء 6 آلاف قنبلة على غزة، حملة جعلت هجوم الجيش الأمريكي على داعش تبهت. الدمار رافقته دعوات تشجيع لاشخاص هامين في الجمهور الإسرائيلي: “انا لا انام بشكل جيد بدون رؤية بيوت تنهار في غزة”، قال في كانون الأول 2023 مذيع في القناة 14، شمعون ريكلين. “ماذا افعل، المزيد والمزيد من البيوت، المزيد من الأبراج، حتى لا يكون لديهم مكان ليرجعوا اليه”.
الموجة الثانية انطلقت في بداية 2024 في الوقت الذي اخرج فيه الجيش الى حيز التنفيذ عملية إقامة منطقة عازلة عرضها كيلومتر حول كل القطاع. الاف المباني دمرت في حينه، في موازاة التمترس في ممر نتساريم، الذي توسع بالتدريج (المناطق التي دمرت حوله تشكل 10 في المئة من مساحة القطاع تقريبا). في هذه المرحلة جرافات ومواد متفجرة حلت محل سلاح الجو كادوات أساسية للتدمير.
الامر المفاجيء حقا هو السرعة التي اصبح فيها كل ذلك طبيعي ومنطقي”، كتب جندي الاحتياط يوفال كيتف عن الخدمة في ممر نتساريم. “بعد بضع ساعات تجد نفسك تحاول بالقوة التاثر من ابعاد الدمار، وتقول لنفسك جمل مثل: أي شيء هستيري هذا. ولكن الحقيقة هي انهم يتعودون على ذلك بسرعة كبيرة. هذا الامر اصبح مبتذل”.
الموجة الثالثة في تدمير القطاع انطلقت في الهجوم على رفح قبل سنة تقريبا. في حينه بدأ الجيش الإسرائيلي في التمترس وتوسيع محور فيلادلفيا على طول الحدود بين القطاع ومصر. في هذه المرحلة طور الجيش أسلوب دمار جديد وناجع – حاملات جنود مصفحة انتحارية. وهي حاملات جنود مصفحة قديمة من نوع زلدا تم وضع كميات كبيرة من المواد المتفجرة فيها وتمت قيادتها بواسطة منظومة تحكم من بعيد باتجاه مبان استهدف تدميرها. بهذه الطريقة تم تدمير مئات المباني في القطاع، حيث أصوات الانفجارات سمعت من تل ابيب.
الموجة الرابعة، قبل نهاية السنة الماضية، كانت الدمار الذي تسبب به الجيش الإسرائيلي لمدن شمال القطاع، بيت لاهيا، بيت حانون ومخيم جباليا للاجئين. في نهاية كانون الأول انتهى هذا الفصل حيث مدير مستشفى كمال عدوان في شمال القطاع، الدكتور حسام أبو صفية، قام بتسليم نفسه لقوات الجيش الإسرائيلي. التوثيق الذي ظهر فيه وهو يتقدم من الجنود وحوله توجد جهنم، خلف اثر عميق في ارجاء العالم، وأوضح بان الجيش الإسرائيلي يخلف وراءه انقاض.
في كانون الثاني الماضي، عند الإعلان عن وقف اطلاق النار، توقفت آلة التدمير. في نفس الوقت ولدت في غزة موضة تك تك جارفة، مئات آلاف المواطنين عادوا الى بيوتهم، وكثيرون صوروا انفسهم وهم يقومون باخلاء الأنقاض ويرتبون لانفسهم فراغ سكني صغير بين اكوام الدمار، التي كانت ذات يوم بيتهم. هذا كان تعبير عن التصميم من جهة، والتطلع الى القليل من العقلانية من جهة أخرى. ولكن هذا لم يستمر لفترة طويلة. ففي 18 آذار خرقت إسرائيل وقف اطلاق النار عندما هاجمت في الليل وازهقت حياة 300 امرأة وطفل، وبعد مرور شهرين تقريبا انطلق الجيش الإسرائيلي في عملية “عربات جدعون”. تحت قيادة رئيس الأركان الجديد ايال زمير فان زرع الدمار اصبح نهج حقيقي. في هذه المرحلة المستمرة حتى الآن يستخدمون مقاولين خاصين ويدفعون لهم حسب عدد المباني التي يقومون بتسويتها.
نحن سنعمل في مناطق أخرى وسندمر البنى التحتية”، اعلن زمير قبل العملية. “فوق وتحت الأرض”. الصحافي عميت سيغل اعلن بأنه “للمرة الأولى الحديث يدور عن تدمير كل البنى التحتية فوق الأرض”. قبل نصف سنة كتب سيغل في اعقاب زيارة في جباليا بأن “الصور لا تصف ابعاد الدمار. في شمال القطاع بقي بالأساس قطع اسمنتية ورمال واكوام قمامة كبيرة واسراب من الكلاب الجائعة”.
كلما مر الوقت وصورة الدمار الشديد اتضحت، بدا وكأنه يوجد لرئيس الحكومة بالتحديد خطة لليوم التالي – طرد جماعي لسكان القطاع. نتنياهو يتحدث عن ذلك علنا: سندفع الغزيين نحو الجنوب، وسنجد دول توافق على استيعابهم، وفي النهاية معظمهم سيوافقون على الهجرة الطوعية. “نحن ندمر المزيد من البيوت”، قال رئيس الحكومة في لجنة الخارجية والامن التابعة للكنيست في تقرير في “معاريف”. “لن يكون لهم مكان يعودون اليه”.
الإشارة أعطيت في 4 شباط عندما تحدث الرئيس الأمريكي ترامب امام العدسات عن محو مدن القطاع: “نحن سنسيطر على غزة وسنسويها بالأرض. سنزيل القنابل والبيوت المدمرة. هذه فكرة رائعة”. منذ تلك اللحظة تحول الخيال الى خطة عمل. هكذا وصفها وزير المالية وعضو مجلس الوزراء بتسلئيل سموتريتش: “لا مزيد من الاقتحامات. نحن سنحتل وسنبقى، حتى ندمر حماس. في الطريق سندمر ما بقي من القطاع. الجيش الإسرائيلي سينقل السكان من مناطق القتال ولن يوفر أي جهد في ذلك. السكان سيصلون الى جنوب القطاع ومن هناك، باذن الله، الى دول أخرى. هذا تغيير تاريخي، ليس اقل من ذلك. هذا هو الأساس”.
في أوساط كثيرة الان يرون فيما يحدث في غزة إشارة الى انهيار النظام الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية. القانونية ليمور يهودا تعتقد أنه ما زال الوقت مبكر لليأس من المنظومة الدولية: “نحن بلا شك في وضع فيه النظام يتقوض، وهناك احتقار لكل معايير القضاء الدولي والعالم لا يفعل أي شيء. من جهة أخرى يجب تذكر انه أيضا في البوسنة هذا الامر استغرق ثلاث سنوات ونصف، وفي النهاية هذه الحرب الملعونة ستنتهي، والاوهام العبثية ستتحطم، وسنصل الى نفس نقطة البداية. بين النهر والبحر يوجد شعبان، ولا احد منهما سيختفي، والاختيار هو العيش معا أو الموت معا. في هذه الاثناء كل شخص يجب ان يسال نفسه كيف سيتوقف عن المشاركة في آلة التدمير”.